أخبار السودان

تحديات الفترة الانتقالية وقضاياها (1)

أضْواء على الإتفاق الإطاري في ظل الفترة الانتقالية

أحمد يعقوب

إنّ السودان الحالي هو محصلة ناقصة ونتاج غير مكتمل لعملية تاريخية طويلة ومعقدة. فقد تعرضت البلاد إلى عملية متواصلة من التّغير والتحّول عبر التاريخ، والى تحولات عميقة وجذرية سواء في الهوية أو القضايا ( الاقتصادية ، السياسية ، الثقافية….الخ. ) أو في علاقة المجتمعات مع غيرها داخل الرقعة الجغرافية وذلك تبعا لعلاقات وتفاعلات السلطة وسط وبين القوى الاجتماعية والسياسية والتاريخية في فترة معينة.
ولطالما كان السودان ولا يزال، في ظروف وتحت شروط تكلّس الفكر السياسي السوداني وغياب الوجدان المشترك والتحزب الضيق والانغلاق الايديولوجي للاحزاب السياسية وكذا التفكير السكولائي لقادة الاحزاب، يرزح تحت نيران الحروب وعدم الاستقرار السياسي وضعف الأداء الاقتصادي والفقر المدقع وعدم تكافؤ الفرص؛ فانه لمن الاستحالة بمكان بناء مجتمع سعيد ومزدهر على أساس العنصرية والشوفينية الدينية والطائفية والقبلية والعبودية أو الدكتاتورية (إن كانت دكتاتورية البروليتاريا أو العسكر أو رجال الدين). فمن المحتوم أن يتحول أي مجتمع يقوم على هذه الايدولوجيات الضيقة والمحدودة أو الحزبية إلى شكل من أشكال الفاشية أو الدكتاتورية ولا محال أن يفضى إلى زعزعة الاستقرار والحروب وإلى تمزق وتفسخ البلاد في نهاية الأمر.
سيظلّ السؤال الرئيسي ( كيف يحكم السودان؟) هو المحك الاساسي الذي يحتاج منّا الى اجابة صادقة بعيدة عن التحزب والايديولوجيات الضيقة ، وذلك في حال اردنا بناء وطن تسوده قيم الحرية والعدالة والسلام وسيظل سؤالُ، لماذا يُعرِّض مجتمعٍ ما نفسه لإندلاع حروب ومعاناة في مناطق عدة من البلاد؟ رهيناً بالاجابة على السؤال الاول الذي يحتاج الى تضافر جهود جميع السودانيين والاتفاق على حل يخرج بلادنا من مآزقها التاريخية ويصحّح الوضعية المختلّة والتمايزات داخل المجتمع السوداني.
أود ان اشير الى أن هذا المقال سيكون فاتحة للمقالات التي ستُنشر تباعاً والتي ستتناول الفترة الانتقالية وتحدياتها وقضاياها الرئيسية واولوياتها المستعجلة ، وسافتتح هذه السلسلة من المقالات المعنونة بـ( تحديات الفترة الانتقالية وقضاياها) بهذا المقال الذي يتناول الاتفاق الاطاري الذي وقع أخيراً بين الحكومة الانتقالية والحركة الشعبية لتحرير السودان في عاصمة جمهورية جنوب السودان – جوبا وأهمية تنفيذ بنوده المتفق عليها بين الطرفين ، ولقد حددت الوثيقة الدستورية اولويات الفترة الانتقالية والقضايا الملحة والعاجلة التي تحتاج الى حلول قبل نهاية الفترة ، وسأقرأ هذا الاتفاق مقروناً مع ما جاء في الوثيقة الدستورية، وطرق تحقيق وانجاز ما اتفق عليه في الوثيقة والاتفاق الاطاري .
قام السودانيين بانجاز ثوراتٍ ثلاث ( 1964-1985-2018) ولم تنجز ثورتي 64 و85 أي شئ يذكر فيما يتعلق بالبناء الوطني أو الاتفاق على دستور دائم يتفق عليه كل السودانيين ، بل استبدلت الديكتاتوريات بدكتاتورية جديدة! وغاب عن هذه الثورات الاجابة على السؤال التاريخي حول كيف يحكم السودان ، ولم يتم وضع لبنات البناء الاقتصادي المتين ولم يحسم جدل الهوية ، ولا حسمت جذور المشاكل التي ادت الى اندلاع الحروب في رقعات مختلفة من البلاد ( 18 اغسطس 1955- توريت، 16 مايو1983 بور )،وقد اتيحت للسودانيين في هذه الثورات ؛ وضع اسس البناء الوطني وتفادي المآزق التي لاتزال البلاد تدفع ثمنها حتى الان ، ومن الصعوبة بمكان الحكم على ثورة ديسمبر 2018 الان فهي كظاهرة لم تكتمل بعض ، ولكن يمكن القول ان الاولويات التي تم وضعها لتنفيذها في الفترة الانتقالية كمناقشة جذور ازمات الحرب ووضع الحلول لها بالاضافة الى خصوصية المناطق المتأثرة