إصلاح القطاع الأمني الشامل وإعادة هيكلته في السودان

(دراسات أوروبية | علم نفس | قانون دولي لحقوق الإنسان)
“حرية، سلام وعدالة.. مدنية خيار الشعب” شعار جاب العالم مروجا لأنجح ثورة سلمية في التاريخ الحديث، قارنها الفرنسيون أنفسهم وعلى لسان رئيسهم بثورتهم القديمة الشهيرة. وكان المطلب الثاني في ثورة السودان دون تورية أو مساومة وأحد أولويات حكومتها الانتقالية هو *تحقيق السلام*. ولعل أهم مرادفات السلام التي يتفق عليها جميع البشر، سودا كانوا أم بيضا أم صفر، هو الأمن.
ولكن من يتبع الآخر: *هل الأمن يتبع السلام، أم أن السلام يتبع الأمن؟*
تتم عمليات التحول الديمقراطي الحقيقي بعد سقوط أنظمة شمولية دكتاتورية على مدى التاريخ وبشكل عام في أربع مراحل على الأقل:
(١) إزالة الدكتاتورية
*(٢) الانتقال الديمقراطي*
(٣) ترسيخ الديمقراطية
(٤) والنضج الديمقراطي
*وتتسم المرحلة الانتقالية عادة بتحقيق إصلاحات مؤسسية وقانونية جذرية ونافذة، تمهد لترسيخ الديمقراطية* في فترة الحكومة المنتخبة التي تتبع الحكم الانتقالي. ويؤدي أداء الحكومات المنتخبة التالية تباعا إلى الوصول إلى مرحلة النضج الديمقراطي المستديم، بسرعة أو ببطء، بثقة وخطى ثابتة، أو بتخبط وعقبات، بحسب الظروف المعاصرة والتاريخية والسياسية والاقتصادية والمجتمعية.. والدولية.
في كثير من الدول التي خضعت لنظام حكم شمولي ديكتاتوري أو أوتوقراطي (عادة ما يكون عسكريا) لفترة طويلة من الزمن، وخلعت عنها ثوب الخنوع بثورة شعبية ناجحة تنادي بالديمقراطية والحرية والسلام والعدالة وبحكومة مدنية، كما السودان، *كان ما يسمى “إصلاح القطاع الأمني الشامل Comprehensive Security Sector Reform” جزءا جوهريا من عملية التحول الديمقراطي لحكوماتها الانتقالية.*
ويصبح هذا الإصلاح الأمني الشامل ضرورة ملحة (برغم صعوبتها) عندما يكون النظام الشمولي الدكتاتوري الذي تم إسقاطه نظاما عسكريا استبداديا أومخابراتيا أمنيا، جاء عسكريا وحكم عسكريا ودمر عسكريا، وتغلغل بفساده في كل مؤسسات الدولة لفترة طويلة من الزمن، سواء العسكرية أو الحكومية أو المدنية أو الخاصة، بصورة تستدعي “العلاج والوقاية” بطرق علمية وممنهجة ومركزة وفعالة.
*ماهو “إصلاح القطاع الأمني الشامل”؟*
“إصلاح القطاع الأمني الشامل” هو *مجموعة من السياسات والخطط والبرامج والأنشطة التي تتبناها الحكومات (الإنتقالية) لتحسين سبل توفير السلامة والأمن والعدالة وسيادة القانون لمواطنيها بحل أو إعادة هيكلة المؤسسات الأمنية*. والهدف العام منها هو تقديم هذه الخدمات الأمنية الحكومية العامة بطريقة تتسم بالفعالية والشرعية القانونية والشفافية والمسؤولية، وتخضع للمساءلة أمام سلطة مدنية وتتجاوب مع متطلبات الشعب.
وهو مفهوم نشأ وترعرع في تسعينيات القرن العشرين وهي الفترة التي شهدت تغيرات سياسية جذرية في العالم أجمع، بسقوط الاتحاد السوڤيتي وحله، وسقوط جدار برلين واتحاد الألمانيتين، وبحروب منطقة البلقان وتفكك يوغوسلافيا، وبسقوط حكومة شيلي الدكتاتورية، وبسقوط وحل نظام التفرقة العنصرية في جنوب إفريقيا.
