مقالات وآراء سياسية

المسكوت عنه في علاقة الدين بالدولة وهيكلة القوات المسلحة (1)

علي مالك عثمان

الحروب والنزاعات الأهلية الداخلية التي شهدها السودان في بعض أجزائه منذ استقلاله عن المستعمر البريطاني وحتى يومنا هذا قامت في تقديري بسبب عاملين أساسيين، الأول تباين وتَـنَـوُّع ثقافي بين أقاليم البلد الواحد، والثاني عامل دفع غير ذاتي لهذا التباين والتنوع، إما بواسطة المستعمر البريطاني (بسوء نية)، أو الحكومات المتعاقبة التي حكمت البلاد بعد الاستقلال، نتيجة جهلها بطبيعة الصراعات وسوء إدارتها لهذا التباين والتنوع (حكومات ما قبل الإنقاذ)، أو نتيجة لمحاولة فرض ثقافة وأيدلوجيا معينة على أقاليم البلاد المتباينة والمتمايزة مع الثقافة العربية و/أو الإسلامية (حكومة الإنقاذ).

التباين الثقافي والعِرْقي موجود في أيِّ بلدٍ في العالم ذا رقعة جغرافية واسعة، لكن يتحوَّل هذا التباين والـتنـوَّع إلى إقتتال وتناحر داخلي – بدلاً عن كونه مصدر ثراء وقوة – بسبب سوء إدارة التنوع، وزيادة حدة الصراع والنفخ في المتناقضات بواسطة القوى الخارجية ذات المصلحة في التأجيج. هذا التباين الثقافي كان واضحاً بين الشمال والجنوب منذ الاستقلال، ولم يكن بتلك الحدة بين الشمال وبقية أقاليم البلاد إلا بعد وصول الإنقاذ للحكم، بعد تنفيذها لسياسات دينية وثقافية ذات هوية إسلامية وعربية (مثل تحويل العملة للدينار بدلاً عن الجنيه)، جعلت كل أقاليم السودان تجد نفسها في الضفة المقابلة لشمال ووسط البلاد. ليأتي بعد ذلك خطئها الذي لا يغتفر والمتمثل في تسليح القبائل العربية (سُمِّيت لاحقاً بالجنجويد) في دارفور لمواجهة القبائل ذات الأصول الأفريقية. الشيء الذي حوَّل مشاكل دارفور من نزاعات قبلية حول الأرض والمرعى، وجرائم للنهب المسلح، إلى حرب إقليم متمرد على سلطة المركز.

هذا المقال ليس بصدد رصد أخطاء الإنقاذ في إدارة ملف الحرب والسلام والصراعات المتوارثة منذ الإستقلال، فهذا مما لا يختلف فيه اثنان، ولكنه يريد لفت النظر لما نجم عن تلكم الأخطاء من تعقيدات تجعل من عملية حل تلك القضايا لكلِّ حكومة لاحقة للإنقاذ عملية معقَّدة وغاية في الصعوبة. حيث اتسعت هوة عدم الثقة بين مكونات الوطن الواحد، وأصبحت جرائم الإنقاذ تُحمَّل مسئوليتها لكل أقاليم الوسط والشمال من قِبل بقية الأقاليم.

لذا في ظني أن التفاوض الحاصل الآن حول قضايا الحرب والسلام سيتمحور في جوهره وبصورة أساسية على مناقشة إدارة التنوع، وإزالة أسباب الهيمنة الثقافية والسياسية لبعض مكونات السودان على حساب المكونات الأخرى، بالإضافة للقضايا الأخرى مثل علاقة الهامش بالمركز وتوزيع السلطة والثروة.

أقاليم الهامش – كما تُسمِّي نفسها – تعتقد أن أبرز عوامل الهيمنة الثقافية لأقاليم الوسط والشمال هو العامل الديني، وأكبر أدوات فرض هيمنته السياسية هي القوات المسلحة. لذا ستكون هاتان القضيتان – علاقة الدين بالدولة وإعادة هيكلة القوات المسلحة – هما العقبتان الكؤودان أمام التوصل لأيِّ اتفاق.