بالحرب وقضايا الحكم والاراضي وارجاع الحواكير الى اهلها والترتيبات الامنية وقضايا التهميش وعدالة توزيع الثروة والسلطة وكذا العدالة الانتقالية وانصاف الضحايا ( راجع الفصل الخامس عشر والمعنون بقضايا السلام الشامل – الوثيقة الدستورية) ان هذه القضايا تستحق المناقشة الجادة فهي اس المشكل السوداني ، وحل هذه القضايا يعني بداية التوافق على مشروع للبناء الوطني وكذا التوافق على دستور واحد ودائم مما يؤدي الى الاستقرار السياسي والاقتصادي فالازمة كانت ولاتزال سياسية بامتياز.
في الرابع والعشرين من يناير المنصرم وقعت الحكومة الانتقالية والحركة الشعبية لتحرير السودان على الاتفاق الاطاري ، الذي شخّص ازمات السودان دون انحياز ايدولوجي ووضعت الاطار العام لحلها ، الاتفاق الذي تم التوقيع عليه بين الطرفين لم يكن اتفاقاً عادياً فقد لاقى الترحيب من قبل الاسرة الاقليمية والدولية ومن اطراف اخرى ، وقد وصف هذا الاتفاق بأنه قد “وضع الاساس السياسي والامني لكل مسارات التفاوض في منبر جوبا” وذلك لبنائه الصلد ولمناقشته جوهر الازمة واس المشكل.
ينبغي القول ؛إنّ هوية الدولة ليست هوية جماعة واحدة من الجماعات المكونة للدولة، وليست هوية أي فرد من الأفراد الموجودين داخلها. بل هي هوية متعالية تفترض في نفسها الممثل الشرعي للهويات الفردية والهويات الجمعية لمواطنيها. ومصدر المشروعية لهذه الهوية هو اعتراف المواطنين بها، وإلا فسينشأ إشكال الهوية كما هو حادث في السودان، وقد وُضِع الاطار العام لهذه القضية في الاتفاق الاطاري تمهيداً لمناقشتها بشكل كلي في المؤتمر الدستوري الذي يجب ان يقوم قبل نهاية الفترة الانتقالية بجانب قضية علاقة الدين بالدولة وقضايا اخرى ستحدد لاحقاً ، على سبيل المثال جاء في نص الاتفاق الاطاري ” المواطنة بلا تمييز هي أساس كل الحقوق والواجبات المدنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية” ايضاً ورد ” تعتبر كل اللغات السودانية الأصلية لغات قومية يجب احترامها وتطويرها والاحتفاء بها بالتساوي” انظر ايضاً الفقر 13-8 من الاتفاقية، وما كان ممكناً الوصول لهذه النقاط في ظل التفاوض مع النظام البائد لولا قيام الثورة.
إن أحد أهم أهداف الفترة الانتقالية في البلاد يجب ان تبدأ ببناء عملية دستورية متكاملة لوضع وصياغة دستور ديمقراطي جديد ودائم للسودان يضمن كفالة الحقوق والحريات لكل السودانيين/ات وذلك بالاستفادة من دروس التاريخ السوداني بما يشمل البنود الملائمة من وثيقة الحقوق المضمنة في الوثيقة الدستورية والمصادر الملائمة ذات الصلة من القوانين والسياسات السودانية.
وتكمن أهمية الاتفاق الاطاري في مواكبته للراهن والمتغييرات التي تمر بها البلاد ، ومناقشته للازمات وتشخيصها ووضع الاطار العام لحلها، ويبدو جليّاً ان الوضع ببلادنا هش وقابل للانهيار في حال عدم وجود صيغة مثلى للتوافق بين الحكومة الانتقالية بمجلسيها وقوى الحرية والتغيير والجبهة الثورية وقوى الكفاح المسلح، بجانب أهمية استكمال هياكل الحكم الانتقالي وهو ما يعني استكمال جزء من أهداف الثورة ، التي تحتاج الى تكاتف جميع هذه القوى من اجل تحقيق ماقامت من اجله الثورة .
قضية انهاء الحرب قبل نهاية الفترة الانتقالية وعودة النازحيين واللاجئين وتحقيق سلام شامل وعادل يجب ان تكون الاولوية الاولى للحكومة الانتقالية، وكذا تنفيذ وكفالة وحماية مخرجات الفترة الانتقالية في السودان، بما في ذلك اتفاقيات السلام التي سيتم التوصل اليها وما يتمخض من هذه العملية في بناء دستور دائم للسودان، وهو ما يتطلب ترتيبات أمنية شاملة في السودان والمنطقتين من أجل تحقيق السلام والديمقراطية والإستقرار في السودان.
نواصل ……..

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..