مقالات وآراء سياسية

تذكرة عودة لمعركة أبوطليح – 17 يناير 1885م

د. محمد سيد أحمد ساتي

هزيمة استراتيجية المارشال جارنت ويزلي لإعادة احتلال السودان

تمثل معارك ابوطليح وابو كرو (جوبات) وكربكان في صحراء بيوضة وبمناسبة 130 عاما علي حدوثها معارك مفصلية بالنسبة للثورة المهدية والتي رسمت بدايات حركة التحرر الوطني السودانية والتي قادها الإمام محمد احمد المهدي لإطلاق يد الإرادة الوطنية للشعب السوداني بمختلف مكوناته وجهوياته وقبائله في الانعتاق من ربقة الاحتلالين المصري والانجليزي في نهاية القرن التاسع عشر.

لقد مثلت الثورة المهدية حركة تحرر وطني هزت الامبراطورية البريطانية في أوج قوتها وريعان تحكمها في معظم دول العالم. لقد كان ينظر الي هذه الثورة في جميع انحاء العالم وقتها بانها كانت النموذج والطريق المضئ للكفاح الوطني العالمي والتي قامت علي اثرها كثيرا من الثورات في العالم الإسلامي وفي أفريقيا وفي آسيا كما يقول الأستاذ الدكتور محمد سعيد القدال في كتابه ” محمد أحمد المهدي لوحة لثائر سوداني”. فقد الهمت هذه الحركة التحررية الثورات في الهند وفي افغانستان وفي بورما وفي أرض قبائل وشعوب الزولو في الجنوب الأفريقي وقبائل الأشانتي في غرب أفريقيا.

صدرت في السنوات الأخيرة دراسات حديثة عن حملة انقاذ غردون والتي صرفت عليها وفي وقته الإمبراطورية البريطانية اكثر من 15 مليون جنيه استرليني ( ما يعادل مليار جنيه استرليني بأسعار اليوم). لقد اضطرت حكومة رئيس الوزراء وليام جلادستون في اغسطس 1885م وتحت ضغوط الشارع البريطاني والاوليغارشية العسكرية المحيطة بولي العهد البريطاني وقتها الي ارسال هذه الحملة لإنقاذ الجنرال شارلز غردون وللقضاء علي الحركة المهدية التي صارت تمثل تهديدا استراتيجيا لمصالح الامبراطورية الحيوية خاصة في قناة السويس وهو الطريق الحيوي المؤدي لجوهرة التاج البريطاني المتمثلة في الهند، والهاما روحيا ضخ الكثير من الروح في حركات التمرد في افغانستان وايران ومنطقة آسيا الوسطي برمتها والتي صارت علي سطح بركان هز أركان الأمبراطورية مترامية الأطراف.

وكما أوردت يوجد هنالك دراسات جديدة القت مزيد من الضوء الساطع علي معركة أبو طليح وما بعدها. فقد قام طالب الدكتوراه البريطاني مايك سنوك في عام 2016م بنشر رسالته والتي استغرقت اكثر من 5 سنوات عن هذه الحملة زار فيها مناطق المعارك في أبوطليح وأبو كرو وكربكان وكورتي وآبار جقدول وهي المناطق المشهورة في صحراء بيوضة والتي وقعت فيها هذه المعارك. قدم طالب الدكتوراه المذكور دراسة ممتعة تقع في 332 صفحة قدمها لقسم الدراسات الأمنية والعسكرية في جامعة كرانفيلد البريطانية حيث نال بها درجته العلمية في الدراسات الاستراتيجية والأمنية. والدراسة تحت مسمي ” حملة ويزلي الفاشلة لإنقاذ الجنرال غردون في الخرطوم Wolseley and the failure of the Khartoum Campaign” و يقول باحث الدكتوراة البريطاني في دراسته أن حملة إنقاذ غردون كانت هزيمة استراتيجية لنظرية أمن المستعمرات والامبراطورية كما كانت هزيمة شخصية ولسمعة المارشال جارنت ويزلي المستشار العسكري للحكومة البريطانية وخاصة ولي العهد البريطاني (دوق كامبردج) المشرف علي القوات المسلحة الامبراطورية.