قضية علاقة الدين بالدولة في ظني يجب ألا تكون من القضايا المؤجلة أو المسكوت عنها. ويجب وضع لبنات حلها في هذه الفترة الانتقالية، على الأقل الأساس النظري والفكري لهذا الحل، وألَّا تُرحَّل لما بعد الانتخابات. أُسس هذا الحل لهذه القضية المعقدة تتمثل من وجهة نظري في التالي:

  1. الدولة بالمفهوم الإسلامي في ظني ليس لها دين وإنما الدين للأفراد، لأن المولى عز وجل يحاسب الناس يوم القيامة أفراداً على ما كسبت أيديهم ولا يحاسب الدول، (.. وكلُّهم آتيه يوم القيامة فردا..) (.. كل نفس بما كسبت رهينة..)، …إلخ. والتكاليف في أصلها مخاطبٌ ومطالبٌ بها الأفراد، أما التكاليف التي ينهض بها المجتمع المسلم ككل فلا يمكن تحقيقها إلا بعد نشوء ذلك المجتمع المؤمن، ويكون تحقيقه لها بقدر تطوُّرِه (.. فاتقوا الله ما استطعتم).
  2. الدولة بالمفهوم الإسلامي في ظني يجب أن تكون حاضنة وراعية لكل مكوناتها غضَّ النظر عن أديانهم ومذاهبهم وطوائفهم، وأن تبحث عن القواسم المشتركة الجامعة التي تحقق العيش المشترك دون وصاية أو هيمنة لمجموعة على أخرى، كما هو ذلك واضحٌ في “وثيقة المدينة”.
  3. الفرد المسلم الذي يتعبَّد الله عن خوفٍ وقهرٍ من قِـبل سلطان الدولة، دون قناعةٍ وإيمانٍ راسخـيْن في نفسه بأحقية المولى عز وجل بتلك العبادة، فلن تُـقبل منه يوم القيامة ولا يعتبر مؤمناً. لذا تطبيق الشرائع الإسلامية لا يقوم على الإكراه والقهر، وإنما على القناعة والإيمان. والتديُّن القائم على الإكراه والقهر هو تديُّنٌ مغشوش سرعان ما ينفك عنه صاحبه حال زوال وسيلة القهر والإكراه.
  4. تطبيق مبادئ التَّـديُّن الصحيح بواسطة سلطة الدولة – إن صح هذا التطبيق – في تقديري لا يأتي إلا من قِـبل سلطة حازت على رضى الشعب، وإلَّا كان هذا التطبيق المُدَّعَى وسيلةٌ أخرى للكبت والهيمنة وممارسة الاستبداد والتسلُّط على الشعب. كما أنه لا يجوز شرعاً ولاية قومٍ من قِـبلِ حاكمٍ وهم له كارهون.
  5. جماعات الإسلام السياسي التي صدَّعت رؤوسنا بضرورة تطبيق شرع الله عليها ألا ترضى من الحاكم إلتزامه اللفظي والشكلي فقط بتطبيق الشرع، وإنما يجب محاسبة الحاكم ومسائلته، والتحقُّق من تطبيقه لجوهر وروح الشرع ومبادئه الأساسية، مثل العدل والحرية والمساواة والسلام للجميع، وإلَّا كانت مُعينةً لهذا السلطان على باطله ومتاجرته بالدين.
