مقالات سياسية

رفع الدعم كارثة أم خير؟

يوسف السندي

يدور جدل كثيف حول موازنة ٢٠٢٠ التي تعتزم الحكومة الانتقالية إعلانها غدا ، و بالتحديد حول هل يتم رفع الدعم عن بعض الحزم المدعومة و خاصة الوقود ام لا يتم . أزمة الجدل الدائر يكمن في انه تحول عند الكثيرين من جدل علمي اقتصادي إلى جدل ايدولوجي، و من جدل موضوعي إلى صراع سياسي .

لا يمكن باي حال من الأحوال الشك في مقدرات و كفاءة وزير المالية الحالي د ابراهيم البدوي و لا في رئيس مجلس الوزراء د عبدالله حمدوك فكلاهما اقتصاديين بارزين في مجالهما يحملان الخبرة العلمية و العملية الكافية للتفريق بين الأساليب الاقتصادية التي تنفع الوطن و التي تضره ، كما أنهما الآن في موقع تاريخي حساس و خطير ينبني عليه مستقبل البلاد برمتها ، و لذلك لا يمكن الافتراض أنهما سيتهاونان و يذهبان في طريق يقود البلاد إلى التهلكة و الثورة إلى الفشل .

أنصار عدم رفع الدعم بنوا رفضهم على ركيزتين ، الأولى ان حكومة المخلوع طبقت هذه السياسة و فشلت فشلا زريعة بل و قادت إلى ثورة سبتمبر ٢٠١٣ ، و بالتالي تطبيقها الان قد يقود إلى ثورة مضادة لثورة ديسمبر . الركيزة الثانية ان رفع الدعم هو سياسة البنك الدولي ( الرأسمالي ) .

نعم استخدمت حكومة المخلوع سياسة رفع الدعم و لكنها لم توجه بالمقابل أي حزم مساعدة لحماية الشرائح الضعيفة ، و المبالغ التي تم جمعها من رفع الدعم ذهبت لدعم جيوب الكيزان و شركاتهم و مؤسساتهم خارج السودان ، و دونكم تصريح المصرفي و القيادي بالحرية و التغيير محمد عصمت بأن جملة الأموال المنهوبة من قبل الكيزان و الموجودة خارج السودان تبلغ ٦٤ مليار دولار . لذلك لا يمكن استخدام هذه التجربة السيئة التي تمت فيها سرقة الشعب لا إصلاح اقتصاده دليلا على فشل سياسة رفع الدعم ، بل يجب توقع ان تذهب كل الاموال التي ستوفرها سياسة رفع الدعم في حكومة حمدوك إلى جيب المواطن البسيط و لمصلحة الشرائح الضعيفة التي تستحقها او عبر خدمات صحية و تعليمية و زراعية و وظائف و وسائل إنتاج يستفيد منها الفقير و الغني على السواء ، و في هذا خير كثير .

رفض سياسة رفع الدعم فقط لأنها سياسة البنك الدولي فيه تطفيف و غلو ايدولوجي و لا يعبر عن رفض موضوعي ، فمؤسسة البنك الدولي ليست وليدة الامس بل هي مؤسسة قارب عمرها المئة عام ، و هي مؤسسة تتبع للامم المتحدة و لا تتبع لهوى دولة معينة و لا سياسة دولة معينة و تضم في عضويتها اكثر من ١٨٠ دولة ، و لها انجازاتها الضخمة على مستوى مساعدة الاقتصادات العالمية ، نعم حولها ملاحظات شأنها في ذلك شأن اي مؤسسة دولية و لكن هذه الملاحظات لا ترقى لمستوى نسف فوائد و قيمة البنك الدولي و رفض سياساته بالكامل جملة و تفصيلا و بدون حتى الاطلاع عليها و مناقشتها .

