مقالات وآراء سياسية

ماريو أنطون: بكائية علَىَ دبلوماسيّ مِن المَسَالمة

جمال محمد إبراهيم

(1)

تلك هي “أ م درمان”.. الكيان الجامع للإثنيات المتنوّعة، مصهرة الألسن المتعدّدة، تلاقي العقائد المتآلفة، وازدهار السحنات في تدرّجها المدهش، بين بياضٍ وسواد وسمرة، ثمّ سمرة داكنة صرفة. يقبلون اللون الأسود، فيقولون عنه تحبباً، “اللون الأخضر”، فيما هو سواد صريح. تلك هي أمدرمان..  تجمع كلّ ذلك في كنفها.  يحبها الأديب الرّاحل علي المك، ويغاضبها الشاعر الأكاديمي محمد الواثق، لكن كلاهما يحبّانها حبّاً، يأخذ لوناً، مما في الأنفس من تجاريب ُتصقل، ومعاناة ُتنعش، ومصــــــادمة ُتهلــــك. تحتضن أم درمان حيّاً رئيساً فيها، اسمه “حيّ المسالمة”. يوحي لك الاسم بالكثير، إذ المسالمة هي إلى كلمة المسامحة أقرب، معنىً ومبنى.

حي” المسالمة”، يقع في قلب المدينة، ليس بعيداً عن سوقها، ولم يكن حيَاً طرفياً مُهمشاً. “المسالمة” هم المسيحيون وبينهم الأقباط الذين كانوا في السودان منذ الحكم التركي في أربعينات القرن التاسع عشر، وربما قبل ذلك.. أبقتهم دولة المهدية، بل استهدفتهم في مشروع “أسلمة” فطير الرؤى، ما تعمّق نظرهم في التسامح تكون قيمته أسمى، وبقائه في الوجدان أدعى.  بعد المهدية، نشأ الحيّ على هدي تسامح ٍ فطري ّ، لا قسر فيه، برغم سنوات العُسر في دولة المهدية، فتجاور المسيحيُّ مع المُسلم، في سكنه، وفي تجارته وفي ملاهيه وملاعبه.   فيهم أسرٌ مسيحية، أصولها من الشام، أسرٌ أخرى، من أقباط مصر، وآخرين من أصول ٍأرمنية.. و ليس بعيداً عن حيّ “المسالمة”، تقيم أسرٌ من أصقاع الهند البعيدة. ليس في أم درمان وحدها، بل هم في الخرطوم وفي الخرطوم بحري، الضلعين الآخرين للعاصمة المثلثة. وتجد أسراً مسيحية كثيرة في بعض مدن السودان الأخرى، في عطبرة وفي الجنينة وفي الفاشر وفي مدني.

في الخرطوم الكبرى. يعرف الناس الآن نادي المكتبة القبطية، ولكن لا يعرفون جيداً أنه في يوم ٍ، كان في الخرطوم مثلاً، أسقفية للروم الأرثوذكس، كان رئيسها في سنوات الخمسينات أسقفاً اسمه إف. إكس. بيني. هذا مما وجدته في النسخة الإنجليزية لـ 1952   SUDAN ALMANAC , ، المطبوع  لحكومة السودان في مطبعة ما كوركوديل . . فتأمل ّ!

