إنّ حالة السيولة التي تعتري حكومة الانتقال لا تبشر بخير, وأن الرهان على صبر المواطن لن يستمر طويلاً بحكم سايكلوجية الفرد السوداني الملول, وأن النوايا الحسنة لحمدوك وطاقمه الميمون لن تكون شفيعاً له عندما يحين ميقات انحدار الأمور إلى الدرك الأسفل, فغالب الشعوب الأفريقية والشرق أوسطية لا تتحمل مسئولياتها تجاه الوفاء باستحقاقات الديمقراطية ومتطلبات الحكم الراشد, الذي عبره يتم التداول السلمي للسلطة بناءً على التنافس الحر والشفاف بين المكونات والأحزاب السياسية, و السبب يعود لكثرة وتعدد هذه الكيانات وارتباطها بأيدلوجيات طائفية ودينية وجهوية, لايمكنها تأسيس تنظيمات سياسية حديثة تحقق تطلعات شعوبها, ولأن هذه الشاكلة من الأحزاب تعتمد على الفكر المستورد غير المبتكر والمنتج محلياً, الذي لا يتلاقح مع محددات البيئة الاجتماعية والثقافية لهذه الشعوب.
لقد سارت قوى اعلان الحرية و التغيير على ذات الدرب والنمط البيروقراطي القديم لأحزاب السودان, وباعتبارها الممثل الرسمي للثوار الذين اقتلعوا الدكتاتور كان حري بها أن تكون ثائرة و ضاغطة في حسم ملفات السلام والأمن ومعاش الناس, إذ ماتزال هذه الملفات عالقة وزاحفة سلحفائياً نحو خواتيمها الغير معلومة, فملفات المعتقلين التابعين للحزب البائد المتعلقة بقضايا الفساد المالي وجرائم القتل, لم يتحقق فيها ذلك التقدم الذي يذكر.
فعدم الوصول إلى إتفاق شامل مع حركات الكفاح المسلح سوف يعقد المشهد السياسي, واستعجال (قحت) لتعيين الولاة المدنيين وتكوين البرلمان الانتقالي قبل الوصول لهذا الاتفاق سيرجعنا إلى مربع الحرب مرة اخرى, و بذلك تكون ثورة الشعب السوداني الديسمبرية المجيدة مخفقة في انتشال الوطن من وحل التشرذم والتشتت والانقسام وفاشلة في استئصال منهاجية العقل السياسي القديم, التي تعتبر أس البلاء والعامل الرئيس في القعود بالبلاد وحرمانها التقدم و التطور و الازدهار.
لقد تكشفت الحقيقة وبانت نواجزها على الرغم من المحاولات المستميتة لنفيها من طرفي الشراكة السيادية (المدنيون و العسكريون), وهي أن كيمياء الانسجام والأسباب التوافقية المزعومة بين هذين المكونين لا وجود لها البتة, والدليل القاطع للشك باليقين ما أورده رئيس الوزراء في الحوار المثير الذي اجراه معه الصحفي عثمان ميرغني, واعترافه في ذلك الحوار بأن تبعية بنك السودان المركزي ما زالت تؤول إلى المجلس السيادي, فكلما ذكر المجلس السيادي تبادر إلى ذهن السامع ذلك الشق العسكري صاحب القدح المعلى في إدارة شئون الحكم للفترة الانتقالية الأولى.
وأيضاً من دلائل الاختلاف بين شقي حكومة الانتقال ما بدر من (قحت), من تبرم و عدم ارتياح من سباق التفاوض الذي يقوده نائب رئيس المجلس السيادي, ما يؤكد على أن الحكومة الانتقالية في فترتها الأولى تعيش صراعاً محموماً بين المكونين العسكري والمدني, وتكابد مساعٍ حثيثة وغير معلنة من كلا الطرفين للاستحواذ على السلطة بشكل مطلق بعيداً عن إلزام الوثيقة الدستورية, فكل حقب تاريخنا السياسي تخبرنا عن النكوص وعدم الوفاء بالعهود والمواثيق, وتؤكد لنا دهاء العسكر مقابل ضعف وقلة حيلة المدنيين وفوضويتهم, و يبدوا هذا جلياً في حصول الشق العسكري على امتياز رئاسة المجلس السيادي في فترته الأولى, و ترك مهام الحكومة للمدنيين بل وتحميلهم المسؤولية التنفيذية كاملة.
إن إصرار (قحت) على أخذ جمل الحكومة التنفيذية والتشريعية بما حمل دون الأكتراث لاشراك حركات الكفاح المسلح, سيفشل عملية السلام و يوقف التفاوض و يدفع حملة السلاح إلى توجيه فوهات مدفعيتهم صوب الأهداف الحكومية مرة أخرى, حينها سيتخذ العسكر ذريعة انفراط عقد الأمن و واجب الذود عن تراب الوطن, طريقاً للانقلاب على الحكومة المدنية الضعيفة التي لم تستطع الحفاظ على الأرض ولم تتمكن من حل أزمة المعيشة, نفس الأسباب التي ساقها من قبل العميد عمر حسن عندما انقلب على حكومة الصادق المهدي.
