مقالات وآراء

تبعية بنك السودان المركزي لمجلس الوزراء قد يجعل نمو اقتصاد السودان كنمو إقتصاد الصين

هل تعلم بأن بنك الصين المركزي (الشعبي) يتبع لما يسمى بمجلس الدولة أو رسميا “بالحكومة الشعبية المركزية” وهي باختصار مجلس الوزراء في جمهورية الصين الشعبية، وهي الاقتصاد الثاني في العالم؟ ماذا يقابل ذلك في الولايات المتحدة الأمريكية مثلا؟ وأي النظامين نبتغي للسودان؟

*مقدمة*
مع كل الاحترام للآراء التي بدأت تزعم بأن تبعية بنك السودان المركزي لمجلس الوزراء سوف تقلص من صلاحياته وتقلل من استقلاليته وبالتالي من قدراته المالية، هذا محض هراء. العكس هو الصحيح.. وبأدلة من الخارج.. ومن التاريخ.. والحاضر!

في البداية مثل هذه الآراء هي آراء ببغائية مستمدة من نوعية المدارس الاقتصادية التي تدرس للأسف في معظم كليات الإقتصاد في الجامعات وكأنها علوم طبيعة natural science لا حياد عن صحتها التطبيقية، فقط لأن أكبر الاقتصادات الغربية (أمريكا تحديدا) طبقتها تبعا لنظام رأسمالي وحشي vicious capitalism لا تطبقه بالضرورة الإقتصادات الأخرى العظمى في العالم (كالصين مثلا).

أتكلم عن المدارس الاقتصادية الرأسمالية المتعنتة التي دعمها أمثال عالم الاقتصاد الأمريكي الشهير والحائز على جائزة نوبل في الإقتصاد، “ميلتون فريدمان Milton Friedman”، والتي روجت لفكرة “اقتصاد السوق الحر free market economy” في العالم كالحل الأمثل للنمو والتقويم الاقتصادي المبني على التحكم في ضخ المال مركزيا (عرض النقود money supply) لدعم القوة الشرائية وبالتالي الاقتصاد دون أي تدخل حكومي وبحرية مطلقة للأسواق “لإصلاح نفسها بنفسها”، وكأن الأسواق طبيعة مدفوعة بالنفع العام وليس بالربح. وهذه سذاجة! *ولقد ذقنا، ومازلنا نذوق، الأمرين بسبب تطبيق حكومة الكيزان لسياسة السوق الحر (بل السوق الفاكي) في أبشع أنواع الرأسمالية!*

وهو العالم نفسه الذي كانت إحدى نظرياته السبب الأساسي في نقل الإقتصاد الأمريكي (العام والفردي) من اقتصاد كبير وصحي ومنتج ومدين (مقرض) إلى اقتصاد كبير ولكنه مريض وأقل إنتاجا ومستدين (باقيا على الحياة من القروض)، وهي “نظرية الاستهلاك theory of consumption”، والتي زعم فيها بأن القرارات الشرائية للأفراد (أو للدولة) لا تبنى على “الدخل الحالي current income”، بل تبنى على ما يمكن أن يصبح “الدخل الثابت permenant income” في المستقبل.

وبذلك أصبح ليس فقط الاقتصاد الأمريكي مستدينا ولاهثا خلف الربح والثراء السريع بشركاته عن طريق الإستدانة، بل عم ذلك المواطنين العاديين حيث لا يخلو بيت من الديون ومن بطاقات الإئتمان credit cards ومعظم طلبة الجامعات يتخرجون وهم مثقلون بالديون الدراسية التي لا يمكن سدادها. وأمريكا لم ينفعها ذلك النظام الاقتصادي حتى في تقديم نظام صحي عادل ومعقول التكلفة لمواطنيها فيما يزيد عن قرن كامل من القوة الاقتصادية المطلقة، مقارنة باقتصادات رأسمالية أقل وحشية (تجاه مواطنيها) أخرى كدول أوروبا الغربية مثلا.