المارشال جارنت ويزلي، (1833-1913م)، يعتبر من أكفأ قادة القوات البريطانية حيث تدرج فيها بعد تخرجه من كلية الحرب البريطانية الشهيرة في ساندهيرست ، وكان له مستقبل باهر في أن يكون في ان يكون وزيرا للحربية من غير منازع.  فهو الذي قام بهزيمة حركة عرابي في معارك كفر الدوار والتل الكبير وتوجها بدخول القاهرة في موكب مهيب في سبتمبر 1882م ، والذى بموجبه صارت مصر جزءا من الامبراطورية البريطانية. كما أن المارشال ويزلي استطاع وهو ضابط برتبة كولونيل أن يقهر حركات التمرد في المقاطعات الكندية التابعة للامبراطورية في عام 1870م وفي والجنوب والغرب الأفريقي. بهذا السجل الحافل من الانتصارات والإنجاز العسكري اوكلت إليه مهمة حشد القوات والاعتدة الحربية من اطراف الامبراطورية خاصة كندا والتي جلب منها اكثر من 500 بحار في مراكب تسمي مراكب الحيتان Whalers وهي  مخصصة لعبور شلالات النيل الست حتى الخرطوم لفك حصارها والقضاء علي الثورة المهدية. حشد ويزلي اكثر من 14 الفا من القوات جعل الجزء الأكبر منها يأتي عن طريق النيل واختار نخبة من القوات (3000 عنصر) من احسن فرق قوات المشاة والمدفعية والبحرية البريطانية. اختار لها أن تنطلق من كورتي مقر قيادته  عبر صحراء بيوضة وأن يكون هدفها الأساسي هو مدينة المتمة علي النيل حيث سيكون إنتظارها 4 بواخر في حراسة 250 جنديا وبحار ارسلها الجنرال غردون وذلك بغرض فك الحصار عن المدينة وتشتيت قوات الثورة المهدية والعمل علي انسحابها إلي كردفان. وكما يقول الباحث في جامعة كرانفيلد اثبت الامام المهدي عبقرية حربية وتكتيك استراتيجي بعيد النظر. فبدلا عن انتظار القوات البريطانية الزاحفة لتاتي إليه في الخرطوم آثر ان تذهب إليها في صحراء بيوضة نخبة من قوات الأنصار لمناوشتها واستنزافها وتعطيلها حتى يتسنى له حشد العدد الكافي من القبائل والقوات لفتح المدينة المحاصرة والتي اوشكت علي السقوط.

أول المعارك الحاسمة لإستنزاف القوات البريطانية كانت الكمين المحكم الذي قامت به قوات الأمير موسي ود حلو ومعه الأميرعبد الله ود سعد كانت في آبار أبو طليح وهي واحة تتكون من عدد من الآبار في صحراء بيوضة تقع بين كورتي والمتمة حيث كانت قوات الامام المهدي تدرك ان الحملة الانجليزية والتي تتكون من 2900 جندي و4 الف جمل لحمل المئون الغذائية والمعدات الحربية والذخائر. عندما قاربت القوات الانجليزية لآبار أبو طليح فاجأتها طلائع قوات الأنصار التى خرجت من جوانب الأودية والخيران لتعمل تقتيلا وتقطيعا في القوات البريطانية وليدخل الأمير موسي برايته الخضراء ولحيته البيضاء الوقورة في قلب المربع الانجليزي الشهيروليكتسب أيضا ثناء شاعر الأمبرطورية كبيلنغ في قصيدته “الأشعت المغوار”. كادت قوات طابور الصحراء البريطانية  ان تفقد السيطرة علي الأرض ولكن أنقذتها كثرة الجمال داخل المربع الانجليزي الذي كسرته قوات الأنصار من الناحية الشمالية لمؤخرة المربع حيث ابيدت معظم فرقة المدفعية البحرية البريطانية وقتل الجنرال بارنبي قائد المربع مع تسعة من كبار ضباطه و260 جنديا بريطانيا من قوات المشاة والخيالة  ، ونجا قائد فرقة المدفعية البريطاني الكولونيل بسفورد بأعجوبة حيث اختبئ تحت عجلات مدفع الجاردنر الرشاش الذي عطله الأنصار. لقد كانت الصدمة هائلة للقوات البريطانية ، حسب قول الباحث مايك سنوك ، سواءا كان من ناحية كثرة عدد القتلي والجرحي والتي لم تكن في الحسبان مما ترتب عليه ارتباكا ملحوظا في طابور الصحراء بقيادة الجنرال هربرت ستيوارت، والذي كان يسابق الزمن للوصول للخرطوم لانقاذ الجنرال غردون. واصل الجنرال ستيوارت مواصلة زحفه نحو المتمة ولكن عند بلدة أبو كرو (قوبات) شمال المتمة كمنت له جهادية الأمير النور عنقره ، وهي بالمناسبة قوات نظامية مدربة علي حمل السلاح الناري والقنص خاصة عن طريق بنادق الرامنتونق والتي غنمتها من حملة الجنرال وليم هكس في 1883م، حيث اصليت القوات البريطانية نيران حامية قتل فيها عدد كبير من الأفراد وعلي راسهم الجنرال ستيوارت، والتي اصيب بمقذوف ناري في جنبه الأيسر وهو يهم بالصعود علي احد صناديق التموين ليراقب المعركة بمنظاره، مما اضطر الجراحين في المستشفى الميداني للحملة الي استئصال طحاله وجزء من كبده قبل أن يتوفى بعد معاناة كبيرة في الطريق حيث دفن في منطقة آبار جقدول التي لجأت إليها الحملة المتقهقرة في 5 فبراير 1885م.

