أخبار السودان

تذكرة عودة إلى جَنَّة الاعتصام

عزالدين صغيرون

الترس ليس مجرد حجارة وبلوكات إسمنتية جامدة صامتة ، أو إطارات سيارات مشتعلة خرساء.

كانت التروس خطوط أفقية تفصل بين تاريخين/ عالمين، وتقطع الخط الزمني إلى زمانين: زمن مضى وزمان آت.

وكان الترس إشارة (قف) مرورية حمراء، قاطعة، حاسمة.

يتوقف عندها “سيلان” الماضي الفوضوي/ اللاعقلاني.

لينفتح الطريق أخضراً، لتدفق تيار الحاضر/ الراهن  … نحو المستقبل.

كان الترس، وسيظل، بوابة الدخول لجنَّة الاعتصام.

(2)

قامت القيامة السودانية الصغرى في ديسمبر 2018، وقبلها شهدت الأرض، طيلة سنوات تواريخ  السودان، منذ ما قبل “الثورة” المهدية اهتزازات صامتة وانفجارات في جوف الأرض.

كانت تلك تقلصات لحظات الطلق والولادة

كانت حركة تكتونية في صفائح الأرض السياسية والاجتماعية، تؤذن بالقيامة القادمة في الطريق.

كتب المغني يومها وقد تناهت إلى أذنيه دمدمات الأرض وهي تتأهب للانفجار معلنة قيامة الوطن:

بروفة لمشاهد القيامة الأولى

في جوف براكين الصمت

تُرزِم حمم الكلام

وهذا السكوت مهما استطال

سيسرج يوماً

حصانه الفضي

بين الأرض والسماوات

على أجنحة الريح.

يمزق جلد الأرض

يحلق عالياً.

والأرضْ

تُخرجُ أثقال جوفها

تغني بلسان فصيح

ترفرف أعلام الأناشيد

ويجري الصخر أنهاراً

يغسل وجه الوادي الجريح

يعمّده شواظاً ونارا

 

– لم يكن حلماً، ما أرى

لم يتلبسني شيطان

ولم تغطيَّني، بعد، (ملايات) الكرى.

::::::::::::::::::::::

تخاصرت الجبال،

(كتف إلى كتفٍ)

والأشجار و”الوديان”

(ساعد على خِصْر)

:::::::::::::::::::::::::

لم يكن حلماً ما أرى

… وفي فوضى المهرجان

رأيت نجمة تهبط

تشارك في الرقص والغناء

وصخرة أنطقها الخمر شِعرا

وعشبة تجيب جارتها:

– إنه “مُولِد وسيده حاضر”

ألا ترين؟

هو “مُولِدْ” السودان “(1).

 

(3)

قدح الشعب زناد صمته، ودوى الهتاف في ديسمبر 2018.

أزفت الساعة وقامت القيامة.

وكان حتماً أن يخرج الموتى من قبورهم التي مكثوا فيها ما شاء الله أن يمكثوا. يهرولون بصخب، سكارى، وما هم بسكارى.

كان عليهم كي يعبروا صراط الانتماء المستقيم، أن يمشوا على شعرة الايمان بالوطن – بثقة وثبات ويقين قوي لا يعرف التردد – ليصلوا بأمانٍ إلى جنة اعتصام أعدَّت للمتقين/ الشرفاء/ الأطهار.

لا مكان فيها للخونة، الذين يبيعون الوطن بدينار، ولا للذين يسترخصون دينهم ويبيعونه بدنس الدنيا.

كانت مسوِّرة باحات الاعتصام بالترس الذي يحيط بها من كل جانب كالسوار على المعصم، وعلى بوابة كل ترس ملائكة يحرسونه آناء الليل وأطياف النهار.

كان الداخلون إلى جنة الاعتصام – حين تأذن لهم  الملائكة بالمرور – يتجردون من أنفسهم وشحها، ويخلعون حذاء أناهم الضيق عند الباب، ليدخلوا في حضرة الجماعة، حيث يجدون أنفسهم فيهم.

ما بعد بوابات الترس، تخلع الأنا اثمالها الباليات، تتجرد من ثياب أناها الضيقة: القبيلة، العرق، الطائفة، الحزب، النقابة، الفريق الذي تشجعه ..

لترتدي ثوب النحن/ الوطن الواسع المريح، زاهي الألوان بجميع السحنات.

ومن شرنقة الأنا الضيِّقة، تخرج فراشة النحن الملونة الحرة، من ظلمة سجنها، تحلق في الفضاء الواسع.