سوف تظل النخبة السياسية السودانية تتعاطي الفشل وتدمنه, ما لم تثور وتنقلب على المنهج القديم في كيفية النظر إلى حلحلة مشاكل البلاد, بأن تتخلى عن ذلك المنهج المعيب الذي لا ينظر إلى السودان إلا من خلال تلك الرؤية السياسية القديمة القاصرة والمحدودة, ففي حال استمرأت (قحت) المضي قدماً لاستكمال هياكل الحكم الانتقالي قبل إدخال كافة الناس في السلم والأمن, سوف تذهب هذه السانحة التاريخية التي اتاحتها ثورة ديسمبر أدراج الرياح فتضيع على السودانيين فرصة أن يكونوا كما يودوا.
إسماعيل عبد الله
[email protected]
تحليل واقعي … سيما أن وضعنا في الاعتبار سياسة أمريكا تجاه السودان … ان الطوق الوحيد الذي يكمن ان يرفع من حجم الضغط على الحكومة و يجعل مركز المدنيين مساويا للعكسر هو الدعم الأمريكي وهذا ان لم يحدث فالتاريخ سيعيد نفسه
لا فض فوك ولا جف قلمك، مقال موضوعي و علمي
منذ بداية الثورة طرحنا فكرة التركيز على مفاهيم الثورة المعبر عنها في شعاراتها ولا سيما شعار التغيير وقلنا إنه لا يجب أن ينحصر في مجرد تغيير النظام الحاكم وإسقاطه وإنما تغيير مفهوم الحكم للسودان الجديد بالقطيعة الكاملة ليس مع مفهوم وأسلوب حكم الأنجاس الاوغاد فحسب وإنما مع كافة أنماط الحكم السابقة منذ الاستقلال حزبية مدنية كانت أو شمولية عسكرية أو دينية طائفية عقائدية. وهذا الطرح يعني بصريح العبارة التخلي تماماً عن مفهوم الديمقراطية الحزبية بقدر الرفض المطلق للشمولية والانقلابات العسكرية. وقد ثبت تاريخيا مدى وثاقة الارتباط بين النظامين الحزبي السوداني التقليدي والنظام الشمولي الانقلابي الذي أعقب كل حكم حزبي طائفي يميني في ظل معارضة أحزاب أقلية يسارية عقائدية. فالانقلابات العسكرية كانت تأتي دائماً إما بإيعاز من الأغلبية الطائفية الحاكمة أو باشتراك وتدبير من أحزاب الأقلية اليسارية أو العقائدية اليمينية كما هو الحال بالنسبة لانقلاب الأنجاس الذي جثم على صدورنا ثلاثين عاماً .
وبقراءة هذا المشهد فقد طرحت أنا شخصياً من خلال تعليقاتي على مقالات العديد من المثقفاتية حول ضرورة تطبيق الديمقراطية الحزبية لتداول السلطة وأنه لا يوجد لتبادل السلطة خلاف ذلك. فكان ردنا ولماذا لابد من تداول السلطة والحكم بواسطة الأحزاب السياسية؟ ألا يستطيع هذا الشعب وقد استعاد سلطانه وسلطته على بلاده أن يحتفظ بها لنفسه ويمارسها بنفسه إلى الأبد دون وكلاء عنه يدعون تمثيله ويتحدثون باسمه رغما عن أنفه تطبيقا لقواعد هذه الديمقراطية الزائفة التي تحكم بالأغلبية الميكانيكية ولا تبالي بحقوق الأقلية حتى توغر الصدور وينعدم ما يشفيها غير قلب حكم الأغلبية الطاغية بطاغية أكبر. وهنا انتهز دعاة الحزبية من أحزاب الأقلية اليسارية هذه السانحة في أن عبروا عن مصالحهم الخاصة كأحزاب أقلية بأن أعلنوا أن الحل هو ديمقراطية التمثيل النسبي الذي يحفظ حق الأقلية في كل الأحوال وأصروا على أصل الديمقراطية الحزبية على كل حال! وفي رأينا طبعاً وكما هو واضح أن هذا الرد لا يجب على المعضلة الأساسية والمأخذ المبدئي على تبني التمثيل الحزبي للشعب أصلاً والذي نقوم عليه كافة أشكال الحزبية ويتجاهل السؤال الجوهري لماذا لا يستبقي الشعب سلطته كاملة لديه دون تفويض أي جهة سياسية؟ وقد اقترحنا وابنا أن ذلك ممكن من خلال إنشاء منظومة للحكم تقوم على مؤسسات الدولة ومفهوم الخدمة العامة بحيث تقوم مؤسسات الدولة كل في مجاله بأداء دوره في التخطيط والتنفيذ والتطوير والرقابة والقضاء والدفاع وفق علاقات تعاون وتكامل بنص الدستور والقانون. وفي الحقيقة هذا هو دور وعمل الدولة في ممارسة السلطة ولا تبقى سلطة أخرى لتمارسها الأحزاب السياسية أو تشارك فيها مؤسسات الدولة. فإن أصررتم على وجود الأحزاب فلتتحول إلى مراكز دراسات سياسية وبحوث اقتصادية واجتماعية وثقافية علمية لإعانة المؤسسات الرسمية في تبني أطروحاتها العلمية التي تقرها المؤسسات العلمية الجامعية وتؤكد منفعتها للعباد والبلاد.