وداعا الصحفي الكبير عبد الله عبيد حسن

توفي في كندا الأسبوع قبل الماضي اخر رموز صحافة الخمسينات والستينات الصحفي الكبير عبدالله عبيد حسن عن عمر مديد قضاه في مهنة النكد كما يسميها استاذ الأجيال عبد الله رجب.
يخلط الكثيرون من ابناء جيلنا والجيل الذي يلينا بين عبد الله عبيد حسن وعبدالله عبيد احمد، فالأثنان من صحافيي الخمسينات والستينات، فالأول كان قوميا عربيا ذا نزعة مصرية ناصرية والثاني ذا انتماء شيوعي ماركسي بل من المؤسسين الأوائل للحزب الشيوعي السوداني منذ كان تحت اسم الجبهة المعادية للاستعمار. عبد الله.الأول كانت اولي خطواته في عالم الصحافة التحاقه بصحيفة تسمي “الاتحاد ” شارك في تأسيسها عام 58 19كل من احمد السيد حمد، وعقيل احمد عقيل ,وحسن دراوي الذي صار محاميا فيما بعد. ولكن سرعان ما فصل عبداللة منها بعد ان شارك في اضراب للصحافة قام به ااتحاد الصحفيين يومذاك حتجاجاعلى اطاحة جمال عبد الناصر بمحمد نجيب الذي كان رئيسا لمصر وذلك في صراع السلطة في الثورة المصرية التي اطاحت بالملكية عام 1953 فقد كان هناك جناحان وسط الأحزاب السياسية السودانية أحدهما مؤيد لعبد الناصروالثاني يقف مع محمد نجيب باعتباره الرئيس الشرعي لمصر.
يروي الراحل عبدالله الذي اجريت معه اكثر من لقاء تسجيلي عند زيارته لأبنه في الدوحة عام2014 انه غادر صحيفةالاتحاد التي توقفت سريعا عن الصدورلأسباب مالية ليلتحق بصحيفة السودان الجديد لصاحبها ورئيس تحريرها احمد يوسف هاشم الذي استقبله بترحاب، ومن هناك انطلق عبد الله كصحفي مخبر أحرز سبقا بعد سبق لما عرف به من قدرة على خلق العلاقات الاجتماعية مع المصادر, ثم اجادته على كتابة التحليلات السياسية، وعند صدورصحيفة التلغراف لصاحبها صالح عرابي في خمسينات القرن الماضي التحق بها حتى صار مديرا للتحرير. والمعروف ان التلغراف كانت تؤيد السياسة المصرية وإنها كانت تطبع في مطبعة مصر مجانا.
عند قيام انقلاب الخامس والعشرين من مايو عام 1969الذي قضي علي الديمقراطية الثانية سارع عبد الله كغيره من اليساريين الي تأييد النظام العسكري الجديد الذي اختار رئيس القضاء السابق بابكر عوض الله العروبي رئيسا للوزراء ولقدرته الصحفية الإستثنائية وقربه من بابكر عوض الله حضر عبدالله اول إجتماع لمجلس الثورة في الأسبوع الأول للإنقلاب كمستشار صحفي للمجلس, ويحكي الزميل الصحفي يحي العوض انه وعبد الله عبيد حضرا اول اجتماع لمجلس قيادة الثورة دون ان يعرفهما احد حتي اكتشفهما عضو مجلس الثورة فاروق حمد الله فصادر اوراقهما وطلب منهما مغادرة القاعة بهدوء حتي لا يعلم النميري الواقعة وحذرهما من نشر شيء مما دار في ذلك الاجتماع. ولكن عبد الله ينفي هذه الرواية ويقول انه حضرالاجتماع بوصفه مستشارا صحفيا للمجلس وليس ممثلا لصحيفة التلغراف وفي اول جولة لقادة الانقلاب لعدد من الدول العربية لشرح طبيعة النظام العسكري الجديد رافق عبد الله الوفد الذي بدأ زيارته بسوريا. ويروي عبد الله لكاتب هذه السطور ان ابو القاسم محمد ابراهيم عضو مجلس الثورة كان لا يستلطفه، وكان يحدجه بنظرات عدائية كلما التقي به، بل ورفض عند زيارة الوفد الي سوريا ان يكون ضمن نزلاء الفندق المخصص للوفد الرسمي , وحسب عبد الله ان لم يجد سببا لهذا العداء غير المبرر من ابي القاسم له غير ان الراجح ان ابا القاسم كان يشتبه في ان يكون عبد الله مدسوسا من قبل المصريين لتقديم تقارير لهم عما دار في الرحلة التي شملت سوريا والعراق ومصر. ويروي عبدالله في التحقيق اجريته معه إن شكوك ابي القاسم تزايدت عندما وصل الوفد القاهرة حيث استقبله سامي شرف الرجل القوي في نظام عبد الناصر والمسئول عن ملف السودان وإن سامي أصرعليه ان يرافقه في سيارته الخاصة بينما الوفد استغل سيارات رئاسة الجمهورية فنزل عبد الله في فندق غيرالفندق الذي نزل فيه الوفدالرسمي ومن هنا حسب الراحل عبدالله إزدادت شكوك ابي القاسم حول هوية المرافق الغامض ولكن عبد الله ارجع ذلك لكون سامي شرف صديق قديم له.