جاء الجميع بتقاليدهم المميزة، لكن أيضاً، بكنيسهم ومعابدهم.. وكلهم الآن، سودانيون، أباً عن جد. في حيّ ” المسالمة”، تنظر حولك الآن، ترى الكنيسة تقاسم المسجد، شارعاً واحداً، ويخرج الناس لصلاة عيد الفطر أو عيد الأضحى أو عيد الميلاد المجيد، أو رأس السنة، فيهم مسيحيون وفيهم مسلمون، بملابس ٍ زاهية ٍ، وببشرٍ العيد يلوح في الوجوه.  تختلط في تشكيل فسيفسائي رائع، حتى أسماء ساكني الحيّ: “آل جورج”.. ” آل زكي. “آل عبد السيد”.. “آل اسكندريان”، ” آل أندراوس” وغيرهم. يستوقفك مثلاُ، اسمٌ سودانيّ له وقع ٌ شاميّ: “معلوف”، وهم أسرة كبيرة، لكنهم تفرّقوا الآن بعيداً، لأسبابٍ شتىَ. يستوقفك أيضاً، اسمٌ لمسيحيّ مشرقي: “جورج مشرقي”، صاحب المحل التجاريّ الشهير في ناصية السوق، قريباً من مسجد أم درمان العتيق.. رحل في عام 2005 وعمره ربما تجاوز الثمانين عاماُ، وكان يُحسب من كبار أعيان مدينة “أم درمان”، بل هو سادن ٌ من سدنة تقاليدها السمحة المرعية. شيعه إلى مثواه الأخير جميع أهل المدينة، شيبهم وشبابهم، وكاد السوق في وسط أم درمان، أن يغلق أبوابه جميعها، حداداً عليه، زارت قبره شآبيب الرحمة ونفحات الغفران.

في ذلك الحيّ الأمدرماني، عاش وترعرع صديقي “ماريو”..

(2)

تستوقفك أسماء أسر ٍ مسيحية كثيرة، راسخة المقام في أم درمان، يتداخلون مع جيرانهم، ويقاسمونهم كافة أسباب الحياة، هم في الأفراح، مثلما هم في الأتراح. أسرة “أوتو أنطون “، هي أسرة مميزة وعريقة في “المسالمة”، جاء منها صديقي “ماريو”.  أسرة جليلة، بعضهم رجال أعمال ٍ في سوق المدينة، كما بينهم مثقفون، تبوأوا مناصب في الدولة. “جورج أنطون”- وهو عمٌ لـصديقي   لماريو – تدرّج في السلك الدبلوماسيّ السودانيّ، ووصل فيه إلى درجة الوزير المفوض، وهي تعادل منصب نائب سفير.  ذلك رجل سودانيّ أصيل، تحفظ له وزارة الخارجية سهماً في نشاطها الدبلوماسي، في الستينات والسبعينات، من القرن الذي مضى.

من هذه الأسرة، جاء صديقي الدبلوماسيّ المستشار الرّاحل “ماريو أوتو أنطون”. عرفته في جامعة الخرطوم، سنوات السبعينات من القرن الذي مضى، زميلاً ودوداً خفيض الصوت، يبتسم ابتسامته الآسرة، وقد رسمتها الفطرة في قسمات وجهه الأسمر، فلا يسعك إلا أن تحبّه.  كنتُ أعرف أنه من “المسالمة “.   دبلوماسيّ سوداني، وصديق ٌ، حللنا معاً في سنوات السبعينات في وزارة خارجية السودان. كنا قد عملنا معاً، في سفارتنا في الصين. هو أعزب وأنا مع أسرتي الصغيرة، لم نكن نفترق في ايامنا تلك إلا للنوم.  كنا نكتشف العاصمة الصينية المستغلقة علينا، بسيارتي. نتجوّل في شوارع بكين، الخالية من السيارات، المحتشدة بملايين الدراجات الهوائية: شيء من لزوم ما لا يلزم في النظام الشيوعي، وربما رآه البعض تقشفاً اقتضته تصاريف الأوضاع في الصين، لكنّا شهدنا ونحن هناك، كيف مازج زعيمهم “ينق “تشياو بينج ” بين تزمّت العقيدة السياسية ومرونة التطبيق، فشهدنا بأمّ أعيننا، أول مواطن ٍصينيّ يمتلك سيارة خاصة، وكانت امرأة جريئة في أوسط العمر، تصدرت صورتها صفحات الصحف الصينية كلها ذلك اليوم.