وتتوج سياسات “إصلاح القطاع الأمني الشامل” هذه بجهود فعلية وعملية موجهة تجاه: *المؤسسات والعمليات والقوى* المناط بها تحقيق الأمن والعدالة وسيادة القانون في البلد، وتشمل العديد من المنظمات، التي ينبغي أخذها في الاعتبار عند صنع السياسة والقرار، في القطاعات التالية (إن وجدت):
*١. قوات الأمن الوطنية:*
القوات العسكرية النظامية (البرية، الجوية والبحرية)، القوات الشبه-عسكرية، الشرطة المدنية، وحدات الشرطة الخاصة، الحرس الرئاسي (الجمهوري)، أجهزة الأمن والاستخبارات، وحدات الأمن الشعبي، حرس الساحل، حرس الحدود، السلطات الجمركية، شرطة المرور، قوات الأمن المحلي أو الاحتياطي المركزي، وحدات الدفاع المدني، والميليشيات الحكومية وغيرها.
*٢. المؤسسات الأمنية الحكومية والأجسام الرقابية:*
المكتب الرئاسي (مكتب رئيس الوزراء)، البرلمان، وزارة الدفاع، وزارة الداخلية، وزارة الخارجية، وزارة العدل، وزارة المالية (ومكاتب الميزانية، ووحدات التخطيط والضبط، والتدقيق)، الوزارات الأخرى (الجديدة المنشأة) ذات الصلة بالأمن كوزارة الاتصالات، السلطات التشريعية، الحكومات المحلية (الولايات، المحافظات، المدن، والمجالس البلدية)، سلطات المعايير المهنية، هيئات المراقبة والتدقيق، ولجان الشكاوى الرسمية إلخ.
*٣. منظمات المجتمع المدني:*
نقابات المهنيين، مجالس المراجعة وهيئات الرقابة المدنية، منظمات تحليل السياسات (مراكز البحوث، والمعاهد، والجامعات إلخ)، منظمات المناصرة المدنية، منظمات حقوق الإنسان، منظمات الشكاوي والمظالم، المنظمات الأخرى الغير حكومية المعنية بتطبيق القانون والعدل والمساواة والأمن، ووسائل الإعلام الرسمية، وغيرها.
*٤. القوات الأمنية الغير-حكومية:*
الحركات المسلحة التابعة لحركات إنفصالية، جيوش التحرير، القوات التابعة لأحزاب معينة، والشركات الأمنية الخاصة (الأخيرة لا تنطبق على السودان ويجب تجنب التعامل معها قطعيا!). وهذه الفئة وخاصة “الحركات المسلحة التابعة لحركات الانفصالية وجيوش التحرير والقوات التابعة لأحزاب معينة” يجب التعامل معها بإهتمام كبير وجاد يتناسب مع مطالبها الشرعية ومظالمها التاريخية التي تنجم عادة من تهميش واقعي في ضوء الحكومات الاستبدادية، وهذا الاهتمام يحب أن يكفل لها حقوق محفوظة في الحرية والعدل والمساواة والرفاهية والمشاركة والدمج.
*أمثلة ناجحة من الخارج*
أمثلة لدول (من قارات وديموغرافيات مختلفة) نفذت سياسات ناجحة في مجال “إصلاح القطاع الأمني الشامل” شملت المخابرات والبوليس والجيش وغيرها، وساهمت في نهضتها اقتصاديا وسياسيا ومجتمعيا، تتضمن:
*١. ألمانيا الشرقية:*
بعد سقوط جدار برلين في العام ١٩٩٠ وحل جهاز “البوليس السري” المخيف بموظفيه ال ٨٥.٠٠٠ وجواسيسه البالغين نصف مليون والمسمى (ستاسي Stasi) وكذلك وضع بوليس ألمانيا الشرقية الاستبدادي الضعيف تحت إشراف وإعادة تأهيل بوليس ألمانيا الغربية الديموقراطي المقتدر، في ألمانيا موحدة وإتحادية.
