مقالات وآراء سياسية

متاهة التوفيق ما بين الدّين والعلمانية فى سبيل تحقيق التعايش السّلمي

عبدالرحمن صالح احمد (ابو عفيف)

العَلمانية هى إستراتيجية تكيّفية يتّخذها دائماً رواد التغيير والقادة الجُدد كخيار عريض  لتلافى و تجاوزالعقبات التى تعرقل مسيرة الشعوب فى شئونها الأجتماعية و السياسية, ظهرت العلمانية فى أوروبا كنتيجة حتمية لسوء إستخدام الدين المسيحى بواسطة الكنيسة و إستغلاله فى التسلط على الشعب و الوصول إلى الأهداف الخاصة للنخبة الحاكمة, أقامت الكنيسة محاكم التفتيش لمحاكمة أهلالعلمو تصفيتهم، مثل كوبر نيكوس االذىاثبت دوران الارض حول الشمس.و نتيجة للإستغلال السيىء للدين بواسطة الكنيسة,أشتعلت حرب الثلاثين عاماً التىراحضحيتها ثلثا الشعب الأوروبى فى بعض المقاطعات  حتى شارف المجتمع الأوربى على الإنقراض فى الفترة ( 1618م- 1648 م) , و كان صراعاً دينياً من الدرجة الأولى, قامت الثورة الأوروبية  كخيار شعبى لمعالجة تلك المِحَن و التراجيديا عن طريق فك الإرتباط بالدين كأستراجية تكيفية لإبعاد تجار الدين عن المؤسسة السياسية  التى فيها تم إسترقاق الشعب لصالح الدولةالإقطاعية, و مباشرة بعد تفكيك النظام الإقطاعى بواسطة الثورات الأوروبية و إقامة دولة القانون ظهرت النهضة الأوروبية التى تتوجت بالثورة الصناعية , الوسائل التى أُستخدمت للوصول إلى هذه المرحلة سُميت بالعلمانية .إذن العلمانية كانت نتاج لإكتمال دورة الصراع فى أوروبا و إغلاق دائرته و تصفية أسبابه نهائياًعبر عديد من المراحل, مستصحبةً معها الإصلاح الدينى و ليست لاغيةً له.

هناك إختلاف و تبايّن واضحفى تعريف العلمانية , على كلٍ أنّ مفهوم العلمانية  لا يحمل الدلالة المناقضة للدين , مثلاً تركيا تُعتبر من أكبر الدول العلمانية فى نفس اللّحظة تُعتير القدوة الحسنة للأخوان المسلمين الذين أصبحوا يتكلمون عن العلمانية بشكل يخدم أغراضهمالأيديولوجية,  وعلى هذا الأساس تسمية دولةٍ ما بالديمقراطية  لا يعنى إنّها  لا دينيةأوإنّها علمانية.  سوريا و لبنان و الإمارات ودول المغرب العربى تُعتبردول علمانية من حيث التوجه السياسى و الخطاب المُعلن و علاقاتهابقطاعات المجتمع المختلفة و إن لم تُعلن ذلك صراحةً.قد تكون العلمانية فى بعض الدول مُحفّزة للإلحادو لإنكار الدين و قد تكون راعية للتسامحالدينى مثل الهند و هى دولة علمانية, ظلت الهندتتمسكبإحترامها للديانات الأخرى, و قد خصصت إعانة سنوية لكل حاج هندى (مسلم), عكس دولة السودان فى عهد الإنقاذ حيث كانت تُسمى دولة إسلامية,و ظل فيها رجال الدين يستثمرون فى الحج و العمرة وكان ذلك أشبه برُهْبان و قساوسة أوروبا  فى العصور المظلمة الذين حققوا ثراءً فاحش عن طريق بيع صكوك الغفران.