  6. على دعاة الإسلام السياسي النزول للشارع، وعرض بضاعتهم للجماهير، والإجابة على سؤال كيفية تطبيق الشرع وتنزيله لأرض الواقع في قضايا المجتمع المعقدة والمستجدة، بصورة مُفصَّلةٍ ودقيقة، لا تنفع معها الشعارات والعموميات، والتوضيح للناس لماذا تطبيق الشريعة هو خيرٌ لهم في الداريْن، لا أنْ يركنوا فقط في آليات تطبيق الشرع على عصا الدولة الغليظة، لأنه (لا إكراه في الدين..). فإن نجح الدعاة في هذه المهمة، وكسبوا الشارع لصفهم، واستطاعوا خلق رأْيٍ عامٍّ مؤيِّدٍ لدعوتهم تلك، إنعكس ذلك في الانتخابات القادمة، من خلال تحوُّلِهم لجماعات ضغط (Lobbies) تستطيع فرض أجندتها على المرشحين.
  7. من الآن فصاعداً يجب على الجماهير الصراخ بأعلى صوتها في وجه الحاكم مطالبةً إياه بتطبيق الشريعة في نفسه أولاً قبل سعيه لتطبيقها على الناس. ويكون ذلك بخلق آليات ومؤسسات هدفها مراقبته ومحاسبته على كل صغيرة وكبيرة، ومسائلته بصورة مستمرة “من أين لك هذا؟!”، والتأكُّد من أنه لا يستأثر بالراتب العالي ولا الامتيازات الخاصة دون عامة الناس، وأنه وأسرته وأعضاء حكومته يتعالجون في المستشفيات العامة مثله مثل غمار الناس، وأبنائهم يدرسون في المدارس والجامعات العامة، و.. و.. وهكذا، حتى لا يعيش الحاكم في برجٍ عالٍ، لا يدري بما هو دائر حوله، لِكيْلا تأتي الثورة وتقتلعه وتقذف به في مزابل التاريخ. هذا الكلام ينطبق أيضاً على دعاة الإسلام السياسي، فهم ليسوا معصومين ولا فوق المسائلة، ويجب محاسبتهم على الصغيرة والكبيرة، حتى لا ينطبق عليهم قوله تعالى (أتأمرون الناس بالبر وتنسوْن أنفسكم)، و(يا أيها الذين آمنوا لِمَ تقولون ما لا تفعلون، كبر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون). باختصار زمن تطبيق الشرع من جانب الشعب فقط دون جانب الحكام والدعاة قد ولَّى دون رجعة.
  8. تطبيق مبادئ التَّديُّن الصحيح في تقديري يكون من خلال حركة المجتمع المسلم وتدافعه، ويكون تقديم الإجابات على أسئلة صلاحية مبادئ الدين الإسلامي لكلِّ زمانٍ ومكان من خلال تقـدَّم المجتمع وتطوُّر خبراته ومؤسساته، وليس من خلال كهنوت سلطة دينية تحتكر الفتوى وتُـنصِّب نفسها قـيِّماً على الناس والمجتمع. لأن قضايا المجتمعات في كل مناحي الحياة المتسارعة غدت معقدة ومتشابكة بحيث لا يستطيع أحدٌ أو جماعة مهما كان فكرها وعلمها الإحاطة بكل جوانبها، وها هو طائر هدهدٍ صغير يقول لنبي الله سليمان (..أحطْتُّ بما لم تُحِطْ به وجئـتُك من سبأٍ بنبأٍ يقين)..!!. لذا بالله عليكم يا دعاة الإسلام السياسي تواضعوا، وحاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا غيركم، وكفى سيطرةً على العقول واحتكار لدين الله.