عاد الوفد الي الخرطوم ليختار محمود حسيب وزير المواصلات ذي الاتجاهات الناصرية عبد الله مديرا لمكتبه ،وفي غمرة حركة التطهير الواسعة التي شملت كبار موظفي الدولة منح عبدالله منزل مدير السكة الحديد بالقرب من مستشفي الخرطوم بعد قرار من وزير المواصلات محمود حسيب، لكن في غمرة صراعات الأجنحة داخل مجلس قيادة الثورة اطيح بحسيب، لكن عبد الله الذي غادر منزل مدير السكة الحديد بدا رحلة جديدة الي مصر متطلعا الي الجامعة العربية هذه المرة ، ويروي عبدالله ان عمر الحاج موسي وزير الإعلام في عهد النميري كتب له خطابا خاصا الي امين عام الجامعة العربية عبد الخالق حسونه يرشحه فيه مستشارا صحفيا في مكتب الجامعة بالقاهرة وبالفعل جري تعينه في منصب المستشار بجانب الشاعر محمد الفيتوري الذي سبقه للمنصب نفسه ثم غادره الي ليبيا ليختاره الزعيم الليبي ملحقا إعلاميا في القاهرة .
عاش عبد الله معظم حياته في مصر التي عشقها بصدق بحكم وحدويته واعجابه بالزعيم جمال عبد الناصر. وعند الانقلاب العسكري الثالث الذي نفذه الإخوان المسلمون في السودان كان عبد الله انشط المعارضين للنظام العسكري الجديد وانضم الي المعارضة السودانية تحت مسمي التجمع الوطني الديمقراطي،وشرع مع اخرين في اصدار صحيفة للتجمع باسم “السودان” ولكن التجربة لم تنجح حيث صدرت اعداد قليلة من تلك الصحيفة وتوقفت بسبب الإعسار المالي وعدم دعم الحزبين الكبيرين الأمة والاتحادي الديمقراطي لها. هاجر عبد الله بعدذلك الي كندا حيث منح حق اللجوء السياسي له واسرته لينال الجنسية الكندية وليصبح عضوا في الحزب الليبرالي الحاكم في كندا، وكان لعبد الله عبيد عمود اسبوعي في صحيفة الاتحاد الإماراتية يتناول فيه قضايا السودان والمعروف ان صحيفة الإتحاد لاتتيح الفرصة في تخيص عمود علي صفحاتها إلا للصحفيين المقتدرين وكان عبد الله في مقدمتهم , وفي عموده الأسبوعي الذي كان يتابعه مئات السودانيين في الإمارات ساهم عبد عبد الله مساهمة كبيرة في فضح نظام الإخوان المسلمين مسلطا الضوء علي ممارساته القمعية والتي ساعدت كثيرمن القراء الخليجيين في فهم طبيعة النظام الذي اسقطته الثورة السودانية وكما ذكر الصديق محمد سليمان ان عبد الله كان خائفا دائما ان يغادر الدنيا دون ان يشهد سقوط نظام البشير ولكن تحققت امنيته فشهد وهو حي ذهاب عصابة الإسلاميين التي اسامت السودانيين العذاب ثلاثين عاما وهي سنوات حكمها .
كان عبدالله عبيد صديقا حميما للحزب الشيوعي ولزميله الراحل عبد الرحمن احمد فضل الله سكرتير تحرير صحيفة الميدان في عصر الستينات
اللَّهُمَّ، اغْفِر لعبداللهْ وَارْحَمْهُ، وَاعْفُ عنْه وَعَافِهِ، وَأَكْرِمْ نُزُلَهُ، وَوَسِّعْ مُدْخَلَهُ، وَاغْسِلْهُ بمَاءٍ وَثَلْجٍ وَبَرَدٍ، وَنَقِّهِ مِنَ الخَطَايَا كما يُنَقَّى الثَّوْبُ الأبْيَضُ مِنَ الدَّنَسِ، وَأَبْدِلْهُ دَارًا خَيْرًا مِن دَارِهِ، وَأَهْلًا خَيْرًا مِن أَهْلِهِ، وَزَوْجًا خَيْرًا مِن زَوْجِهِ، وَقِهِ فِتْنَةَ القَبْرِ وَعَذَابَ النَّارِ . يقام الماتم بمنزل الأسررة في امدرمان بالقرب من نادي المريخ بعد ان وصل جثمان الفقيد من كندا امس.
صديق محيسي
[email protected]