ونظرية “اقتصاد السوق الحر” هي ما سبق سياسات أخرى مست بقية العالم (وتكمن الخدعة في كلمة “حر” والتي ترادف في التطبيق كلمة “جائر”) وبالذات الدول النامية مثل السودان، كسياسة “التجارة الحرة free trade” والتي تتبناها للأسف “منظمة التجارة الدولية World Trade Organization” كذبا وخداعا، كسياسية “تحريرية” داعمة للعدالة والرخاء والتنمية في التجارة العالمية، دون أن تفشي بأنها إقصائية بحتة وخادمة لأجندات هيمنة تابعة للإقتصادات العظمى، وأنها في الحقيقة سياسة استعبادية للدول الأقل قوة اقتصادية وسياسية، وأداة احتكار للنمو الاقتصادي لصالح رأس المال الخاص الضخم في العالم. فهي ما يجعل مثلا السلع المباعة في أسواق السودان والمنتجة في السودان من أسوأ الأنواع (كالمنتجات الزراعية)، وذلك لأن المحصولات الزراعية السودانية عالية الجودة تباع في الخارج بسعر أعلى.

ولقد رأينا مؤخرا ما آل إليه قطاع الذهب في السودان نتيجة لسياسات نظام الإنقاذ العشوائية التهريبية لثروات البلد خارج البلد ودون أي مردود إيجابي على البلد، وكيف أن الحل كان في مزيد من الرقابة الحكومية (من وزارة التعدين ووزارة المالية) لصادرات البلاد من الذهب.

وإذا فالعكس في كلي المجالين، البنكي والتجاري، هو الصحيح: *خضوع المؤسسات الكبيرة النافذة في الدولة، مالية كانت أم تجارية، لقدر معين من الإدارة والرقابة الحكومية اللصيقة ليس بالضرورة تقليص لامكانياتها في نفع ذاتها والدولة، بل هو بالأحرى تقييد لامكانياتها الكامنة في إلحاق الضرر بنفسها وبالدولة تحت ذريعة البحث عن الربح التجاري بكل الطرق المتاحة*! وتبعية بنك السودان المركزي لمجلس رئيس الوزراء لا تقلل من استقلاليته أو صلاحياته أو إمكانيته في النمو الذي يتبعه نمو خطي في إقتصاد البلاد.. بل تعزز ذلك وتدعمه!

دعوني أسهب في الشرح فيما يتعلق بالقطاع البنكي المركزي تحديدا بأدلة مستمدة من الاقتصاد الأول في العالم (أمريكا) وكذلك من الإقتصاد الثاني في العالم (الصين).

*النظام البنكي المركزي في الولايات المتحدة*
في الولايات المتحدة الأمريكية، البنك المركزي يسمى بنظام الاحتياط الفيدرالي Federal Reserve وهو الذي أنشيء في العام 1913 بعد عدة محاولات في أمريكا من أكبر البنوك الخاصة في البلاد للاستحواذ على أحقية أو بالأحرى إحتكار حق طبع المال monoploy on money printing عن طريق استخدام نفوذهم في الكونغرس الأمريكي لتمرير قانون يقضي بإنشاء بنك مركزي حكومي وهمي هو في الحقيقة كتلة تجارية conglomerate من عدد من البنوك الخاصة المتآمرة (وهذه حقيقة تاريخية لا يختلف حولها بليونان).

ونجحو في ذلك. فرغم أن بنك الاحتياط الفدرالي (البنك المركزي) يحمل لفظ “فدرالي” في اسمه، فهو ليس له أي علاقة بالحكومة الفدرالية بل هو كتلة لبنوك خاصة حصلت على إذن بالتكوين وطبع المال وتقويم النظام المالي من الكونغرس الأمريكي في عهد الرئيس وودرو ويلسون Woodrow Wilson (والذي أعرب لاحقا في أواخر حياته بأن تمرير ذلك القانون كان أعظم جرم ارتكبه في حق الشعب الأمريكي).

وكانت تلك في الحقيقة بداية النهاية للعملة الأمريكية القوية آنذاك، حيث تخطت أمريكا بريطانيا في بدايات القرن العشرين ( 1900) كالإقتصاد الأول في العالم، عندما نجح المصرفيون التجاريون الخاصون private commercial bankers تحت مسمى “نظام الاحتياط الفيدرالي” الحكومي في عزل الدولار عن معيار الذهب gold standard تدريجيا في معاملاتهم وسياساتهم حتى تتضاعف قدراته المالية هوائيا (قرضيا) ودون أي يكون لها “سند كافي من الذهب” في الخزينة.

والبنك المركزي في أمريكا له حق إحتكار طبع الأموال وبالتالي تحديد نسبة التضخم في البلاد inflation rate، وكذلك له دور في تحديد (ثبات أو تغير) نسبة الفائدة interest rate في النظام البنكي بأكمله (وبالتالي في الدول المتاخمة له)، وله أيضا حق تنظيم النظام المالي (البنكي) العام في البلاد financial regulation ويشمل ذلك البنوك الخاصة. واقتصاد الدولة إذا في قبضته إلى حد كبير (أي في قبضة تكتل لبنوك خاصة تحمل فقط مسمى “بنك فدرالي”).

