مقالات سياسية

فينومينولوجيا الثورة: سايكولوجية الجماهير السودانية (٢)

يقول المفكر جيل دولوز أن مهمة الفيلسوف الحقيقية هي إبداع المفاهيم الجديدة، و بثها في الفضاء العام، وفقاً لحوجة المجتمع، بإعتبار الفيلسوف مبدعاً، ينتج المفاهيم، كما يبدع العازف الموسيقار الموسيقي، و كما يبدع الفنان الرسام اللوحة.

بالتأكيد، فإن تعريفات دولوز للفلسفة، و دور الفيلسوف غير ملزمة للآخرين، و لكنه يمكن الإستهداء بها، و تخطيها الي أدوار أجتماعية أخري، أكثر عمقاً للفلسفة، كما برز في توجهات مدرسة فرانكفورت النقدية، و نظريتها الإجتماعية، التي أخرجت الفلسفة من رفوف المكتبات، و جعلتها فاعلة في الشارع، و حية بين الجماهير.

الثورة السودانية الآن، وضعت الجماهير و قياداتها السياسية و نخبها الفكرية، في فصل دراسي كبير، في إطار عملية التعليم و التعلم المتبادلة، و لذلك يجب علينا تكثيف المحاضرات الدراسية، في حياتنا العملية اليومية.

بما أن التغيير السياسي، لا يمكن أن يتقدم أكثر من المساحة، التي توفرها له مدفعية حركة الفكر و غطاءها الجوي، داخل حدود البنية الإجتماعية و اللغوية، في حيز الزمكان، فإن الحفر المعرفي، و إبداع المفاهيم الجديدة، يعتبران من أولي أولويات الثورة، و بتنا الآن نحتاج الي عمل فكري و إجتماعي و ثقافي ضخم، أكثر من الذي بذل قبل إنطلاق الثورة السياسية، و بتنا نحتاج الي ثورة ثقافية.

حالة العطالة الفكرية و فقر التصورات الذهنية، و إجترار المسلمات، غير قادرة علي إيجاد حلول، لمشاكل سياسية مستعصية، لأن السياسي الذي يفتقر الي الإبداع و الخيال و الإطلاع، لن يمتلك تصور جيد، لطبيعة المشاكل من الأساس، حتي يقوم بحلها من موقعه القيادي التنفيذي.

هناك فقر و فراغ كبير، في التصورات الذهنية الجيدة، علي مستوي الشارع و القيادة، يتم ملؤه في أحيان كثيرة، بتصورات بسيطة ساذجة، و أنصاف حقائق، و عموميات هتافية، و شعارات جوفاء، و نظريات غير مختبرة، و معلبات مفاهيمية مرتجعة، و مواقف سلبية ذات طبيعة إتكالية.

معايير الإنتخاب الإجتماعي السائدة عندنا، و منذ سنوات طويلة، تميل الي إنتخاب القيادات الغير مناسبة، التي ترتكز علي الحماس و الشعارات و النوايا الجيدة فقط و الوراثة، كمؤهلات للقيادة الإجتماعية و السياسية.

تلك المعايير الإنتخابية الإجتماعية، نشأت في واقع زمكاني مختلف تماماً، و داخل ثقافة تأقلمت مع نمط إنتاجي اقتصادي، و علاقات إنتاجية مختلفة، مما يعني عدم ملاءمتها للواقع الآن، و ضرورة تغييرها.
هناك الآن حماس كبير جداً للتغيير، و تأييد شعبي كاسح له، و إجماع جماهيري واسع حول نوعه، و ملامحه الرئيسية، و لكن من جانب آخر، هناك قصور كبير في ترجمة ذلك الرصيد الثوري الهائل، الي عمل سياسي واقعي فعال، لمصلحة الجماهير، و هناك ضعف بائن غير مقبول، في تنزيل السمات العامة للتغيير، في شكل خطط عمل تنفيذية يومية.

بإستطاعة المفكر و الفيلسوف التنويري، أن يجسر تلك الهوة الكبيرة، و أن يقوم بتوجيه الجماهير من الخلف، هي و قيادتها السياسية الأمامية، من غير أن يشعر به أحد، و ذلك بما يمتلكه من بعد نظر، و تدبر بمآلات الامور، من خلال نظرية الفعل و رد الفعل، يؤهله لإبداع المفاهيم الجديدة، التي تنير الطريق للسائرين.

عندما ترغب الجماهير الثائرة، في الحرية و السلام و العدالة، فهذه ليست عبارة عن أحلام وردية و رغبات مجردة، و إنما تعبير عن عمليات تجميع بنائية كاملة، تمر بها تلك الجماهير، و توجد خلف الرغبات قوي إرتكازية في البنية الإجتماعية الزمكانية، و علي الفيلسوف المتيقظ إلتقاط المعني الكامن، بإعتبار المعني هو الرابط بين الشيئ و علاقته الإرتكازية.

على هذا الأساس، يمكن النظر الي الثورة السودانية، بإعتبارها عملية تجميعية بنيوية شاملة، و كاملة الدسم، في حيز الزمكان، و المنطلقة من العقل الجمعي السوداني المختلف معرفياً، و الساعي الي التحرر و العقلنة و تجديد نفسه بإستمرار، عن طريق عمليات الهدم و البناء.