بدأ السودان يعيش  مرحلة جديدة من الأنظمة السياسية المتمثلة فى الإيديولوجيا الدينية و الفكرية” المتغربة”بعد دخول المنهج الأخوانى و النظام الشيوعى, وعندما أستولت الجبهة الإسلامية على السلطة فى 1989 تحققت هذه الأنظمة برمتها, فنوعية المنهجالسياسى المتبع فى الدولة, كان مسئول عن العزلة الوجدانية التى ضربها الأخوان المسلمون على أنفسهم و على الشعب عندما طبقوا الشريعة الإسلامية على نمط “حالة الطوارئ” , و هذا فى حد ذاته مخالف للمنهج الإسلامى الذى يُعلِن صراحةً إنه رحمة للعالمين و ليس ” كارثة أو ضبطية بوليسية , ” كما جاء فى الآية الكريمة﴿وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ ﴾ الأنبياء 107. و بهذه الطريقة المعكوسة لتطبيق المنهج الإسلامى برزت التساؤلات لاحقاً: ” أين الشريعة الإسلامية فى القتل الجماعى للمسلمين مثلما مارسته الإنقاذ على شعبها المتمثل فى حرق القرى و الإعدام بدون محاكمات؟؟؟, أين الإسلام فى علاقة  الإسلاميين بالمال العام من إختلاسٍو غُلولٍو ربا؟؟؟, إذن  بنفس المفهوم إذا أردنا ترتيب العلاقة التوافقيةللعلمانية و الإسلام بدولتى سويسرا العلمانية و السودان الإسلامى على سبيل المثال, حتماً لكان العكس هو الصحيح حيث تتحلى سويسرا العلمانية بالأخلاق التى ناد بها الإسلامفى حين إنّنظام الإنقاذ الإسلامى بالسودان مخالف للقيّم الاخلاقية التى نادت بها  كل الأديان السماوية حتى اليهودية التى ظلوا يسبونها بلا وعى.

الشريعة الإسلامية فى البدء تقوم على منظومة الأخلاق  و ترسيخ التوافق الإجتماعى و معايشة المناوئينبالسُبل الممكنة و ليس قتلهم أو تكفيرهم و تهجيرهم , و إلقاء خطاب الموعظة الحسنة و إستخدام الحكمة فى حل المشاكل و تسوية النزاعات. أمّا الإجتهاد المنهك و المضنى فى البحث عن المخطئين و مطاردتهم حتى يتم تنفيذ مشروع العقاب عليهم, والذى سُمى جُزافاً بالشريعة الإسلامية ليس فى الإسلام من شىء. فى عام 2016 زار رجب طيب أردوغان مصر فوجد الأخوان المسلمين مصطّفين له فى المطار رافعين لافتات تدعو إلى دولة الخلافة الإسلامية إلاّ إنّه خزلهم بقوله” إنّه يعتز بالعلمانية التركية و يدعو الحكومة المصرية لإقامة نظام علمانى , قالوا له ” إنّ حزب العدالة هو حزب إسلامى, فردأردوغانبحزمٍقائلاً ” أنّهلايوجدمايُسمىبحزبإسلاميديمقراطي،فهذاتعريفخاطئ”.. أردوغان لا يقصد إلغاء الشريعة , لأنّ الشريعة أصلاً لا تُلغى طالما إنّها صفات و سلوك , لكن هؤلاء حمّلوا المنهج الإسلامى مالا يحتمل و هذا سر غربتهم  وسط الشعب المصرى,  كما صار نظراءهم فى السودان.و ذهب   رياض  الصيداوي أبعد من ذلك حين قال ” أنّرجال الدين هم أوّل من يجب أن ينادوا بتطبيق العلمانية لأنّهم أول المستفيدين منها وستحررهم من سلطة السياسيين المليئة بالنفاق” بالتالى سيختفى فقهاء السلطان , و هم الآن السبب الأساسى فى هذا الإضطّراب العقدى الذى يصيب المجتمع.