نعم هناك دول نهضت بدون ان تعتمد على جراحة سياسة البنك الدولي ، و لكنها استخدمت جراحة من نوع آخر دفع تكلفتها المجتمع و تحملتها الأحزاب السياسية ، فهل مجتمعنا و أحزابنا السياسية قادرة على تحمل ما تحملوه ؟

اول الانواع كانت هي جراحة المصالحة الوطنية ، لا يمكن لدولة ان تنهض لوحدها اعتمادا على مصادرها و كوادرها البشرية اذا لم تصل إلى مصالحة وطنية سياسية و إجتماعية عميقة الجذور تنهي كل أشكال الخلافات السالبة و المكبلة للاقتصاد من حرب و إقصاء و عزلة ، و تقود لتوحيد الشعب معا في صف واحد لمواجهة انهيار الاقتصاد بزيادة العمل و الإنتاج و الاعتماد على الذات ، فهل نحن مستعدون لمصالحة وطنية من هذا القبيل ؟ مصالحة تضم ضحايا دارفور و ضحايا ثورة ديسمبر و ضحايا فض الاعتصام و الكيزان و الدعم السريع و جهاز الأمن و الإسلاميين و اليساريين و أحزاب الوسط في بوتقة واحدة ؟ هل هذه المصالحة ممكنة و هل العفو و التجاوز ممكن ؟ اذا كان هذا ممكنا فيمكن الحديث عن الجدوى الاقتصادية لعدم رفع الدعم و التدليل على قدرة وحدة الشعب على تجاوز كل النكسات و المضي قدما إلى الأمام.

النوع الثاني هو جراحة تجاوز الاختلافات بين الاحزاب السياسية ، في تجربة ماليزيا كما قال مهاتير محمد توحدت الأحزاب السياسية و تناست خلافاتها لانها كانت أمام خيارين ، مواصلة الصراع و ضياع ماليزيا او تجاوز الخلافات و النهوض بماليزيا ، و قد اتفقوا على تجاوز الخلافات و عبروا بماليزيا بدون مساعدة من البنك الدولي ، فهل أحزابنا قادرة على تجاوز خلافاتها بهذا الشكل؟ اذا استطاعت أحزابنا السياسية من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار تناسي خلافاتها و الجلوس معا في طاولة واحدة و العمل كفريق واحد فإن الحديث ممكن جدا عن الجدوى الاقتصادية لعدم رفع الدعم ، و لكن هذه مهمة عسيرة جدا ان لم تكن مستحيلة .

بناءا على مشاهد الواقع ، من غير المنظور في المستقبل القريب إجراء مصالحة شاملة و ليس متوقع تناسي جميع الأحزاب السياسية لخلافاتها و وحدتها خلف نهضة الوطن ، لذلك ليس أمام حمدوك و البدوي الا السير في خط الجراحة الضرورية للنهضة عبر اعتماد حزمة رفع الدعم تدريجيا مع توفير ما يقلل صدمة هذا الإجراء على الشرائح الضعيفة .

لا نطمع من أنصار عدم رفع الدعم تجاوز نظرتهم الايدولوجية تجاه البنك الدولي ، و لا قيادة مصالحة وطنية عميقة ، و لا توحيد الأحزاب السياسية بمختلف ميولها و توجهاتها الفكرية ، و لكننا نطمع ان يثقوا في حمدوك و البدوي ، أن يعطوهما الفرصة لخوض هذا التحدي ، فالإجماع الشعبي الذي يحظى به حمدوك و حكومته سيوفر الغطاء اللازم لتجاوز كل مضاعفات هذه العملية الجراحية المعقدة و اللازمة لنهضة الوطن .

يوسف السندي
[email protected]

تعليق واحد

  1. كنت اتمنى ان يكون الاخ دكتور يوسف السندى حصيف فيما يتعلق بلالموال المنهوبة التى ذكرها احد قادة قحت احسب كلها اباطيل فى اباطيل بالله عليكم كيف يكونة هنالك 64 مليار دولار منهوبة كلام لا يصدقه العقل من اين جاءت هذه الاموال المنهوبة وانتم تدركون تماما ان السودان محاصر منذ اكثر من 20 عاما نعم هنالك فساد لناس الانقاذ ولكن ليس بتلك المبالغ التى يتحدثون عنها كل تقديرات خاطئة لا يسندها واقع لقد اضطلعت على تقرير خبير اقتصادى لرجع لسجلات صندوق النقد الدولى وذكر ان عائدات البترول السودانى منذ اكتشافة وحتى انفصال الجنوب لا يتعدى نصيب الحكومة 25ى مليار دولار لذلك الكذب وايهام الناس بهذه الارقام ستضح لاحقا وسيعرف الناس مدى كذب الشويعيون وغيرهم فيما يتداولونه من ارقام

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..