لقد ادت هذه الكمائن المحكمة الي تأخير الحملة أكثر من 5 ايام حيث انها كان من المقرر أن تصل الخرطوم يوم 23 يناير 1885م أي قبل سقوطها بثلاثة أيام ولكن الحملة المكونة من 900 عسكري والتي غادرت المتمة علي البواخر مدججة بأحدث البنادق والرشاشات وصلت الخرطوم يوم 28 يناير 1885م، أي بعد سقوطها بيومين، وسط مقاومة شرسة من قوات الأنصار علي ضفتي النيل. تقهقرت الحملة تجرجر أذيال الخيبة والفشل نحو كورتي قاعدة المارشال ويزلي الحربية الحصينة. وفي منطقة كربكان شمال بربر كمن لها الأنصار مرة أخري وقتل عدد من الجنود البريطانيين وبينهم قائد الطابور الجنرال ايرل قبل ان تنسحب نهائيا من السودان بالكامل الي مصر حيث ظل السودان خاليا من الحكم الأجنبي لمدة 15 عاما قبل أن تعاود أنجلترا المحاولة مرة أخري لاحتلال السودان علي يد الجنرال هوراتيو كتشنر في سبتمبر 1899م .

لقد هزم الإمام المهدي بكمائنه المحكمة استراتيجية المارشال ويزلي والتي كانت ترمي الي هزيمة الثورة المهدية وانقاذ الجنرال غردون وإعادة احتلال السودان. لقد رمي المارشال ويزلي الي بناء مجده الشخصي ليضم الي لقبه فاتح القاهرة وهازم عرابي ان يكون هو منقذ الجنرال غردون وقاهر الثورة المهدية وفاتح بلاد السودان. لقد كانت الهزائم التي منيت بها حملة انقاذ غردون هي نهاية الامجاد العسكرية للمارشال جارنت ويزلي الذي آثر الاستقالة والابتعاد من خدمة قوات صاحبة الجلالة الملكة فكتوريا ليعيش بعيد عن مراكز القرار في وستمنستر آثرا العيش في بيته في الريف الانجليزي وهو يشعر بالمرارة والخسران ملقيا اللوم علي ولي العهد البريطاني (دوق كامبردج) وقائد حملة الانقاذ ، البريغاديرشارلس ويلسون، والذي تولي القيادة، بعد مقتل الجنرال ستيورات، عن عجزه في تلكؤه في الوصول بالقوات الانجليزية الي الخرطوم. ويشير الباحث البريطاني مايك سنوك الي أن الكولونيل شارلز ولسون ليس مسئولا عن التأخير ولا عن خطل الاستراتيجية الغير عملية التي تبناها الجنرال ويزلي الذي لم يضع في حساباته عبقرية المهدي الحربية وشراسة المقاتل السوداني واحترافية قناصته المدربين في تبديد احلامه في المجد العسكري علي اراضي صحراء بيوضة في السودان. كما شكلت هذه المعارك الخاطفة  الأساس ليعيش السودان لمدة 15 عاما حرا وبعيدا عن الاحتلال الأجنبي في القرن التاسع عشر قبل أن تعاود قوات الجنرال هورايتو كتشنر المحاولة مرة أخري للسيطرة عليه في سبتمبر1899م.

 

د. محمد سيد أحمد ساتي

[email protected]

 

 

 

‫2 تعليقات

  1. مقال شيق وجميل…. أمة بلا تاريخ هي أمة بلا مستقبل. يجب أن يركز واضعو المنهج الجديد على إلمام الطالب السوداني بتاريخه القديم والحديث (الحضارة النوبية، والثورة المهدية). أشتاق كثيراً إلى معرفة الكيفية التي مات بها الإمام المهدي. هل مات محموماُ، مسموماً، أم ماذا؟ أيضاً أتمنى مقارنتكم في مقال قادم بين (كنداكات الثورة السودانية الحالية) وبين دور نساء أم درمان في معركة كرري وما بعدها إذ سمعت أنهن أقمن الحداد خمس أو عشر سنوات على الشهداء و (شلن الحفة) أي أنهن حرمن على أنفسن التطيب والزينة ومعاشرة رجالهن لمدة خمس أو عشر سنوات…. إذ كيف يطيب لهن العبش وأظافر الشهداء تسفها الرياح كلما هبت ريح الشمال على أم درمان ولمدة طويلة من الزمن. تاريخنا مليء بالعبر الملهمة لشبابنا لكي يستلهموا منها أشراقات لمستقبلهم ومستقبل السودان، لكن الذين يكتبون قليل والذي يقرأون أقل منهم.

  2. كان يوم اسود الانتصرت فيهو المهدية ،، لا زلنا ندفع ثمن انتصاراتها المزعومة ، لعن الله محمد احمد مدعي المهدية و الكذاب الأشر و حشره مع الشياطين هو و احفاده

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..