إحدى العقبات التى يواجهها الشعب الآن فى تحقيق سلام شامل و عادل فى البلادهى التعثربالمفاضلة ما بين الدين و العلمانية و هو أمر يفتقر للموضوعية , أمّا المشكلة الكبرى تكمنفى العقول المسمومة و الوعى المغيّب عن طريق تزيف الحقائق , مثل نصرة الشريعة التى يقودها من دونت ضدهمإتهامات تمس سلوكهم و أخلاقهم علناً أمام الجمع و لا يستطيعون ردها , بل أصبحوا تحت إستفهامات الفساد المالى و الأخلاقى, بالتالى الشعب الذى أنتفض على حكومة  القراصنة إنّما يبحث عن وسائل يتجاوز بها مخلفات النظام البائد.إذا كان بعض مجموعات التفاوض فى جوبا نادت بالعلمانية فالسبب الأول فى ذلك هم الإسلاميون لأنّهم صنعوا تاريخاً مشوهاً بالمفاسد الأخلاقية آل إلى نظام أقطاعى معقد أغلق كل الطرق المؤدية إلى التعايش السلمى, فرأى بعض السياسيين إنّ العلمانية هى البوابة العريضة التى تسع الجميع للخروج من هذه الأزمة المزمنة, بالتالى فى هذه الحالة, العلمانية تمثل حلقة من دورة الصراع الذى دار ما بين الحركات المسلحة و الحكومات المركزية السابقة , و عليه نجد أن الصراع تطورت مكوناته حيث بلغ مستوىً من التعقيد فى عهد الانقاذ مالا يمكن حسمه بنظرية ” البساط الأحمدى”,الخطاب الأخوانى الإقصائى هو الذى أدى إلى إفراز الفكرة العلمانية كحلقة مُتَمِمة لدورة الصراع فى السودان عن طريق رد الفعل المعاوض ” التعويضى”. بالتالى العلمانية التى نادى بها بعض قادة الحركات المسلحة هى متلازمة الصراع السودانى- السودانى, ليس بالضرورة أن تعنى تلك العلمانية فصل الدين عن الدولة , كثير من قادة الإسلاميين فى السودان يلجأون إلي الدول العلمانية لتكملة نواقصهم الضرورية و يطلبون منها الحماية عند اللزوم , وهو سر إكتساب الجنسية المزدوجة, قادةالإسلاميين هم أول من يهرول إلى العلمانية بأسماء اخرى عند يحتاجون لها” إذن ما معنى مؤتمر حوارالأديان فى 2000″, لعلّه عربون لتحقيق إتفاقية السلام الشامل 2005,و ثم يكفّرون خصمائهم و عامة الناس  إذا سلكوا ذات الطريق إن لم تكن لهم فيها مصلحة.

أكبر إنتكاسة منهجية واجهت الدولة تمثلت فى سلوكيات بعض الإسلاميين ( الأخوان المسلمون)عندما جعلوا من الإسلام عائقاً للسلام الذى نادى به الإسلام نفسه,بالفعل إنهم جعلوا من الإسلام,نتيجةً للنفاق و الوعى المضطّرب, عثرة أمام تحقيق السلام  قال الله تعالى﴿ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱدْخُلُواْ فِي ٱلسِّلْمِ كَآفَّةً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ ٱلشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ﴾ البقرة 208,

إدخال الإسلام و العلمانية فى موضوع واحد للنقاش  كخيارات لتحقيق السلام هى خطوة غير موفقة  لأن الأثنان أى الإسلام و العلمانية لا يقبلان المقارنة لإختلافهما الهيكلى و التكوينى و لا يتفاق فى التصنيف الموضوعى , الإسلام منهج متكامل  يمثل نظاماً فى حد ذاته و العلمانية إستراتيجية تكيّفية يتم  التخطيط لها  و الإستدعاء لها بشكل ظرفى , بالتالى يمكن لكل دولة فى العالم أن تتبنى شكل من أشكال العلمانية بنمط مخالف للأخر , أما الإسلام فهو واحد رغم الطوائف الدينية  المتعددة التى تقوم على سلوكياتها الخاصة فقط .

عبدالرحمن صالح احمد (ابو عفيف)

[email protected]

 

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..