
مهما كانت الدوافع والمبررات لما حدث في الخرطوم، يوم أمس الثلاثاء 14 يناير 2020، من تبادل لإطلاق النار بين قوات سودانية، كانت تقاتل في خندق واحد حتى وقت قريب، فإن ذلك يعد مؤشراً ينطوي على قدر من الخطورة، ليس على الجهات المعنية، التي اشتركت في الحدث فحسب، بل على الأمن القومي بكامله! وبغض النظر عن الجهات التي تقف وراء ما حدث، إلا أننا في البدء نلقي باللائمة على الحكومة الانتقالية؛ فهنالك تقصير واضح تجاه أمن وسلامة الناس، نتيجة لتراكم المظالم والتعسف وسوء التقدير، والانشغال بأمور هي أبعد ما تكون عن مسؤولية الحكومة الانتقالية، التي تركت الحبل على الغارب لفئات من المنتسبين للتنظيمات المنضوية تحت لواء قحت لتدير شؤون البلاد بلا خبرة ولا حنكة.
لقد وصلت الأوضاع لحافة الهاوية، بل أوشكت أن تنزلق إلى منحدر من الفوضى لا مستقرّ له، فماذا تبقى بعد أن وجه الجندي السوداني البندقية إلى صدر أخيه الجندي، أليس ذلك مؤشر خطير، ونذير شؤم؟ في هذه المرحلة يجب أن تظهر الحكمة ويتصدى أصحاب الرأي للمشهد؛ حتى نجنّب البلاد مزيداً من الكوارث التي لا تحمد عقباها. لقد كان زعماؤنا، من أمثال الأزهري والمحجوب وغيرهما، يشكلون مجلس حكماء أفريقيا، ويتصدون لتسوية المشكلات العربية بكل اقتدار وإخلاص نية، ولكن يبدو أن السودان قد “أصيب بالعين”، فها نحن نغرق في شبر ماء، دون أن يكون بيننا رجل رشيد واحد يستطيع أن يقود مبادرة وطنية لرأب الصدع والتوفيق بين الجهات السياسية التي تتناطح الآن في الساحة السودانية!
في ظل الظروف السائدة الآن، تصدى للعمل العام أناس لا يعرفون إلا إثبات الذات وتصفية الحسابات، تحت إغراءات وأجندة عابرة للحدود، على ما يبدو؛ ولذلك لا يهمهم أمن الوطن والمواطن من قريب أو بعيد! وهنالك حالة من الاحتقان والغبن لا ينفع معها التمادي في فرض الأمر بالقوة والعناد، بل المطلوب النظر بعين العقل والبصيرة النافذة، وإلا سيحل بنا ما يحدث في دول الإقليم من احتراب وقتل ودمار.
من المؤسف أن حكومة الدكتور عبد الله حمدوك، أو بالأحرى مجموعة قحت، قد تناست أنها حكومة انتقالية، ينبغي عليها العمل وفقاً لتفويض “mandate” محدد، لكنها تجاوزت ذلك التفويض، وشغلت نفسها بتنفيذ أجندة ليست من اختصاص ولا متطلبات المرحلة الانتقالية؛ ولذلك أدخلت السودان بكامله في ورطة طالت كافة المؤسسات ومنها العسكرية في إطار ما يسمى بتفكيك النظام البائد! وتحت هذا الإطار تندرج مشكلة قوات هيئة العمليات التي كانت تتبع لجهاز المخابرات، فبعد تسريح جنود هذه الهيئة تلكأت الحكومة في سداد مستحقاتهم النظامية، وهذا خطأ إداري كان من الممكن تفاديه بكل سهولة، إلا أن الحكومة أو الجهات، التي تسعى لتصفية الحسابات، تعاملت مع الملف بطريقة تشوبها نزعة سياسية، باعتبار أن هيئة العمليات هي التي كانت توفر الحماية للنظام البائد وتنفذ أجندته! ليس هذا فحسب، بل تفيد الأنباء بأن هؤلاء الجنود قد تعرضوا لمساومات تمليها الالتزامات تجاه جهات إقليمية، وهذا بالطبع أمر غير مقبول إطلاقاً. وثمة سؤال يمكن طرحه في هذا المقام: ألم يكن الفريق البرهان والفريق حميدتي وجنودهما ضمن منظومة دفاع النظام البائد، كما يقال؟
عموماً، إذا استمر تدهور الأوضاع بنفس الوتيرة في كافة المجالات؛ خاصة السياسية والاقتصادية والأمنية، فإن ذلك يعني أن السودان مقبل على فترة حالكة الظلام، إلا أن يتداركنا الله برحمته، فهو وحده القادر على ذلك. في هذه المرحلة يجب أن ينصب الاهتمام الرسمي بالمحافظة على كيان الأمة، ومعاجلة مشكلة المعيشة، وحفظ الأمن، وليس طمس الهوية عبر تغيير المناهج وفرض أجندة ورؤى ليست من صميم عمل الحكومة الانتقالية. إنني أرى تحت الرماد وميض نار وأخشى أن يكون لها ضرام. لا مبرر لإلقاء الكلام على عواهنه، واتهام عناصر النظام السابق بأنهم وراء كل الأحداث؛ إرضاءً لجهات، باتت معروفة للجميع، تسعى لتنفيذ مخطط خبيث في بلادنا، عن طريق الإغراء والاستمالة، ويجب على الحكومة القائمة الاضطلاع بمسؤوليتها تجاه الوطن فالكيس من أدان نفسه. ولا داعي للتهور وازهاق مزيد من الأرواح وإراقة الدم السوداني على سراب يحسبه الظمآن ماءً.
محمد التجاني عمر قش