    عليه.. ومن كل ما تقدَّم أرى – وبكل إطمئنان – أن تطبيق شرع الله في المجتمعات ليس مهمة الدولة، وإنما مهمة منظمات المجتمع المسلم وقواه الحيَّة، ويكون ذلكم التطبيق بالحجة والإقناع، وليس القهر والإكراه، لأنه لا إكراه في الدين. وإذا كان من تطبيقٍ للشرع من قِـبل الحاكم، فعلى نفسه وأقربائه وفريق حكومته. ولعمري إنْ هو فَعَلَ ذلك قام شرع الله في المجتمع وانصلحت أحوال الناس دون قوانين أو شعارات أو ضجيج.

    وبهذا الفهم تكون إشكالية علاقة الدين بالدولة من وجهة نظري محلولة، ويمكن تجاوزها بكل سهولةٍ ويسر خلال المفاوضات الجارية حالياً. لكن الإشكالية تأتي عندما تكون هنالك جهة ما تريد استغلال العاطفة الدينية عند الناس من أجل كسبٍ سياسيٍّ، وإرهابٍ للخصوم، وإفلاتٍ من المحاسبة والمسائلة، هنا تكون الطامة وتكون المصيبة.

    بهذا ينتهي هذا الجزء الأول من هذا المقال، والذي خصصناه لمناقشة علاقة الدين بالدولة، من وجهة نظرٍ خاصة ومتواضعة، وليست متخصصة، تدرك جلياً أنها خاضت في المحظور، وفتحت على نفسها عش الدبابير، ولكن عسى الله أن يجعل حكمته في ضعاف خلقه، ولهم فيهم شؤون.. سبحانه.

    في الجزء الثاني بإذن الله نناقش إشكالية إعادة هيكلة القوات المسلحة، وما يجب أن يكون عليه الوضع، أيضاً من خلال وجهة نظرنا المتواضعة، إسهاماً منا في النقاشات الدائرة حالياً.. والله ولي التوفيق.. إنتظرونا.

 

علي مالك عثمان

[email protected]

‫3 تعليقات

  1. مشاكل السودان معروفة لاكن بعض السياسين يحاولو يربطوها بالدين لكسب التعاطف العالمي ودا حصل قبل انفصال الجنوب والهالة الاعلامية الاقصاء والاسلام والعروبة والتهميش لاكن سرعان ما ظهرت الحقيقة بعد شهور فقط وبدت بوادر الخلاف واصبحت من افشل الدول في العالم ولا تسطيع ايجاد شماعة لفشلهم فتبخرت احلام الشعب المسكين

  2. تعظيم سلام لك و ليراعك الرصين يا استاذ علي مالك . و الله دا اجمل و اروع مقال في تحليل اذمه الحكم في السودان و انصف كلمه يقال في حق الوطن و اصدق تفسير لحاله الاحتقان النفاقي لبعض نخب المركز الذين يتخذون من الاسلام مطيه معاربهم نحو الاعتلاء علي السلطه و الثروه دون ان يجفل لهم جفن للدماء التي سالت و ما ذالت بسبب فكرهم الغوغائي المتخلف عن ركب الحداثه و العلم و إيقاعه المتسارع ، كما انها اشجع نصح يصدح و يبادر به رجل من المركز في وقت كان نخب المركز يصحبهم دوما الجبن و الخزلان لابراز الحق خشيه علي مناصبهم التي بنيت علي السكوت عن قول الحق و احقاق العدل .

    هل تعلم يا استاذي انني قد وقفت لقراءه مقالك احتراما لما ذكر لانه بالظبط ما ذكر كان يجيش في صدري و صدر الكثيرين من الثوار المستنيرين المعرضين علي باطل المركز . شكرا لك يا استاذنا لقد أصبت عين الحقيقة و طعنت في الفيل الذي كانوا يتوارون عنه زهاء الستين عاما السابقة من عمر السودان .
    كم كنت اتمني بان تصدر ما تفضلتم به في شكل كتيب تنويري حتي يتم تناوله لدي الناشطين في الشأن السوداني .

  3. مقال موفق جدا استاذي الكريم، و اعتقد اسلوب المقال مفروض يخاطب بيو السياسين في الحكومة الانتقالية للشعب السوداني بدل مفارقت الواقع و اسناح الفرصة لاعداء الثورة للظفر بها عبر تأجيج المشاعر الدينية. و من غير التعقل مخاطبة شعب عاش في كنف الصوفية و التيارات الاسلامية لقرابة عقدين من الزمان بخطاب حداثي بحت و لك ان تعقلي الامور يا قحت.

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..