
لفحص روايات إدعاء أن موطن الإسلام الأول البتراء ، أبدأ بتاريخ مكة خارج الرواية الإسلامية . طبعا هناك ملاحظة قديمة و هي أن كل الشخصيات المذكورة في الأديان و السرديات اليهودية و المسيحية و الإسلامية ليس لها وجود تاريخي خارج تلك الأديان و السرديات ، لذلك حقل الإيمان حقل مستقل عن حقل الروايات التاريخية التي تقوم على التاريخ كعلم ، ربما هناك حالات نادرة للتشابه بين بعض الشخصيات التاريخية و شخصيات السرديات الدينية مع ملاحظة أن ذلك التشابه تخميني . كذلك الأمر مع القصص الديني في الديانات الثلاث . طبعا المجال الجغرافي للديانات الثلاث و انبيائها و شخصياتها و احداثها تدور في فلسطين و المناطق المجاورة لها (قصة حياة سيدنا إبراهيم الأولى في العراق و قصة حياة سيدنا موسى و يوسف في مصر ، و قصة بلقيس في اليمن .. الخ ، عدا ذلك كل احداث القصص الديني اليهودي ـ و ضمنا المسيحي ـ تدور في فلسطين ، كذلك القصص الديني الإسلامي الذي حكى قصة نبيين إضافيين “ثمود و صالح” في الجزيرة العربية) .
أول ظهور لمكة في سرديات تاريخية خارج الرواية الإسلامية كان في القرن الخامس الميلادي (لا يعني ذلك أنها لم تكن موجودة) ، هناك خرائط رومانية تظهر فيها تهامة و يثرب و الطائف لكن لا تظهر معها مكة ، و ايضا لا تظهر مكة في المخطوطات السريانية أو اللاتينية و التي تذكر أسماء لأماكن في الجزيرة العربية كالطائف و يثرب و غيرهما …
يمكن الاستعانة بما كتبه الباحث الفلسطيني علاء اللامي عن مكة فهو يكتب معلقا على من يسمى (محمد آل عيسى) في مقالة سماها (العبث النقدي بتاريخ الأديان) ، كتب الآتي : (يذكر جواد علي ، في (المفصّل في تاريخ العرب قبل الإسلام) أنّه يتفق مع رأي مَن يقول بانعدام أيّ ذكر لمكّة كمدينة في العهود القديمة قبل الإسلام ، ولكنّه لا ينفي وجودَها .
لكن جواد علي يكتب عن ما أورده العالِم اليونانيّ بطلميوس (عاش في القرن الثاني الميلادي) ، اسمُ مدينة (مكربة) ، و لا يستبعد وجودَ صلةٍ بينه وبين لفظ مكّة .
وأمّا في الكتاب المقدّس – سفْر المزامير، وفي أشهر ترجماته الإنجليزيّة المنشورة اليوم ، فنجد ذكْرًا صريحًا لاسم مكّة القديم، “بكّة،” مرسومًا بحرف B كبير دلالةً على كونه اسمَ أحد الأمكنة، مقرونًا بالتأكيد على كون بكّة “واديًا جافًّا” و هو ما ورد في القرآن أيضًا (“وادٍ غير ذي زرع”). و معروف أنّ لفظ “بكّة” ورد في القرآن أيضًا (الآية 96 من سورة آل عمران) ، و هو ما يعطي الاسمَ التوراتيّ لمكّة (أو بكّة) قوّةً إضافيّة . نقرأ عند ابن هشام رواية ابن إسحاق عن مكة باعتبار أنها كانت مركزا تجاريا و ملتقى طرق التجارة بين اليمن و الشام ، و يُنسب تحول طرق التجارة عن مساراتها الاخرى باتجاه مكة بسبب الصراعات بين الإمبراطوريتين البيزنطية و الفارسية و هو ما يجعلنا نتساءل : لو كان الأمر كذلك لماذا لا نجد لها ذكرا خارج هذه الرواية ؟ و هناك وجهة نظر اخرى و هي أن من يريد أن يتاجر بين الشام و اليمن من الأسهل له أن يسلك طريق البحر الأحمر …
عدم ذكر مكة في المصادر التاريخية شجع المؤرخين الجدد على تبني وجهة نظرهم عن مهد ظهور الإسلام في البتراء …
تبقت حلقة أخيرة نختم بها .
زين العابدين حسن