مقالات وآراء سياسية

فايننشال تايمز تحدد مصير السودان

يوسف نبيل فوزي

يقول ديفيد بيلينغ في المقالة المنشورة له في فاينانشيال تايمز بأنه “إذا تمت محاكمة البشير فإن ذلك سيكون إشارة قوية على أن ثورة السودان حقيقية”

وكلام بيلينغ يدل دلالة واضحة على ان كل ما حدث حتى الآن في السودان كان مجرد تسويات سياسية بين أطراف متنازعة على السلطة وليس على مصير الوطن والانتقال الى الديمقراطية كما يزعم الجميع وكما يحلم المواطنين ، أي بأن تستقر دولة القانون ويعلو صوت الحق بدلا من نظام الدسائس والخداع التي تُحاك ضد الشعب السودانى. وها هو الشعب الآن يذوق ويلات الانقسام المشهود بين الصف المدني الحاكم اسميا والصف العسكري الحاكم فعليا ، حتى تجلت الأزمات المشهودة في الشارع السوداني والتي يعاني منها الجميع اليوم.

ويضيف بيلينغ “إن المدنيين الذين قادوا ثورة سلمية في السودان أصبحوا اليوم يتقاسمون السلطة مع الجيش الذي ثاروا ضده. وهذه الوضعية تُسمى عند البعض باسم “مصيدة ميانمار”، في إشارة إلى ثورة مماثلة أسقطت نظاما عسكريا ليحل محله نظام عسكري آخر اونغ سان سو تشي”

للتوضيح:

كانت أونغ سان سو تشي زعيمة المعارضة المدنية في ميانمار المطالبة بالتحول الديمقراطي ، حيث كانت أونغ حبسية  الإقامة الجبرية لمدة ربع قرن ، وفي عام 2016 وصلت أونغ المعارضة “المدنية” إلى سدة الحكم في ميانمار ، لكنها اختارت بعد فترة قليلة أن تكون “ناطقة باسم العسكريين” التي كانت تحارب ضدهم في السابق .. وهذا ما يقصده بيلينغ “بمصيدة ميانمار” ، أي بأن يتحول جموع المدنيين من حمدوك وأتباعه من صف معارضة عسكرة الحكم إلى صف المتحدث بالنيابة عنهم في المحافل الدولية وهذا ما لم يتم حسبانه من الشعب ، ولم يضع أي عاقل سيناريو كهذا ، والخوف كل الخوف ليس من حدوث هذا الأمر بل إن يعمل السودانيون على تأييد هذا الأمر .. هنا وقعت الكارثة. اي بعد كل تلك المعاناة التي تكبدها الشعب والسنين الطوال من الحرب والذل والقهر تتحول ثورتنا من حقيقة الى مؤامرة مفتعلة ، أي بأن يكون السيد حمدوك نفسه مؤامرة ضد الشعب ، وقد جيئ به لتسكين الآلام الشعب ومداواة جراحهم وتهدئة فيض مشاعر ثورتهم الجياشة ، ومن ثم الانقلاب عليهم بصورة مختلفة ، ولو حدث هذا الأمر سيكون له تفسير واحد فقط: أن حكومة المدنيين هي همزة الوصل بين نظام البشير السابق ونظام المجلس العسكري المتشكل حديثا ، أي أن السيد حمدوك سوف يعتبر “كبري” .. هذا ان صدق حديث بيلينغ!

ويضيف بيلينغ في مقالته على فايننشال تايمز ” إن المدني الذي يشغل منصب رئيس الوزراء في السودان لم يكن سجينا سياسيا معروفا عالميا مثل أونغ سان سوتشي، ولكنه يتمتع بسمعة شعبية طيبة، ولكن هذه السمعة قد تذهب سريعا. فالسيد عبد الله حمدوك ، ينقصه أمران هو في أمس الحاجة إليهما: القوة والمال”

مفاد حديث بيلينغ يوحي ، بأنه لا توجد للسيد حمدوك أي خبرة سياسية ، فهو لم يكن سجين سياسي ولم يكابد معاناة السجناء ولا معاناة الشعب السوداني. والشئ الأهم بأنه يفتقد للقوة لأنه رئيس وزراء مدني محدود الصلاحيات فلا يستطيع الحد من ميزانية الجيش والأمن ولا يستطيع حتى مجرد التدخل في هيكلة تلك المؤسسات.

