
كان الصحفي “فائق أردسوف” مراسل وكالة الأنباء اليوغوسلافية في القاهرة من خمسينيات إلى سبعينيات القرن الماضي، صحفياً لامعاً وشاباً ذكياً، وكان اختياره ليمثل وكالة الأنباء الرسمية في تلك الفترة التاريخية اختياراً موفقاً. فقد كانت علاقات يوغوسلافيا إبان حكم تيتو، ومصر إبان حكم عبدالناصر قوية، في وقت شهد صعود كتلة عدم الانحياز (الذي أصبح إيجابياً) ومثلث (عبدالناصر-نهرو- تيتو)، ونهوض حركة التحرر الوطني الأفريقي والدعوة للوحدة القومية، قوية وراسخة. وكان المارشال “تيتو” يولي علاقاته مع عبدالناصر ومصر مكانة خاصة لدرجة أنه اختار أحد رفاقه وعضو اللجنة المركزية لرابطة الشيوعيين سفيراً له عند عبدالناصر، وكان السفير هو الشقيق الأكبر للزميل الصحفي فائق الذي كان يجيد اللغة العربية ويحفظ كثيراً من القرآن الكريم.
وجاء فائق في زيارة للسودان مصاحباً للرئيس تيتو، وقد كان عبدالناصر حريصاً أن يثمن علاقات يوغوسلافيا بنظام الحكم السوداني آنذاك، وفي ذات ليلة من ليالي الخرطوم أسرَّ لي حديثاً جاداً، بدأ الكلام عن المارشال ودوره التاريخي في توحيد يوغوسلافيا وسياساته الذكية وقبضته القوية لآلة الحكم والحزب، التي مكنته من المحافظة على يوغوسلافيا بلداً موحداً، وقال لي فائق ضمن ماقاله وبشيء من القلق والخوف المشروع، إن المرء لا يدري ماذا سيكون مصير يوغوسلافيا ومصائر المسلمين اليوغسلاف والكروات إذا اختفى الزعيم التاريخي (والموت حق)؟ وقال لي، لا تصدق أن هؤلاء الجنرالات والسياسيين الصرب الذين يلبسون (بدلة) الحزب ويكثرون الحديث عن وحدة القوميات اليوغوسلافية تحت راية الجنوب وزعامة تيتو، هم شيوعيون حقاً.. فإن في داخل كل واحد منهم يقبع عنصري متخلف فكرياً وقومياً صربياً لا يزال أسيراً لتاريخ انتهى زمانه ولحلم مستحيل تحقيقه يتمثل في إقامة دولة صربياً الكبرى.
ما الذي دعاني لتذكر حديث تلك الليلة التي حدثني أثناءها الزميل فائق عن الصورة الحقيقية للزعامات الصربية الشيوعية؟
الأسبوع الماضي بدأت محاكمة الجنرال راتكو ميلادتش سفاح البوسنة الأشهر، أمام المحكمة الدولية الخاصة بمجرمي الحرب، بعد أن ظل مختفياً أو مخفياً لسبعة عشر عاماً. وهو يُحاكم لارتكابه جرائم حرب وإبادة واغتصاب وقتل الأطفال والنساء المسلمات والكروات، تلك المذابح التي من بشاعتها ووحشيتها، اهتز لها ضمير العالم وإنْ جاء ذلك متأخراً، بعد أن بلغ تجاوز عدد ضحاياه من الرجال والأطفال المسلمين الآلاف خاصة في يوليو عام 1995، وذلك تحت سمع وبصر قوات الأمم المتحدة (القوات الهولندية البالغ عددها أكثر من عشرين ألف جندي)، ووقفت تتفرج وتأسف وتحزن لمشاهدة هذه المأساة الإنسانية، وعذرها آنذاك أن “التعليمات” الصادرة لها تحذرها من التدخل بين الفريقين والقوات المسماة (للسخرية) قوات حماية المدنيين!
كان الجنرال السفاح يتسلى بجثامين ضحاياه بدفنهم في مقابر جماعية تقف اليوم شاهداً على جرائمه ووحشيته ووحشية قواته.
وكل ذلك معروف تاريخياً ومسجلاً في أفلام ووثائق وشهادات الشهود، لكن الذي ذكرني بكلمات الزميل الصحفي فائق تلك الليلة، ما جاء على لسان الجنرال المجرم في افتتاح جلسة البداية في تبرير جرائمه، إذ قال للمحكمة وهو يرفض وينكر الاتهامات الموجهة إليه من قبل ممثل الاتهام الدولي: “لقد دافعت عن شعبي وعن وطني، وأقف اليوم لأدافع عن نفسي، وليس هذا مهم لكن المهم هو أمثولة سأخلفها ورائي وسط شعبي”.
محاكمة السفاح الصربي قد فتحت الجرح الذي ما يزال ينزف، وأعادت إلى الأذهان السؤال الذي يؤرق ويخجل أوروبا والولايات المتحدة والمدنية والحضارة الغربية. لقد وقف هذا العالم حامي حمى حقوق الإنسان والمكلف بإقامة العدل في الأرض، يتفرج على مأساة صربيا، ولم يتخذ حلف الأطلسي قراره بالتدخل في يوغوسلافيا وإنهاء المأساة الإنسانية، إلا تحت ضغط الرأى العام العالمي ومنظمات حقوق الإنسان وجماعات الحقوق المدنية والسلام. وقتها سأل سائل: ترى لو كان هذا الذي يجري اليوم في صربيا يجري في بلد آخر، ولو كان القتلة والسفاحون من المسلمين الذين يقتلون أطفال ونساء شعب مسيحي، فربما كانت ردة العالم الغربي المتمدن والمتحضر مختلفة؟ وأعجب من ذلك فقد سمعت وشاهدت شباباً صربيين يشيدون بالسفاح ويؤكدون على براءته ووطنيته بعد كل ما ارتكبه من جرائم من بداية جلسة الاستماع الأولى!
وكل الحديث عن العدالة والعقاب ومحاكمة مجرمي الحرب لن تشفي جراح أهالي الضحايا ولن تريح الضمير الحي الذي شهد وعاصر المأساة.
عبدالله عبيد حسن