مقالات سياسية

أدر فترتك بأفكار خارج الصندوق يا ريس

حسن جبورة

الذي يولد، وينشأ داخل صندوق مجتمعي مغلق على تابوهات دينية وعرفية، وعادات سلوكية، وعاهات فكرية، وتبني حوله الميمات (جينات نقل المعلومات الثقافية) حائط صد سميك يصعب اختراقه، مثل هذا الشخص، لا يستطيع الخروج من أسر هذا الصندوق.. وإن فعل، وحرر عقله، وكشف عنه غطاءه، وحاز على علوم الدنيا وتجارب حيواتها، بعيدا عن سربه، سيجد نفسه أسيرا لقلبه، ومكامن الخوف العتيق فيه إذا عاد.
وهذا ينطبق على الدكتور حمدوك الذي غادر السودان قبل ثلاثين عاما، فلما عاد إلى الوطن محمولا على راحة يد الثورة؛

(لقى) الزمن غير ملامحنا.. ونحنا بقينا ما نحنا
أما هو، وعلى المستوى الشخصي، أصبح:
١/ خبيرا دوليا في الاقتصاد العالمي، وإدارة المؤسسات (الدولية)،
٢/ على مستوى الشفافية ونظافة اليد واللسان، والأخلاق الحميدة، صار علما ونورا،
٣/ على مستوى الرغبة في خدمة وطنه، يكفي أنه وافق على العودة لقيادة وطن مأزوم، تاركا المرتب الكبير، والمخصصات الوفيرة.

جاء محاولا تقديم أقصى ما يملك من قدرات فكرية، وعلاقات دولية واقليمية، ومهارات إدارية، جاء ليوظفها كلها لمصلحة وطنه وشعبه الذي أتى به لإنقاذ بلاده من غيابت جب الضياع.
لكن الرجل اصطدم بعدد من مراكز القوى المتناحرة، كل منها يمثل دولة أو دويلة عميقة قائمة بذاتها، فعاد إلى الصندوق القديم، بفعل ما وغر في العقل الباطن، حذرا، متوجسا من غول الكراهية الذي نما داخل المجتمع، السوداني، والعلم دولة تجار الدين، فحاول إمساك العصا من وسطها، لأنه أصبح حاكما تنفيذيا للسودان. وسأحاول هنا، ترتيب هذه القوى تنازليا حسب تأثيرها، وهي:

أ/ الشارع: هو الذي فجر الثورة، وقدم الشهداء والجرحى والمفقودين، وزف قحت عريسا لثورته التي اذهلت العالم، لكن الذي يؤسف له، ان العريس(لم يكن هناك). على أن الشارع ما يزال ممسكا بزمام المبادأة، ويستطيع قلب الطاولة على الجميع، في أي زمان أراد، ولا يبالي، وهو داعم لحكومة حمدوك، إلا اللمم،
ب/ القوى النظامية: بعضها كان يلعب ضمن فريق الحكومة (الأمن والشرطة)، وبعضها يشجع بشراسة في شكل أولتراس (الجيش والدعم السريع)، وكان مدرب الفريق الحكومي قد أدخل أحد المدافعين كبديل في الوقت الضائع (اللجنة الامنية) للمحافظة على نتيجة التعادل (صفر/صفر)، لكن فريق الشعب قاد هجمة جماعية مرتدة، وتحت صيحات الجماهير، ارتبك دفاع الحكومة، وحاول اللاعب البديل إبعاد الكرة، فاسكنها الشباك(نيران صديقة).

من خلال تصرفات المجلس العسكري المنحل، في أيامه الأولى، وضح جليا انه أمن لنفسه مستشارين قانونيين، ومفاوضين محترفين، وحاضنة سياسية (سدنة النظام) بالإضافة إلى براعة العسكر في الإستراتيجيات والخطط والتكتيك والتكنيك، وهذا تخصصهم، مما سهل عليهم السيطرة الكاملة على قوى الحرية والتغيير، ساعدهم على ذلك، تشاكس قحت، وسوء قراءة بعض مكوناتها لقدرات المكون العسكري، في فن التفاوض، وكسب الوقت، والانسحاب التكتيكي، فكان كلما اقترب المفاوضون من نقطة الحسم، (فرنب) المجلس، وأتى بتصرف يغيظ (العدا، ويخلط الاوراق). وكان الاعتصام أمام القيادة، يشكل صداعا نصفيا تدمع من وجعه عيون المجلس، ويطرد النوم من جفون قحت، خاصة بعد تطاول مدته، وتعنت المجلس العسكري، فلما ضاق صدر المجلس، قرر فضه بالطريقة التي رآها العالم، وكان هدفه الاستيلاء الكامل على السلطة (بيان البرهان/٢٠١٩/٦/٣)، لولا قوة الشارع، وعناد (الجيل الراكب راس)، الذي أقام المتاريس، وأعلن الشعب كله إلا قليلا، الإضراب والعصيان المدني في طول البلاد وعرضها، وتواصل تنظيم المواكب المليونية (٣٠ يونيو)، لكن المجلس العسكري استطاع في نهاية المطاف، فرض رؤيته، وكسر هيبة قحت وحكومتها، رغم ظاهر خطاب العسكريين الداعم للثورة، وتقليل قحت من أثر الهزيمة.