وفي تكملة مقال بيلينغ يوضح بأن معيار الثورة هي محاكمة البشير في المحكمة الدولية ، لكنه يشكك من صحة تلك الأقاويل ويعتبرها مجرد تطمينات للشعب. لأن محاكمة البشير أمام الجنائية ستفتح الباب لجرجرة باقي رموز نظامه الذين “نفذوا” تلك الجرائم .. وهذا أمر لن يحدث ، لأن بقية العسكر ستطالهم يد المحاسبة أيضا ، والقائمة معروفة لدى الجميع. لذلك فإن هناك حل آخر وهو تسوية سياسية  وسماها بيلينغ بأن يتم محاكمة البشير في الخرطوم بدلا من لاهاي ، لأن القادة العسكريين يخشون أن يكشف البشير في شهادته ضلوعهم في الأحداث التي يتهم بها.

وأضيف لكم بأن التسوية قد تمت بصورة أخرى وهي مقابلة البرهان لي نتنياهو ونيته التطبيع مع إسرائيل.

لكن بيلينغ يصر على ان محاكمة البشير أمر لا مفر منه ، ويضيف أنه “إذا تمت محاكمة البشير فإن ذلك سيكون إشارة قوية على أن ثورة السودان حقيقية. وقد تسمح بإزالة البلاد من قائمة واشنطن للدول الراعية للإرهاب. وإذا لم تفعل الخرطوم ذلك فإن حظوظها منعدمة في إلغاء ديونها البالغة 60 مليار دولار، أو الحصول على تمويلات جديدة”. ”

وفي آخر المقال يرى بيلينغ أن إزالة السودان من قوائم الإرهاب لن تتم إلا إذا دفعت الخرطوم تعويضات لعائلات ضحايا الهجمات التي “يعتقد” أن التخطيط لها في السودان ، ويتعلق الأمر بـ البحارة الأمريكيين ، وعددهم 17 الذين قتلوا في هجوم عام 2000.

وجاء أهم ما في مقالة بيلينغ في السطور التالية التي توضح حقيقة المشهد السوداني من المنظور الغربي والعربي

” أن الثورة السودانية مهددة بالتراجع إذا لم تجد سندا خارجيا، بما في ذلك السند المالي. ويقول إنه في ولاية الرئيس الأمريكي دونالد ترامب “لا يوجد في واشنطن من يهتم بالثورة السودانية. كما أن السعودية والدول الخليجية لا تريد أن ترى الديمقراطية تترسخ في السودان”.

وهذا أمر واضح لا يحتاج الى المزيد من الحبر والورق ، لكن المضحك في الأمر تلك الزيارات التي خاضها حمدوك إلى واشنطن بنية كسر الجمود الأمريكي ، وهناك مثل قديم يقول لا تضع جميع البيض في سلة واحدة. لكن حمدوك أصر على وضع مصير السودان بأكمله في سلة الولايات المتحدة ، التي تطلب حينا بمحاكمة البشير وحينا أخرى تعويضات لأسر الضحايا. لكن الثابت والمعلوم بأن أمريكا ترغب في التحول الديموقراطي اي إزاحة أي حاكم عسكري من المنطقة العربية حتى يتسنى لها تمرير مشروع قرنها بدبلوماسية ناعمة وهذا من جانب. ومن جانب آخر فهي تدفع دول الخليج لتكوين ناتو عربي حتى يتسنى لها القضاء على إيران وإزالة جميع أنواع “التطرف” التي صنعتها امريكا وحلفائها بأيديهم .. وأن اقتضى ذلك إشعال الحرب العالمية الثالثة.

أما بما يخص السودان فإنه ظاهر للعيان والعميان على حد سواء بأن أمريكا لن تكتفي بالتعويضات لأسر الضحايا ، لأنها ترغب في دولة مدنية كاملة وإزاحة العسكر من السلطة السياسية نهائيا بجانب تطبيع العلاقات مع إسرائيل وتوحيد الجيوش غير النظامية أي كان عددها ومن ثم تكوين حكومة سودانية جامعة. وهذا الأمر لن يحدث ما لم يتم حسم ملف البشير وعسكره كل على حده. فمازالت بعض الحركات المسلحة رافضة رفضا قاطعا بأن تجلس مع العسكر لكن التطبيع الإسرائيلي أن تم سيعاد ترتيب أوراق المشهد السوداني جملة وتفصيلا ويصبح فخ مصيدة ميانمار حقيقية غالبة على مصير الشعوب ، وهو بأن يخون المدنيين ثورتهم ويصبحون المتحدث الرسمي باسم الجيش.

 

يوسف نبيل فوزي

[email protected]

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..