كانت تجربتنا في الصين فريدة وممتعة.  في أيام العطلات، نهرب إلى الأطراف، نتسلق أسوار المدينة القديمة، وأجزاء من سور الصين العظيم.. يدهشنا مسجد في الحيّ الشرقي، ليس بعيداً عن “المدينة المحرمة”، هكذا يسمّون الجزء الإمبراطوري القديم من العاصمة بكين. يغرم الصينيون بمسميات تفوح من بين صرامة الشيوعية فيها وشاعرية المشرق: “الجبل العطري”، في الطرف الشمالي، كنا نتنسم عبيره، أنا وصديقي المستشار ماريو والجنرال عربي-نوراني “، الملحق العسكري في سفارتنا هناك. ” المعبد السماوي” في وسط المدينة، هو مكان نتسكع فيه أيام الأحد، وليس فيه ثمة عبادة!  نبتاع فيه غرائب التحف اليدوية الصينية.  ثم نذهب بعيداً إلى الأنحاء الغربية، فنكتشف أنا وماريو، كنيسة ً نائية ً مهملة ً في أطراف بكين. يحزن كثيراً صديقي ماريو لهيئة الكنيسة المهملة. أذكر أنّي أخذته إليها بسيارتي ذات يوم أحد. عاد إليّ بحكايات وقصص عن المسيحيين الصينيين، يجدون عنتاً في إقامة شعائر الدين، وللماركسية الحمراء، أعراسٌ تقام في ميدان ” تيان آن ميِن”…! لا يهمهم الصينيون حتى الهمهمة الخفيضة، في مثل هذه الحالات.  يرثى لحالهم، أخي “ماريو”. يقول لي: حسرتي إذ افتقد   “المسالمة”..

(3)

في “المسالمة” كان يقيم شاعر يكتب الشعر باللغة العربية المحكية، اسمه صالح عبد السيد (أبو صلاح)، هو من أميز شعراء هذا الفن الشعري الذي يتغنى به مغنون، وعرفَ باسم “غناء الحقيبة ” والاسم يقصد به مجازاً الصندوق يحتوي الشيء الثمين، ولقد كان ذلك الغناء، يحمل في طياته بذرة التشارك في اللغة واللسان والتطريب والعادات، لأناس جمعتهم مصهرة أم درمان، من أصقاعهم البعيدة، فتآلفوا في هذه المدينة، مسلمين ومسيحيين وهندوس، وأشتات من أبناء وأحفاد رجال سود من قبائل جنوب السودان، وآخرين من شرقه ومن غربه. ليس من وصف ٍ أصدق من أن تسّميه ِ التسامح يسمو في نفوس ســــــاكني أم درمان، مدينتي التي أحب.

من حي “المسالمة”، كان لجدّي لأبي، صديق ٌ يحبهُ ويكاد ينزله مرتبة الأخ الشقيق، “اسمه “خورين إسكندريان”، وهو مسيحيّ من أصولٍ أرمنية، كما يوحي أوضح إيحاء، اسم عائلته. أستحضر هيئته، وأنا وقتها في سنّ السادسة أو السابعة، حينما يدلف إلى بيتنا، بسحنته البيضاء وجسمه الممتلئ وبالشورت الخاكي القصير، وعلى رأسه قبعة قماش إنجليزية، من النّوع الذي يميّز الصيادين الأوروبيين في أحراش أفريقيا. يسامر جدّي لساعات وبينهما دورق القهوة أو الشاي، لا يملاّن يصبّان منها أكواباً متتالية. ربما كانت بينهما أمور كثيرة يتقاسمان اهتماماً بها، لكن كان واضحاً لي أنّ “خورين” ليس من أتباع ديننا، وأن هذه الحقيقة عن شخصه، لم تكن ذات بال كما لم تكن مما يضعف تقدير جدّي ومعزّته لِـ ِ”خورين ” .

لم يكن غريباً على انفسي أن تصطفي “ماريو”، صديقاً وأخاً شقيقا، فمن المسالمة في أم درمان، كانت تشعَّ شمس التسامح..  وأنا أسمّي حيَ  “المسالمة”، حيّ ” المسامحة ” ، و ما أصدقه من اسم . . !