ج/ قحت بأحزابها المتشاكسة، ومصالحها المتنافرة، وأيديولوجياتها المتباينة، وعلاقاتها الظاهرة والباطنة، وشعاراتها التي تظهر الوطنية، وتبطن اللهاث وراء المكاسب الضيقة لأحزابها، والسعي لتحقيق مصالحها عاجلا غير آجل، ضربت بتفويض الشارع لها، عرض حيطان القصر، وتكاد الآن تنعزل عن حاضنتها (الشارع)، بفعل سلوك قادة الاحزاب، أولهم رئيس حزب الأمة الموسوم بهادم الثورات/أكتوبر/أبريل/ديسمبر، وتعنت الحزب الشيوعي الذي ظن انه عراب الثورة، وأن الشارع طوع إشارته، وتهديدات الجبهة الثورية، ثم أداء الكوادر الضعيفة في مجلس الوزراء التي جاءت كنتيجة منطقية للمحاصصات الحزبية. هذه السلوكيات، أضعفت قحت وحكومتها، ولولا الاسناد التلقائي الذي وجدته حكومة د. حمدوك من الشارع، لفلت الزمام من يده.

د/ قوى تجمع المهنيين: كان القائد الحقيقي لجموع الثوار، والمحرك للمواكب، والمتحدث الرسمي باسم الثورة، لكنه أصبح بعد نجاح الثورة وسقوط النظام، مثل حصان طروادة، استخدمته الأحزاب للوصول إلى مآربها، ورجع كل كادر أعرج إلى مراحه. وكان للسلوك المتذبذب لتجمع المهنيين الأثر البالغ في ضمور عضلات الثورة، حتى كادت تصاب بالكساح، لكنه الان بدأ خطوة على طريق العودة إلى المسار الصحيح للثورة، اذ قال انه قرر استكمال مؤسسات الثورة، وهو على حق.

