مقالات وآراء سياسية

جريمة اغتيال الدولة السودانية (9)

د. الهادي عبدالله إدريس أبوضفآئر

الثورة ولدت بعد مخاض عسير، رافعاً شعار حرية، سلام وعدالة لا للتسلية وإلهاب المشاعر والخيال وإنما لتحرير الفضآء العام من الظلم السياسي والإقصآء الاجتماعي والتمييز العرقي، منادياً بشعارات ضد العنصرية في الممارسة والأفعال وقدمت تضحيات عظيمة في سبيل استمرارها، وتعاهدت للشهدآء الذين قدموا أرواحهم رخيصة، متحدين آلة القمع والقهر والإذلال، بحراستها، فرفعت شعار، شهدآئنا ما ماتوا عايشين مع الثوار، خوفاً  من تكرار الممارسات القديمة.

الثورة لا يمكن ان تتقدم إلا اذا تشّكلت كأداة للتفكير الواعى بالآخر، دون التمييز والمحاباة والمحسوبية، فشعاراتها تنتهي  عند الاقتراب من العنصرية والتعميم، لأنها من أكثر الإشكالات شيوعاً في الممارسة والتطبيق، التفّرقة بين الإسلاميين من افعالهم ضرورة، فهنالك أفعالاً إيجابية ليست فيها ما يستوجب الإستنكار. فالأستاذ أحمد الخير واخرون كثر لا نعرفهم قدموا ارواحهم فدآء للوطن. فشعار اي كوز ندوسو دوس، يجب ان يوجه إلى فئة معينةً من الذين أجْرموا وكانوا يضحكون ومن ساندهم وأتخذ موقفاً عدائيًا ضد الثورة وإن كان يسارياً أو عروبياً، فلا يمكن اسقاطه جزافاً على كل الاسلامين.

الكوزنة، ليست خصلة لصيقة بصاحبها على الدوام، هي صفة لكل من مارسها معنوياً وحسياً، وتحمل دوماً وجهة نظر سلبية ، إسلامية كانت ام يسارية، رجعياً أو تقدمياً، فالأول يزعم انه وكيل لله في الأرض، وما عداه لغير الله، والثاني يزعم انه على حق وكل ما عداه باطل. فأما مكانة الكوز لبقية الاسلامين مثل مكانة، امرأت نوح وأمرأت لوط، (ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ ۖ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ) فهي تمثل وصفاً معيناً لحالة معينة، يمكن ان تنطبق على كل من يمارسها وإن كان ثآئراً. فالمحاباة والتمييز بذرة نتنة لا تنبت في ارض حرية، سلام، وعدالة.

الشخص الذي يتوقع مجرد التفوه بكلمات وشعارات معينة ستنتج حقآئقاً موضوعية تحصل على أرض الواقع يكون واهمًا،  فترديد الشعارات دونّما الأخذ  بالأسباب، دلالة على طفولة فكرية وتغيب للوعي الجمعي. كثيرًا ما تجد الأصوات تعلوا دآئماً بالفضآئل المضادة لأصحاب المصالح، مثل العفة، والامانة والصدق، و إن كانت تبقى دوماً فوق المنابر، ولا تتجاوز الحناجر، مجرد هتافات تملأ الشوارع، والأزقة دون ان تتنزّل على الأرض لتكون سلوكاً عملياً  وقيداً أخلاقياً تكبل الشهوات وتشكل عقاباً للتجاوزات، تجدهم لا يبالون.

بدأ الثوار يكتشفون ان الحرية اهم من قانون النظام العام ومن الشعارات الكاذبة، فناضلوا بشجاعة من اجل الحرية ضد الظلم والفساد والاستبداد. ومن خلال التجربة مع الثورات ضد الطغاة، وجدنا أن لكل فرعون سدنة، وهامانات يجيدون الهتافات تارة بأسم التقدمية وتارة بأسم الدين لإبعاد الشبهات عن أنفسهم، وتحميل الشيطان جُل افعالهم، مما شكّل في المخيلة أن الشيطان مخلوق كريه الرائحة، قبيح المنظر، رث الثياب.

الشيطان قد يكون تقدميًا منادياً بحقوق الإنسان، أو سادناً في معبد، أو راهباً في كنيسة أو مؤذناً في مسجد، يرتدي الملابس البيضآء الجميلة، ولسانه لا يتوقف عن ذكر الله، وسبحته في يده دائما لا يكف عن الاستغفار. بقدرما احتاج إلى المزيد من الكذب والدجل والنفاق يزعم خوفه على الشريعة، وهو اكثر الناس خوفاً منها، لأنها تحرمه من السرقة والقتل والنهب والاغتصاب لو طبقت حقا. فالمنافق الدعوة إلى المبادئ  عنده لا يعني بالضرورة تطبيقها، ولا يخيفه النظرية والأفكار التي لا تتحول إلى سلوك وافعال مهما عظم شأنها وعلا قدرها، بقدر خوفه على مصالحه الذاتية الضيقة. فهو لا يخاف على الدين بقدر خوفه على فقدان أسلوب ونظم الحياة التي ألفه واستفاد منه.