*٢. شيلي:*
بعد سقوط حكومة الدكتاتور “بينوشيه Pinochet” في العام ١٩٩٠ بعد ١٧ عاما من الحكم الشمولي الذي خلع الحكومة الاشتراكية المنتخبة ل “سالفادور أليندي Salvador Allende” ، وإنشاء ما يسمى ب “المركز الوطني للمخابرات CNI” والذي تخضع له جميع أجهزة الدولة الأمنية برقابة مدنية ومركزية.
*٣. جنوب إفريقيا:*
بعد سقوط نظام حكم التفرقة العنصرية Apartheid في العام ١٩٩٤، وتولي نيلسون مانديلا، رئاسة الجمهورية جرت إصلاحات شاملة لجهاز الشرطة الإجرامي العنصري، تضمنت تبني “التعددية العرقية” في صفوف الضباط واقتراحا فريدا بإنشاء ما تسمى”بلجنة الحقيقة والمصالحة TRC” لدعوة للمتضررين بتقديم شكاويهم والمتسببين للاعتراف بما اقترفوه مع حق التقدم بطلب عفو (للشرطة والمواطنين سواء).
*٤. كوريا الجنوبية:*
“معجزة نهر الهان” والتي تغنى بها الكثيرون ومنهم رئيس الوزراء، د. عبد الله حمدوك نفسه، كمثال يحتذى به في التطور الاقتصادي السريع المبهر، مرت بسلسلة من الإصلاحات الشاملة في قطاع الأمن، وتحديدا في الجيش تحسبا لنفوذ العمالقة الإقليميين، اليابان والصين. جيش كوريا الجنوبية الحديث لم يولد إلا في العام ١٩٤٦، بكثير من السنوات بعد نفضها للإحتلال الياباني التي انتهى في العام ١٩١٠. الحرب الكورية مع الشماليين في الخمسينيات استدعت فترة “التحديث Modernization” بالاستعانة بدعم الولايات المتحدة المناهض لدعم روسيا للشماليين.
وبعد تولي “بارك شنغ-هي Park Chung-hee” الاتوقراطي للحكم ورغم النهضة الاقتصادية المذهلة التي أحدثها في ثلاث سنوات فقط منذ توليه الحكم في العام ١٩٦٣، كان قطع علاقته بالامريكان مضرا بتطور الجيش الكوري. إلى أن جاء خليفته بمرحلة “الإصلاح Reform” والتي ركزت على التعليم والتدريب. ومنذ العام ٢٠٠٥ ركزت كوريا على “التطوير التكنولوجي العالي High-tech Development ” للقوات المسلحة بمساعدة أمريكا. والآن في العام ٢٠٢٠، *كوريا الجنوبية، ورغم صغرها كدولة، وشهرتها فقط كعملاق اقتصادي آسيوي، هي القوة العسكرية رقم ٦ في العالم*، متفوقة على بريطانيا وتركيا وألمانيا وإيطاليا ومصر وإيران وإسرائيل بحسب اللوائح الرسمية.
قد ينادي البعض الآن بطرح “يتناسب وحجم السوداني الحالي” وتحديات المرحلة الانتقالية “في ضوء أمثلة إقليمية تقارب التركيبة السياسية والمجتمعية السودانية”. واتفق مع ذلك جزئيا دون تناسي مقولة “وإذا غامرت في شرف مروم.. فلا تقنع بما دون النجوم”. فالدول السابق ذكرها أصبحت بالفعل نجوما إقليمية رائدة اقتصاديا بفعل اصلاحاتها الأمنية، *وتحقيق السلام في أي دولة شرط ضروري لأي رخاء إقتصادي* (ألمانيا الاتحادية، شيلي، جنوب أفريقيا، كوريا الجنوبية).
والسلام المستديم (نتيجة لأمن مستتب) لفترة طويلة هو ما يفسر رخاء الدول الاسكندنافية مثلا بجانب سياساتها الحكيمة المرشدة لثرواتها. أما الأمثلة المقبلة فهي لدول لا ينبغي علينا الرغبة بالتشبه بها بعد الآن، بل التعلم من أخطائها.. وخاصة “أمنيا”!