(4)

(قطع: ملاحظة)

لعل هذا المشهد يصلح مدخلاً للإجابة على السؤال الذي ختمنا به الحلقة الثالثة من “مسامرات الترس”، حين أقررنا بأن:

“الثورة في مفهومها الذي ينبغي أن تُفهم به: هي فعل دائم ومستمر، لا يهدأ ولا يتوقف لحظة في حياة المجتمعات الحيّة.

هي فعل تغيير مستمر.

وهي سلمٌ، لصعود المجتمعات والأفراد، لمراقٍ أعلى وأرفع”.

والسؤال هنا هو: كيف يتم ذلك على مدار الساعة؟.

كيف نكون ثواراً في حركة حياتنا اليومية لنحافظ على توازن مجتمعنا/ دولتنا المتحرك بلا توقف؟.

 

(وصل/ استطراد)

الإجابة هي: أن نعيش ديسمبر 18 كحالة وجودية ثابتة ودائمة ومستمرة، بلا انقطاع أو توقف.

أن نعمل على تأبيد الوعي الذي تفجر في ديسمبر 18، وأن نستحضر لحظته في ذاكرتنا، ونعيشها – تلك اللحظة – يوماً بيوم، على مدار الساعة.

لا لأن شبح الانقلاب يلوح في الأفق واضحاً، فحسب؟.

ولا لأن لصوص الثورات يتربصون بها فقط، وبعضهم يردد شعاراتها.

ولكن لأن الثورة عمل يومي لا ينقطع.

وهي ليست فرض كفاية إذا قام به البعض سقط عن الباقين.

الثورة حالة صيرورة مستمرة، عابرة حدود الزمكان:

هي الآن/ الهنا المطلق.

(5)

لكي لا تنطفئ نار الثورة أو تذوي جذوتها، علينا أن نتخلق بأخلاق الاعتصام.

ففي الاعتصام توحَّد الوطن .. وتوحَّدت القلوب حول الوطن.

ذابت السحنات في سحنة واحدة ..

وتلاشت الفوارق والطبقات، وصار الناس/ الأمة، طبقة واحدة.

في جنة الاعتصام لم يكن هناك: إناث/ وذكور، نساء/ ورجال، أولاد/ وبنات.

كان هناك، فقط: إنسان/ جندر سوداني واحد.

توحدت الألسن، فتوحد الهتاف.

توحدت المفردات والأغاني والأناشيد، وحتى الصلوات.

لم تعد الخرطوم عاصمة للوطن، فكل مدن وقرى الثورة كانت عاصمة للوطن في لحظة الفعل الثوري.

::::::::::::::::::::::::::::

بمعجزة ما .. اتسعت رقعة الاعتصام فصارت بمساحة المليون ميل مربع، ووسعت الشعوب المتناثرة، في حيزها الذي لا يتجاوز بضعة أمتار!!.

بعض الناس كانوا يأتون وجيوبهم خاوية ..

والبعض يأتون بجيوب متخمة، يفرغونها في حاويات عند مداخل الترس.

ويخرجون جميعاً وقد أخذ كل واحد منهم من الحاويات ما يكفيه.

يتقاسمون الخدمة واللقمة، والتداوي والأغاني.

ما من رئيس ومرؤوس، ولا من آمر ومطيع.

تساوت وتراصَّت: الأجناس، والقامات، والأصوات.

(تماماً كأسنان المشط)

كانت تلك هي لحظة الحقيقة

وكانت تلك هي اللحظة الحقيقية التي كشف فيها السودان عن وجهه المخفي.

رفع عن وجهه الغطاء، فاستبان للعالم والعالمين وجه “سودان الأعماق” ..

“سوداني .. الجوا وجداني”.

هوامش

(1) يشبِّه السودانيون الحركة الجماعية الفوضوية، حيث يختلط حابل الأمور بنابلها، وتخرج عن السيطرة العقلانية بأنها “مُولِدْ سيده غائب”، والمولد هو الاحتفالات الدينية بمولد النبي (صلى الله عليه وسلم) ابتداء من يوم   كل سنة هجرية، وتتميز سرادق هذه الاحتفالات بنشاطاتها المتنوعة حيث يتداخل ويختلط ما هو ديني مع هو دنيوي ترفيهي. والاشارة في القصيدة تعني بأن القيامة الصغرى/ الثورة التي تشابه “الموُلِدْ” ، لم يكن صاحبه/ الشعب غائباً.

نشرت القصيدة بتاريخ: 12 حزيران/يونيو 2018. وهي من ثلاثة مقاطع تحت عنوان “مشاهد لما حدث بالغد”.

 

عزالدين صغيرون

[email protected]

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..