الزاحف تجده يتسامح مع الفاسد، فرجعية التفكير وغياب الضمير عنده ميزة، وليست نظافة الأخلاق واستقامة السلوك، فهو ضمن قوم يعبدون الله بأفواههم ويضعون الشيطان في سلوكم وأفعالهم وشهواتهم. يمجّدون الله عندما يتحدثون عنه و يسيئون له عندما يفعلون. يؤمنون به قولاً ويكفرون به عملاً و سلوكاً. يستخدمون الدين كمبرر لفسادهم ويرفضونه كقوة مانعة لآثامهم. فهم اكثر الناس بعداً من الله. ويريدوننا ان نصدقهم ونروض عقولنا لمشيئتهم، حتى تعجز عن رؤية المستقبل، وتظل مقبرة  لافكارهم النتنة. يتعاملون مع الدين كأنه تابع لهم، وليس كأتباع للدين، فيلزمون الدين ان يكون تفسيراً لأفعالهم  و مسوغاً لرذآئلهم وشهادة لسلوكهم ويجعلونه شاهدًا لشهواتهم، ونصوصاً يكتبها الله لتصبح تشريعاً وامتداداً لأفعالهم.

الذين يريدون حصر الثورة في الشعارات فقط عليهم الإستفاقة من غفلة اتباع سياسة التمكين، فالثورة لم تأتِ دفعة واحدة وبأستمرار لا انقطاع فيها، بل أتت نتيجة تراكم مع الزمن، الا ان هنالك من يريدون مسخ وتقزيم لتراكميتها حين اعتبروا التاسع عشر من ديسمبر هي الثورة ! فهي إمتداد لعمل تاريخي ختمها الثوار في محفل إنساني ضخم شهد له التاريخ. لذلك لم و لن تختفي ذلك الوهج الثوري وتنحصر في فئة بعينها. ولم تتراجع لتفسح الطريق امام تمكين جديد، فالخلاف بين اليمين واليسار خلاف فكري في لغته وملابسه الخارجية،  أما في الممارسة فلا توجد فوارق الكل يريد التمكين.

فالسرقة ليست تحويل أموال الآخرين إلى حسابك الخاص، وإنما اكبر السرقات  سرقة مجهود الثوار الذين قدموا الدموع والدمآء من اجل تغيير الأفكار القديمة المتبلدة ليقيموا مجتمع نابض بالحياة فإما أصحاب المصالح الضيقة يقاومون كل نقدٍ وتغيير ضد مصالحهم الذاتية، فالثورة تمثل نقلة اجتماعية وإنسانية هائلة، يجب أن لا تنشغل بالعنف والعنف المضاد، وبالمخاصمات والمماحكات عن اعمال التغيير.

نصيحتي  للحكومة ولقوي الحرية والتغيير إن اتبعوا الدرب العديل ف ( الشروَل ) مرقد الدبيب. وللخروج من الأزمات لابد من الأخذ بالأسباب، فعقاب المجتمعات في الدنيا لا في الآخرة، فإن هم افلحوا انعكس ذلك خيرًا، ونعمة في الأمن والاستقرار وأسباب الرفاهية وسيادة القانون، وإن ولّي أمرهم امرأة ! فقديمًا سبأ وحديثاً ألمانيا وسنغافورة، وإن فشلوا فعقابهم الحروب والدمار، وأزمة في المواصلات وانعدام الخبز وإنهيار التعليم وتدهور الصحة، وإن صلى كل القوم الصبح حاضراً، وتنقبت كل النسآء. فالله وضع قوانين للكون لا يحابي فيه احدا، فالسيدة مريم عندما جآءها الملك ليهبها غلامًا، اول ما بادر إلى ذهنها الأخذ بالأسباب فقَالَتْ (أَنَّىٰ يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا) وكذلك الحال عند نبي الله زكريا قَالَ رَبِّ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا). الفريق الذي يريد المنافسة على الكأس لا يتعلل بقوة الفريق الآخر بقدر ما يكتشف نقاط الضعف فيقوم بتقويتها وإلا يكون مهزلة بين الكبار من دون رحمة.

(الشروَل) : هو الطريق الغير مسلوك دوماً

د. الهادي عبدالله إدريس أبوضفآئر

[email protected]

 

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..