*ما الذي يجمع بين السودان ومصر وسوريا..” أمنيا”؟*
يذكر الكاتب عمر عاشور في مقال في البي. بي. سي. في العام ٢٠١١، وهو المحاضر في مادة “سياسة الشرق الأوسط” ومدير “برنامج الدراسات العليا في الشرق الأوسط” بمعهد الدراسات العربية والإسلامية بجامعة إكستر (بريطانيا)، بأنه في العام 2000، قابل جنرالا مصريا يعمل في “مباحث أمن الدولة” المصرية (لم يفصح عن إسمه) ولم ينضح من كلامه اي صلة بالتعليم أو الثقافة، اعترف له بأنه كان المدير الفعلي لكل ما يدور في اروقة ودهاليز جامعة القاهرة، حيث كان هو من يقرر تعيين أو ترقية أو رفد عمداء الكليات، والبروفيسورات من المحاضرين، وحتى أي من الطلاب بأسمائهم يجب إيقافه عن الدراسة أو لا.
ما قابل هذا التغلغل السري للأمن المصري في أعرق المؤسسات التعليمية المصرية في حقبة حكم الدكتاتور حسني مبارك، في السودان *كان تغلغل مشابه في الجامعات السودانية فيما أصبحت بين ليلة وضحاها ومنذ انقلاب ١٩٨٩ دولة أمنية بوليسية أيديولوجيا وقمعية سافرة سلوكيا (تغاضيا عن الجوانب النازية العنصرية الاجرامية والفاشية الطبقية الإحتكارية)*. وتجلى ذلك في جهرها بأسماء رؤوسها من المدنيين أو العسكريين في أعلى المناصب، وليس فقط بضباط أمن مخابرات ذوي رتب عالية يتحكمون في مديري الجامعات سرا. بل إن مديري الجامعات في السودان أنفسهم كانوا من رموز الكيزان البارزة الذين أحالوا تلك الجامعات إلى مزارع مملوكة لهم ترتع فيها الذئاب!
وهل ننسى “مأمون حميدة”، ربي الحركة الإسلامية منذ المتوسطة في سنار الأميرية، ونحن نترقب محاكمته عن قريب هو الآخر وتحويل ممتلكاته لصالح الشعب، والذي تربع على كرسي إدارة جامعة الخرطوم لسنين طويلة “مغمض العينين” عما يدور فيها من جرائم؟ أم غابت عنا أسماء قيادات الطلاب من المؤتمر الوطني، والأمن الشعبي، والأمن الوقائي وغيرها من الوحدات الأمنية في جامعة الخرطوم ممن إجتمعوا ولسنين طويلة على قمع وإرهاب الطلاب وساهموا مثلا في قتل الطالب “محمد موسى عبد الله”؟ عمار إبراهيم احمد عمر (مؤتمر وطني)، همام عبد الكريم (أمن شعبي)، معاذ نور الدين (أمن وقائي)!
والجامعات ليست إلا مثالا لمؤسسات كثيرة في الدولة التي تخترقها أجهزة أمن الحكومات الشمولية الدكتاتورية كحكومة الإخوان المسلمين في السودان، وذلك بأهداف وسياسات وسلوكيات تتعارض مع أبسط *أساسيات أجهزة الأمن في الدول الحرة الديموقراطية* ألا وهي حفظ أمن وضمان سلامة المواطن وبسط الأمن في الدولة تماشيا مع وتنفيذا لسيادة القانون، وليس ترويع المواطن وإلحاق الضرر به ونشر الخوف في الدولة والخرق الممنهج للقانون!
المفجع في الأمر هو أن مفهوم *”وحدة الأمن الشعبي”* مثلا يرمز عادة لاضافة إيجابية في السياسات الأمنية لكثير من الدول التي قامت بتحقيق “إصلاح قطاع أمن شامل” بعد فترة من الحكم الدكتاتوري الشمولي، والغرض الحميد من إنشاء هذه الوحدة هو *إقحام عناصر من المواطنين المدنيين العاديين (ببعض التدريب وبمد خطوط تواصل مع الأمن النظامي وبرقابة أمنية رسمية) في الحفاظ على الأمن كقوة داعمة أوحتى تصحيحية*.