(4)

في أوائل التسعينات، أهلك المرض صديقي “ماريو أنطون “. فقد وزنه كله. حين لاقيته قبل أن يسافر إلى مصر مستشفياً، حبست ُ دمعتي، إذ كدت أن لا أتعرّف عليه مما فعلتْ به اللوكيميا- سرطان الدم. أخذته ُ في أحضاني، فكنت ُ أحتوي بذراعي، هيكلاً تتداعى أعضاؤه، ضعفاً وهزالا. أخفيتُ دمعة ً لا أريد لها أن تشوّه جمال ابتسامته الثابتة الجسورة التي عهدتها ترتسم في وجهه، ملمحاً ثابتاً وأصيلاً من ملامح “ماريو”.  لم تهزم بشاشته ولا روحه السمحة، غزوات اللوكيميا، تفتك بخلاياه، خليّة إثر خليّة. لم يكسره المرض أبداً. أحالوه إلى الصالح العام ولم يرَ من حاكَ ذلك القرار، أن الرجل يعاني من مرض قاتل.  برغم ذلك لم يشكُ صديقي “ماريو” لأحد، بل جاء يزورنا في وزارة الخارجية التي أعطاها طرفاً من عمره، ولكنها لم تحفظ له- أو لم تحفظ له سدنتها الذين جاءت بهم غفلة التاريخ – الوفاء المستحق..

كان يبتسم وهو يقول لي: هذا لقائي الأخير لي معكم، فأنا مغادر إلى القاهرة، وظنّي أنه وداعيَ الأخير لكم..

انهار تماسكي وهربتُ بدمعي من ابتسامته، من قوة روح صديقي “ماريو” وهي تسكن أضعف جسم. غادر إلى القاهرة، فكانت رحلته الأخيرة..

(5)

في ذكراه تفيض دموعي عليه، فقد كان في روحه الكثير من روح مدينتي التي أحببت: أم درمان.  لسانه العربي ّ من لسان أم درمان. سحنته السمراء، هي من تلاقي السحنات واختلاط الأعراق فيها.  ثباته وخلقه، هو من ثبات عقيدته، ومن سموّ إيمانه في مدينة، مفتاح شخصيتها، انفتاح وتفاعل وانصهار. حين تمعّـنتُ في قسمات “ماريو أنطون”، وهو يودّعني الوداع الأخير، كنت أرىَ “المسالمة”، بأُسَرِها الممّيزة، تخالط ملامحه: رأيت آل “أوتو أنطون ” كلهم.  رأيت “خورين إسكندريان”، صديق جدّي. رأيت “أبا صلاح”.  رأيتُ “جورج مشرقي”.. رأيتُ المسامحة تطفر من قسماته.  في ذكراه تفيض دموعي عليه، ما تزال. .

 

جمال محمد إبراهيم

[email protected]

 

‫2 تعليقات

  1. كانت حروفك صادقة فأنا احب ام درمان كثيرا واحوم فيها في اجازاتي بدون توقف واتمنى ان اعرف عنها الكثير واخيرا اكرمني الله بالسكن فيها نرجو ان تدلنا على مراجع تحكي عن ام درمان

  2. سلام من بعيد إستاد جمال ،
    تلك ايام العهد الذهبي الذي اتمني ان تعود ، و لكن اصدقك القول باننا ابناء ذاك الزمن الجميل لا زال فينا ذاك الشي الجميل بتأكيده لك بان بلاد المهجر جمعتنا صدفة و اي صُدفة كانت اِذ عرفني أصدقائي من مسيحي مصر بعائلتين من السودان هما آل أندراوس و آل عبد السيد في كندا .
    يا له من زمن حيث كنّا نصتف في حرم الكنيسة مُتلقين العزاء معهم و هم قارئين الفاتحة في المقابر معنا ، مساهمين مع بعض في الكشف اي كان فرح او كره ، هذه مُثُلنا و قيمنا و اخلاقنا ، رحم الله الكاشف حينما شدي و غني انا سوداني !

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..