لا يختلف إثنان، أن عملية التغيير الثوري السودانية، تسير بمعدل بطئ جداً، بعد تشكيل الحكومة الإنتقالية، و ذلك نتيجة للقصور الذاتي للقوي الثورية، و القصور الذاتي للوثيقة الدستورية التي أنتجتها إرادة سياسية منخفضة، و القصور الذاتي داخل الحكومة الإنتقالية، التي لم تستفد حتي من الوثيقة الدستورية، الإستفادة القصوي في سقفها الأعلي، و القصور الذاتي للأفراد الثائرين.

ذلك القصور الذاتي، في مستوياته المختلفة، يمكننا تقليله و تخفيف أثره للحد الأدني، و يمكن أيضاً السماح له بالتمدد، و السيطرة علي التفاعلات المختلفة.
نحن نحتاج الآن، أكثر من أي وقت مضي، الي إبداع و تصميم أشكال عمل سياسي بديلة، تتلافى الوقوع في مشكلة العجز القيادي، و أخطاء الماضي، و تلك الأشكال يجب أن تكون بالضرورة، أشكال سياسية غير تقليدية و غير مألوفة.

هناك تناقض تاريخي داخل الدولة السودانية، و تناقض داخل نظام الإنقاذ البائد، و تناقض داخل قوي الثورة، و تناقض بين أحزاب قحت و الحركات المسلحة، و تناقض داخل أحزاب قحت، و تناقض داخل قوي الهبوط الناعم، و تناقض داخل قوي التغيير الجزري، و تناقض داخل كل حزب علي حدة، و تناقض داخل قوي الكفاح المسلح، و تناقص داخل الجبهة الثورية، و تناقض داخل الحكومة الإنتقالية، و تناقض في الشارع، و تناقض داخل الفرد الواحد، و كل تلك الثنائيات عبارة عن ديناميكيات طبيعية و حيوية، ضرورية لعملية الجدل، و حوار الأضاد، و مهمة لعملية البناء.

ما يهم حقاً، هو عملية إدارة حوار سقراطي جاد، بصورة واسعة و فعالة، بشأن أي موقفين متناقضين، و إستخلاص الطاقة الإيجابية الكامنة بينهما، حتي تعيننا في عملية البناء، و إستمرار المسير الثوري الي الأمام.

الحالة النفسية للموطن العادي البسيط، تتأرجح ما بين السلبية الشديدة و التفاؤل المفرط، و ما بين صناعة الفعل و إنتظار رد الفعل، و ما بين التضحية و الأنانية، و هناك من ينتظر حصاد نتيجة الثورة، بدون عمل و جهد و صبر، متناسياً لفلسفة التغيير الأساسية، و التي تقول أن التغيير الحقيقي، يبدأ من الفرد أولاً، و من ثم يمتد الي بيئته المحيطة، فكن أنت التغيير الذي تريد أن تراه من حولك، و كن أنت الثورة.

أما السبهللية الذهنية، كما يقول الزميل إمين صديق، و نزعة الآراء السياسية لتلبية حوجة نفسية قصيرة المدى، أكثر من توفير حلول للمشاكل الموجودة فعلاً، و العقلية التي ترفض التعامل مع الأرقام و البعد الكمي للأشياء، و نوع الشخصيات التي تحركها دوافع قوية، لإرضاء نزعات الوجاهة الإجتماعية و الشهرة و الإطراء و النرجسية، و القابلية للرشاوي المادية و المعنوية، و التخويف، فهي كلها أشياء يجب تجنبها، عند البحث عن شكل بديل للعمل السياسي، و في اختيار القيادات المستقبلية.

كما أن هناك إنزعاج جانبي، من المهزومين نفسياً، و أصحاب الأكروبات اللغوية و المنطق المثقوب، و الذين يستمدون مواقفهم من دوافع إجتماعية، أو لحل تناقضات ذاتية خاصة بهم، و الباحثين عن إنتصارات علي مستوي الشلة، و المستفيدين من الأثر التضخيمي للسوشيال ميديا، فكل هؤلاء يجب الإنتباه لهم و الحزر منهم، و إعطاءهم الحجم الطبيعي الصغير، المناسب لهم.

على الجماهير السودانية المنتفضة، أخذ زمام المبادرة بنفسها، و قيادة ثورتها الظافرة بصورة مباشرة يومية، و سحب جميع التفويضات السياسية القيادية، من جميع الأطراف، فقد ولي زمان الديمقراطية التمثيلية، التي يغيب فيها أصحاب المصلحة الحقيقيين، و جاء أوان الديمقراطية الشعبية المباشرة، و أصبح الشعب كله عبارة عن برلمان دائم منعقد، و يستطيع إبداء و إيصال رأيه في كل الموضوعات اليومية.
د. مقبول التجاني
[email protected]

تعليق واحد

  1. بارك الله فيك يا دكتور مقبول ، نحن الان بحوجة ملحة لمفكريين و نقاد وذلك لعلاج ما اصاب المجتمع من امراض نتيجة بسبب حكم عصابة الانقاذ .

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..