ولكن “الأمن الشعبي” لحكومة الإخوان المسلمين (جبهة، إنقاذ، وطني إلخ ولا تهم التسمية) لم يكن خلف إنشائه أي غرض إصلاحي، بل كان تجسسيا وقمعيا وارهابيا بحتا. وكان من أكثر الجناحات الأمنية للإسلاميين خساسة ووحشية وإجراما، بطريقة تضع منهجه وتصرفاته في سلة نفايات واحدة مع أكثر أنظمة الأمن البوليسية قمعا في التاريخ وهو “البوليس السري” التابع لوزارة الأمن في ألمانيا الشرقية مثلا، السابق ذكره، والذي كان يرجف المواطنون فقط لسماع إسمه (ستاسي Stasi) وكان يعتمد على كم هائل من الموظفين الثابتين يدعمهم جواسيس مدنيون وصل عددهم النصف مليون.
وكانت طرق (ستاسي Stasi) في الإرهاب نفسية بحتة بحيث بصعب إثباتها والمساءلة عليها وتهدف عادة لتدمير سمعة وشخصية الأشخاص المستهدفين (سياسيين، صحفيين، نشطين، معارضين، أكاديميين إلخ) باستخدام أساليب نازية إجتماعية وعلم-نفسية للمضايقة ونشر الإشاعات في الشبكة الاجتماعية كانت تسمى بالألمانية “تعرية الشخصية Zersetsung” أو هدم الشخصية. وهذا ما نجح فيه نظام الإنقاذ “الأمني” ولسنين طويلة: *هدم شخصية وهوية المواطن السوداني في الداخل وأحيانا حتى في الخارج* (إلا من حماه الله، الذي لا يعبدون).
وتتشارك الأنظمة الشمولية الدكتاتورية القمعية، وإن لم يكن قائدها الأعلى عسكريا صرفا كما في سوريا مثلا ناهيك عن الأنظمة الحكومية العسكرية البحتة، في تسخير ضخم لما تسمى عبثا بالقوات “الأمنية” لخلق “أمن بعد خوف” وهمي يكفل لها بقاءها في السلطة باستخدام نقيض الأمن والسلام وهو الإرهاب والحرب. وعادة ما تظهر هذه القوات “الأمنية” وحشيتها المرعوبة (الخوف يولد الوحشية) في الثورات الشعبية النابذة لها وقياداتها، والمهددة للحكومات التي نصبتها “أمينة” على الشعب لحمايتها هي، بقمعها للشعب.
فظاهرة “كتائب الظل” مثلا، التي كان يتفاخر بها قيادي “الإنقاذ” علي عثمان، وظلت ترهب المتظاهرين وتقتلهم من خلاف ومن على أظهر سيارات دون لوحات أثناء ثورة ١٩ ديسمبر المنصرمة، هي نفسها ظاهرة “البلطجية” الذين كانوا يندسون وسط الثوار في ميدان التحرير في قاهرة مصر. وهي نفسها ظاهرة “الشبيحة” في سوريا والتي كان يزج بها نظام بشار الأسد الشمولي في جموع المتظاهرين السلميين، في “دمشق، ودرعة، وحمص، وحماة، وإدلب، وحلب” وغيرها لإرهابهم بالقتل والخطف والإغتصابات وجرائم يندى لها الجبين تحت مسمى “حفظ الأمن والإستقرار” وهذا قبل اقحامه لقوات الجيش النظامي نفسها في معركة ضد شعبها.
*وهي جميعها قوات منبعها ومصدر تدريبها وتعليماتها عادة هو جهاز الأمن والمخابرات الوطني* (بمساعدة خارجية أحيانا) سواء في سوريا أو مصر أو السودان.
