مقالات سياسية

هل تنتقل مفاوضات سلام دارفور الى الدوحة

الأحداث الأخيرة بمدينة الجنينة والإقتتال الدموى الذى أزهقت بسببه مئات الأرواح كشفت بوضوح هشاشة الوضع الأمنى وضعف النسيج الإجتماعى كما أبان أن بعض القائمين بامر السلام لم يكن لديهم إلمام كاف بطبيعة المشكلة ولا رؤية أعمق وأوضح لآفاق المستقبل لذا طفقوا فى مجرد الوعظ والتبشير بمحاسن السلام المرتقب والتذكير من مخاطر العنف وهى أمور بديهية فى وعى أصغر طفل بمخيمات دارفور حيث لا فسحة وقت لهم للعواطف الرخوة فى ظل زخات الدوشكا.

الشاهد لو أن الوضع سيئاَ اليوم فسيغدو أسوأ من ذى قبل فى الغد ما لم نتعاطى مع الوضع فى دارفور بسرعة وشجاعة ومسئولية وبرؤية مغايرة عما يجرى اليوم فى مدينة جوبا حاضرة جنوب السودان، فالداء عميق والدواء المطلوب أعمق.

عندما إنطلقت محادثات السلام قبل أشهر قليلة فى جوبا، كان لدينا ما يستحق الإحتفاء بأن المحنة التى تئن تحت وطأتها دارفور قد شارفت على الإنتهاء وأن السلام لم يعد مجرد حلم كبير بل قد أصبح حقيقة ممكنة وذلك بسبب العلاقة الخاصة التى تربط بين البلدين وفهمها العميق لديناميك الواقع المحلى ثم تجربة جوبا نفسها التى ذاقت الأمرين من ويلات الحرب وعاشت أوضاع مماثلة.

الآن وبعد مضى أكثر من ثلاثة أشهر وثلاث جولات فإن الأنباء الواردة تفيد بأن المحادثات تسير فى خطوط متوازية من دون إلتقاء أو إنفراج مهم وأن هناك إستعصاءات عدة خاصة فى مسار سلام دارفور أذ صار الوضع سكونياَ فى أحسن الأحوال هذا إن لم يشرع المتفاوضون فى بناء الكثير من الجدران والقليل من الجسور.

إزاء هذه الوضعية، فإن أول ما يتعين على القائمين بأمر السلام – أن كان هناك سبب لوجودهم – هو التفكير فى الخيارات المتاحة التى تثمد جراح الأهل فى دارفور عوضاَ عن قيادة السفينة نحو إتجاه قد ترتطم بالصخور – لا سمح الله -.

منعاَ للإلتباس أسارع للقول أن جوبا فعلت وما تزال تفعل كل ما هو ممكن لإنجاح المحادثات وأنها تتمتع بقدر كاف من ثقة الأطراف كما أن حسن نواياها ليس محل شك أو مزايدة، ولكن لم يكن ولا يمكن أن يكون ذلك كافياَ فى السياسة حيث يقع اللامتوقع لأسباب وظروف موضوعية وذاتية أخرى يدركها الجميع.
شخصيا كنت قبل اسبوع فى زيارة قصيرة للسودان وإلتقيت بعدد من الذين عادوا من آخر جولة لمحادثات سلام دارفور بجوبا. جلست إليهم وإستمعت لهم. لاحظت بوضوح قلقاَ وإشفاقاَ عن مآل هذه المحادثات وربما خيبة أمل إن لم أخطىء الظن. أحدهم لخص الوضع قائلاَ، لم تكن هناك مشاعر عداوة بين الأطراف المتفاوضة ولكن فى ذات الوقت لم يكن ثمة لقاء فى الأفكار فضلاَ عن غياب رؤية ومنهجية للسلام وهو ما يتطلب التفكير فى إعداد الخطة (ب).

ذات النمط من التفكير حدسته فى لقاء موسع(بخصوص أحداث الجنينة) ضم عدداَ من الإدارات الأهلية والمثقفين ووجهاء المجتمع الدارفورى بجانب ما لمسته خلال أحاديثى العابرة مع مجموعة من الحركات الموقعة على أتفاق الدوحة الذين أكدوا جميعاَ بأن المدخل لحل مشاكل دارفور يكمن أولاً فى هزيمة العنف وتحقيق السلام بأعجل ما يمكن، هذا أذا أردنا العيش فوق تراب دارفور أو السودان أيا كان رأينا فى بعضنا البعض.

