
21 ديسمبر 2006
ما بين التصريحات والأحاديث المتعارضة التي صدرت عن أكثر من جهة حكومية سودانية حول التطورات اليومية المتسارعة, والأمم المتحدة, والاتحاد الأفريقي, والاتحاد الأوروبي, تبدو أزمة دارفور أكثر تعقيداً، وصارت دروب حلها شائكة ووعرة بصورة يصعب معها على عقل المواطن العادي -بل السياسي المحترف- أن يتنبأ بما يحمله الغد إلى السودان. فمن جهة، تتحدث أحزاب الحكومة مختلفة المواقف عن مسألة القوات الدولية بأكثر من لسان، مع ملاحظة أن نبرة الوعيد والتهديد، قد خفَّت قليلاً، وبدأت تحل محلها لغة في الحديث أقرب إلى الحكمة والحوار. لكن الواقع على الأرض والخطوات العملية ما زالا يراوحان مكانهما. ومن جهة ثانية، فإن مجلس الأمن والسلم الأفريقي الذي كان عليه الاعتماد في دعم موقف الحكومة السودانية، بدأ “حماسه الأخوي” يفتر، وانضم إلى ركب المطالبين بـ”حث” الحكومة السودانية على “المرونة” وتسهيل مهمة الأمم المتحدة ومجلس الأمن، مع تأكيد عدم قدرة قواته فنياً ومادياً على إنفاذ مهمة حفظ سلام دارفور، وإيقاف القتال والحرب التي طالت عملياتها بعض أفراد قواته. والاتحاد الأوروبي الذي كان يناور في المنزلة بين المنزلتين (ما بين موقف الولايات المتحدة وبريطانيا المهدِّد بفرض العقوبات والحظر الجوي، وموقف حكومة السودان)، دعا صراحة الحكومة في بيان أصدره زعماؤه خلال قمتهم في بروكسل هذا الأسبوع إلى إعلان قبولها غير المشروط لتنفيذ خطة الأمم المتحدة بالكامل (خطة عنان الأخيرة في اجتماع أديس أبابا) لدعم بعثة الاتحاد الأفريقي في السودان.
أما الولايات المتحدة وبريطانيا، فقد تصاعد موقفهما من النصح والترغيب إلى الإعلان صراحة عن أنهما تفكران في فرض حظر جوي فوق إقليم دارفور إذا لم تسمح الحكومة السودانية بدخول قوات حفظ سلام دولية إلى المنطقة, بل أبعد من ذلك، فقد نشر أن العسكريين الأميركيين والبريطانيين بدأوا في دراسة الأمر فنياً.
في خضم هذا السيل المنهمر من التصريحات والأحاديث الصحفية، ومع ازدياد حوادث “الفلتان الأمني” كما تسميها الحكومة في دارفور حتى وصلت إلى مدينة الفاشر (حاضرة الإقليم التاريخية الكبرى) بات المواطن السوداني يعيش حالة من فقدان الثقة والشك، ليس في الحاضر الماثل فحسب، بل في الغد الذي كان يرجو أن يعمه سلام يعيد إلى البلاد بعض استقرارها وأمنها المفقود ويطمئن أهلها على وحدتها، التي يكاد الناس يرون أن تبعثرها وتشرذمها أصبح أقرب من تحقيق وحدتها.
حالة فقدان الثقة والشك في الحاضر والمستقبل، التي تسود أكثرية الدوائر الشعبية السودانية، لهي أخطر من الأخطار المتوهمة من دخول أية قوات دولية إلى دارفور أو غيره من بقاع السودان. فعندما يسود هذا الإحساس المواطنين، وعندما يشعر المواطن بأنه لم يعد يملك من أمر وطنه شيئاً، ولم يعد يسمع له صوت أو رأي في حاضره أو مستقبله، حينئذ تصبح الهزيمة النفسية أولى الخطوات التي تقود إلى الهزيمة الوطنية, وعند ذلك يصبح الطريق ممهداً للأجنبي ليفعل ما يريد أن يفعل في هذا البلد الذي فقد أغلبية أهله الإحساس بالانتماء إليه، لأنه لم يعد وطنهم بل أصبح حكراً مسجلاً لأقلية منهم تتحكم فيه كيف تشاء.
ولن يجدي الحديث عن المؤامرات الإمبريالية, والأجندات الخفية شيئاً، ولن يحرك نبض الجماهير وحسها الوطني، ولن يخيفها مثل هذا الحديث المكرر والمعاد، لأنها أصلاً لم تعد ترى فارقاً بين الاحتلال الأجنبي و”الاحتلال الوطني”! وإذا لم يتدارك السودانيون الأمر بالحكمة والرشاد، وإذا لم يتنازل الحكام عن المعاندة والعناد غير المجدي وغير المفيد، فإن عاقبة الأمر ستكون كارثة دونها كوارث معاصرة شهدها الناس في بلاد شقيقة معروفة.
عبدالله عبيد حسن