وأما قوات الجنجويد في السودان والتي تسمى الآن بقوات الدعم السريع “النظامية”، وهي لاتمت في الواقع للنظامية بشيء، بل استلهمت “قوتها” وإسمها القديم فقط من العشوائية البربرية وإسمها الجديد فقط من البدلات العسكرية الجديدة ومن إضعاف الحكومة السابقة الممنهج والتام للقوات النظامية الأصلية، فهي تشبه بأفعالها (وما يمكن أن تفعله مستقبلا)، سواء في دارفور أو الخرطوم، قوات البوليس النظامي العنصري البربري في حكومة التفرقة العنصرية الجنوب أفريقية منذ العام ١٩٤٨ وإلى ١٩٩٤ والتي كانت تعامل المواطنين الأصليين من السود الجنوب إفريقيين وكأنهم حيوانات برية ضالة يجب قتلها بالرشاشات عند أي تجمهر أو مظاهرات وذلك “لأسباب أمنية”.
*ختاما، ماهو المطلوب؟*
ما نشر قبل عدة أيام في صحيفة الراكوبة (ولم أجد له صدى إعلامي حكومي رسمي أو نسخة في أي مكان آخر) بعنوان “تجريد ضباط الأمن وافراده من السلاح” وشمل بعض الأسلحة دون الطبنجات تحسبا لغضب مسلح من بعض أعضاء جهاز الأمن على نتيجة محاكمة البطل الشهيد “أحمد الخير” التي حكمت بإعدام ٢٧ من “زملائهم” ، لا يكفي (إن صدقت فحواه).. وله دلالات كبيرة في حد ذاته.
أولى تلك الدلالات هو أن جهاز الأمن والمخابرات السوداني المنبوذ هو الآخر وبلا شك بحاجة لإصلاح شامل وإعادة هيكلة جذرية وإعادة تدريب وتنظيف كبقية الأجهزة الأمنية. ثاني تلك الدلالات هو أنه نظرا لثقافته “الزمالية” المتجلية، ولسرية عملياته وتعقيد هياكله وشعباته، ونظرا لصلاحياته الفائقة التي عادة ما تفوق صلاحيات الأجهزة الأخرى كالجيش والشرطة والتي تحكمها بروتوكولات وقوانين معروفة، ولدوره التاريخي المعروف في إثارة البلبلة في البلاد وخلق المشاكل وإرهاب العباد، *فلتكن البداية بإعادة هيكلته.. صارمة وعاجلة*!
وهو في رأيي، ورأي الكثيرين، أكثر المؤسسات الأمنية في السودان التي يحتاج أفرادها لإعادة تعليم وتأهيل وتدريب أيديولوجي أخلاقي أولا (مع وجود آليات للمساءلة والعقاب)، يعيد تعريف مسمى “الأمن” لمنتسبيه بما يتناسب ودولة السودان الحرة الديمقراطية الجديدة. وأما فيما يتعلق بالسؤال ما إذا كان المطلوب هو تفكيك وحل جهاز الأمن أم إعادة هيكلته، فالإجابة سهلة: *مشروع إعادة هيكلة فعال ورشيد، قد يستدعي التفكيك والبناء من جديد.*
وإن كان المطلب الثاني في ثورة السودان والأولوية الأولى للحكومة الانتقالية هي تحقيق السلام، *فالسلام يتبع الأمن المستتب أولا، قبل أن يتبع مزيد من الأمن.. السلام.*
لعناية الدكتور عبد الله حمدوك، رئيس وزراء السودان، ومن يهمهم الأمر من أعضاء الحكومة الانتقالية.
#حل_جهاز_الأمن
#هيكلة_جهاز_الأمن
#تحديات_الفترة_الانتقالية
*هذا المقال كتب بإلهام بغض عميق للأجهزة الاستخباراتية القمعية المخادعة بناء على تجارب شخصية امتدت لقرابة ٢٠ عاما ومنذ سن ال ١٨، وبقرب حلول تاريخ ميلادي في ١٥ يناير القادم، والذي يشهد مرور ٣٠ عاما بالضبط على سقوط أكثر أجهزة الأمن وحشية على الإطلاق وهو نظام البوليس السري في ألمانيا الشرقية (ستاسي Stasi) في العام ١٩٩٠.
الخاتم عباس
[email protected]