ليس سراَ أن أذيع بأن أول من لمح لى بوضوح – اذا جاز أن يكون التلميح وضوحاَ – عن الخطة البديلة هو قيادى رفيع من أبناء دارفور وينتمى لحزب عريق ذات تأثير كبير حيث عبر عن رايه بوضوح قائلاَ بانه فى حال عدم تقدم محادثات جوبا – وهو إحتمال وارد إن لم يكن مرجحاَ – فأن أفضل خيار لأهل دارفور هو الدوحة بكل تأكيد.

لم أختلف معه فى مبرراته أو حيثياته فهى أكثر من مقنعة وكافية لجهة أن الدوحة تملك تفويضاَ أمميا وأفريقيا وعربيا إى المجتمع الدولى بأسره ثم أن تجربتها وخبرتها السابقة والطويلة تفوق تجربة أية دولة أخرى كما أن معظم الحركات والفصائل وأصحاب المصلحة والأطراف لها ثقة فى وساطتها بل وقد خلقت علاقات حميمة مع هذه الأطراف بجانب سمعتها الدولية الجيدة فضلاَ عن قدرتها على تحمل تبعات الوساطة ودورها المتوقع لما بعد السلام.

للأسباب أعلاه يرى القيادى الدارفورى أن من مصلحة السلام ودارفور وأهله بل السودان التفكيرفى إعادة ملف سلام دارفور الى الدوحة مرة أخرى إن لم يحرز تقدم أو إختراق هام خلال الأسابيع االقليلة القادمة خاصة وأن الوضع فى الأقليم هش وقابل لتطورات أسوأ فى ظل الإحتقان السائد حاليا والمتغيرات المتسارعة بدول الجوار.
بالطبع، الطريق نحو الدوحة سوف لا يكون مفروشاَ بالورود فى ظل تطلعات بعض دول الحصار وأدوارها التخريبية المتوقعة ولكن للدوحة ما يكفى من دبلوماسية ناعمة لهزيمة هذه القوى كما نجحت فى السابق، إذن يبقى التحدى فى مرمى أهل دارفور لحسم هذا الأمر بإجماع تاريخى وعلى جميع مكونات دارفور وأصحاب المصلحة أن توحد نفسها أولا وتحدد رؤيتها ومطالبها لتأتى على قلب رجل واحد بدلا من مشهد التجزئة وعلى الحكومة السودانية إيضاَ أن تتخذ قرارها وفقا لتطلعات أهل دارفور ولدى ما يؤكد أن الحكومة – بمكونها المدنى والعسكرى – فاعلة ذلك.

بالنظر لتغير الأوضاع الداخلية وسقوط نظام الإنقاذ فمن الجائز جداَ أن يكون هناك تغييرا فى أجندة وموضوعات مفاوضات السلام سواء عقدت فى جوبا أو الدوحة إذ ربما تحال بعض القضايا للداخل عند عقد المؤتمر الدستورى مثل قضايا الهوية وشكل الحكم وعلاقة الدين بالدولة وحدود الأقاليم الخ وذلك بسبب إرتباطها المباشر بمكونات وفئات غير مشاركة فى الحوار.

من حسن الحظ كنت معاصراَ وشاهد عيان للمحادثات الماراثونية التى جرت بالدوحة خلال الفترة من 2009 الى 2011 ثم 2013 وأعرف جيداَ الجهود التى بذلتها الدوحة بالتعاون مع المبعوث الأممى والأفريقى وبغض النظر عن النتائج لا يختلف أحد من أبناء دارفور المقيمين فى الدوحة – وهم بالآف – فى حسن نوايا الدوحة ورغبتها الصادقة والأمينة فى مساعدة الأهل فى دارفور وهنا أود أن أشير للإجماع المنقطع النظير لإبناء دارفور بالدوحة وإلتفافهم حول الحركات التى كانت تتفاوض متجاوزين خلافاتهم الحركية والإثنية والمناطقية الأمر الذى كان محل إعتزاز الجالية السوداينة برابطة دارفور.

لا ينبغي أن يفهم من هذه المقاربة ترجيح منبر على آخر بقدر ما هى دعوة لنظرة موضوعية للمعطيات الماثلة وأهمية التفكير فى خطط بديلة من وقت مبكر ورصد لمنحى إتجاهات الرأى العام – وفق قرآتى – لأن الأوضاع فى دارفور لا تحتمل مفاوضات لا نهائية من دون مغامرة غير محسوبة العواقب وهو أسوا ما نفعله بأهلنا.
عبدالرحمن حسين دوسة
[email protected]
الدوحة – قطر

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..