د/ قوى الإسلام السياسي: لقد كتبت مبكرا، محذرا من معاداة المكون العسكري، أو استفزازه، ناصحا بالتعامل معه باحترام وتعاون صادق، حتى لا يلجأ إلى مربع (علي وعلى أعدائي)، فلم يستبينوا النصح إلى يوم الله هذا. فلما أحس المجلس من الشارع(الكفر والبغضاء)، ومن الحاضنة السياسية للشارع(قوى الحرية والتغيير)، الانتهازية والشبق للسلطة، مد رجليه متراخيا، ومتعاميا، بل متواطئا مع فلول النظام البائد، فلو فعل المجلس ما كان يفعله العسكر في الانقلابات الكثيرة – من إعتقال جميع رموز النظام في ثلاث ليال وأربعة أيام، من الصف الأول حتى الثالث، وحظر سفرهم، أو حتى خروجهم لواذا، وحل الحزب الحاكم، وحاضنته (الحركة الإسلامية) ومصادرة اموالهم، والصحف والاذاعات المؤيدة لهم، وحل النقابات، ، لما لم يفعلوا كل ذلك، ظن السواد الأعظم من الشعب السوداني، وظنه يكاد يطعن كبد الحقيقة، أن المجلس العسكرى جاء امتدادا للنظام السابق (اللجنة الأمنية)، فحمى سدنته، ومكنهم من توفيق أوضاعهم، وتهريب أموالهم للخارج، والتخلص من المستندات التي تدينهم، وتحويل عقاراتهم بأسماء أخرى لا تمت إليهم بصلة، وقد يكون هذا الأمر تم بأثر رجعي، لأن جميع المؤسسات كانت وما تزال تحت أيدي منسوبي ذلك النظام. لقد سكت منسوبو النظام السابق عن الكلام المباح شهورا، بعد أن ادركهم صباح الثورة، لكنهم حين استيقنوا أن المكون العسكري يظاهرهم، استفادوا مباشرة من المساحة الكافية من الوقت التي منحها لهم المجلس العسكري، فوفقوا أوضاعهم على مهل، وأمنوا غوائل الحكم الجديد، وتأكدوا من أن المكون المدني (دايش)، لا حول له ولا قوة، وكانوا يظنون، وبعض الظن إثم، أن خصومهم سيفعلون بهم فاغرة، بتفعيل مبدأ الشرعية الثورية، لكنهم تفاجأوا بأن قحت وحكومتها وضعا الندى في موضع السيف، وحولوا الشرعية الثورية إلى شرعية أشبه ب (شملة كنيزة، تلاتية، وقدها رباعي)، لأن (حليفهم) تمكن من نزع أظافر وانياب خصومهم. فلما استتب لهم الحال مما جميعه، أمنيا وسياسيا واقتصاديا، استغلوا هذه المنحة، و(نشطوا) سدنتهم، القابضين على جميع مفاصل الدولة، لإحداث بلبلة أمنية بافتعال مصادمات قبلية، واخرى عسكرية، وسياسية بما سمي بالزحف الأخضر، واقتصادية بتجفيف العملات الأجنبية، وإخفاء العملة المحلية، وخنق الأسواق، والمواصلات والأفران وخدمات الجمهور، لتحريك الشارع، والتشكيك في قدرة الحكومة على حل أي مشكلة، والهدف النهائي هو إسقاط الحكومة، أو على الأقل كسر حلقة الالتفاف حولها. ودينيا استخدموا المساجد و منصات التواصل الاجتماعي في إثارة العاطفة الدينية بأن حكومة الثورة، وحاضنتها السياسية قحت، تريد إقصاء الدين من حياة السودانيين، ومصادرة حقوق المسلمين، وأن هؤلاء الكفرة الفجرة، لا خير فيهم – أي – أن عودة الحياة إلى أنصار النظام الساقط(شكلا)، المتجذر موضوعا، كان مدروسا بعناية فائقة، ومتخذا استراتيجية حرق روما.

ه/ لو وضعني التاريخ في مقام حمدوك، لأدرت الفترة الانتقالية بأفكار خارج الصندوق، كما يلي:
– أسند ظهري إلى الشارع مباشرة، وأضع يدي في أيدي أعضاء مجلس السيادة، المكون العسكري بخاصة، لأن هناك استحالة في إدارة هذه البلاد بتعقيداتها الراهنة، دون تماهي المكون العسكري مع الحكومة والثورة، وأؤكد لهم أنهم جزء أساسي وشريك أصيل في الثورة، وهم في الواقع كذلك، لأجعلهم منفعلين أصالة عن انفسهم، ببرامج الفترة الإنتقالية، متفاعلين معها، في الوقت ذاته، أطلب من الشارع اجتناب لغة الكراهية التي ينفثونها تجاه المكون العسكري، والسخرية من أعضاء المكون المدني بمجلس السيادة. سأكون واضحا مع (الأخوة كرومازوف – قحت)، فإما أن يقدموا مصلحة الوطن على مصالحهم الشخصية، أو سأتجاوزهم رغم أنف الوثيقة الدستورية كثيرة الثقوب، لأن قحت في نظري؛ تملصت من جميع أقوالها السابقة أثناء الاعتصام، بأفعالها اللاحقة، وهرولت للحصول على محاصصات حزبية، وقدمت كوادر ضعيفة، كان أداؤها دون طموح الشارع الذي صنع الثورة، ولن أركن – ولو مرحليا – لفرية بناء المؤسسات الديموقراطية، في ظروف تهدد وجود الثورة والحكومة ذاتها.

– ولأنني لست سياسيا، ولا اطمح لرئاسة أو استوزار، لن أغمض عيني، وأنا أرى الثورة تكاد تختطف من أيدي شبابها.. ولذلك سأطلب من الشارع، في كل مدن وقرى السودان، بخطاب شفيف وقوي، تفويضا مباشرا وقويا، لأن قحت تعتقد بأنها هي التي اتت بي، ولذلك فهي تكبلني، فإذا نلت التفويض، لن أجامل أو أداهن، أو أماري أحدا، ويمكنني أن أضع كل الأمور في (فتيل)، كما يقول الشباب.
حسن جبورة

تعليق واحد

  1. تحليل صحيح ودقيق يا جبورة أتفق معك في كل جزئياته حتى نصيحتك لحمدوك للتصرف خارج الصندوق!

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..