والساسة يعلمون ذلك والعامة لا يعلمون شيئا (إلا مؤخرا بعد الأزمة الاقتصادية في العام 2008). وليس هناك تحرك سياسي أو شعبي كافي لتغيير تلك الهيكلة الغريبة السرطانية والتي جاءت في العام 1913 بتصويت “ديموقراطي” مدعوم بكثير من أموال العلاقات العامة والضغط lobby وتكللت في قانون واحد جعل من الدولة الأقوى اقتصاديا في العالم، دولة مستدينة ويعتمد معظم اقتصادها على الدين الخارجي (وإن كان قويا ومرنا للحفاظ على نفسه حيا). وكل مواطنيها يعيشون فوق مستواهم بناء على ما يسمى ب “اقتصاد بطاقات الإئتمان credit economy”.

مثل هذه النظرة التحليلية لخفايا الأمور تفضي إلى حقيقة أن الأمريكان ليسو بأغنياء.. كما يبدوا عليهم، بل هم دائنون (مقترضون). والصينيون ليسو بفقراء كما يبدوا عليهم بل هم مدينون (معطون للقروض)!

*النظام البنكي المركزي في جمهورية الصين الشعبية*
وعلى ذكر الصين (وقل عن الصين ما تقول)، حكومة الصين بإصلاحاتها الشاملة ومشاريعها الضخمة، أصبحت تقارب حكومة الاوتوقراطيين النبلاء benevolent autocratic بدلا من حكومة دكتاتورية كما كان يحب الغرب تسميتها (لنا) قبل أن تجبرهم على الصمت والتقبل بادارتها المتمكنة لأكبر دولة سكانية في العالم، وبإقتصاد أخذ الجميع على حين غرة، وأصبح فجأة الثاني متخطيا اليابان وألمانيا وفرنسا وبريطانيا.

وهنا تأتي المفاجأة الأولى، *فبنك الصين المركزي (بنك الصين الشعبي People’s Bank of China) يتبع لما يسمى بمجلس الدولة State Council أو و رسميا “الحكومة الشعبية المركزية” وهي باختصار مجلس الوزراء في جمهورية الصين*، ويترأسها رئيس الوزراء الصيني.

والمفاجأة الثانية، هي أن *بنك الصين المركزي (الشعبي) يحتل المرتبة الأولى في العالم منذ العام 2017 من حيث الأصول المالية الإجمالية للبنوك المركزية في العالم وتبلغ 3.21 ترليون دولار، وهو أكبر مدين (مقرض) للولايات المتحدة الأمريكية*، والتي تعتبر تقنيا-بنكيا دولة مفلسة تعيش من القروض وتبقى على قيد الحياة من قدرتها الاقتصادية القوية على تسديد القروض السنوية والفوائد. ولكن دون علاج جذري لمرض إدمان القروض. ومرة أخرى.. هذا البنك المركزي الصيني يتبع لمجلس الوزراء!

أنحنا بقى.. ما عايزين نبقى زي أمريكا.. دولة غنية مقترضة وبالتالي مفلسة! عايزين نبقى زي الصين.. دولة مدينة وليست دائنة وذات اقتصاد لم يتوقف عن النمو لعقود من الزمان.. وبحكمة وبصبر!

ونقل سلطة بنك السودان المركزي إلى مجلس الوزراء هو الخطوة الأولى.. وبأمر الثوار.. وبأمر بنود الوثيقة الدستورية!

*وشكرا.. حمدوك!* ✌️

الخاتم عباس

[email protected]

#بنك_السودان_المركزي
#السودان_سعر_الصرف
#تحديات_الفترة_الانتقالية

تعليق واحد

  1. سرد متناسق, من عارف بخبايا بيت الاقتصاد الامريكي..الفرد الامريكي يبدأ في الاستدانه من عمر السابعة عشر حتي التقاعد, السياره بالدين, المنزل بالدين, الجامعه بالدين, الزواج والطلاق بالدين, السفر والترحال بالدين….الخ………….ولعدم معرفة الناس بهذه الحقائق الكل يمني النفس بالعيش في أمريكا….ِشكرا الخاتم عباس

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..