“الدين أفيون الشعوب”

درج حامد عثمان حامد، بين الحين والآخر، مدفوعا ربما بنزعة ثوريّة لا يعلمها الأرجح سواه، على ممارسة بعض طقوس العبادة “المنافية”، ولو أن جَده بُعث حيّا من القبر لأنكره يقينا، في أمثال ذلك الخروج الغريب، على “الدين”. أما أن يُوصم حامد عثمان حامد، تحت أي ظرف كان، بالخروج عمدا على تعاليم راسخة، فلم يكن ذلك هدفه وما سعى إليه قطُّ، لحظة أن اعتقد أنّه بممارسة مثل تلك الطقوس إنما يعمل على ترميم “حائط بنائه الروحي” مما أصابه، مع تعاقب السنوات وتراكم التجارب، من خدوش وتصدع أو تآكل وتلف. ذلك أن الهرم نفسه بحاجة كما يزعم حامد عثمان في معرض تفسيراته الخاصّة إلى نفسه إلى الصيانة أحيانا. ولا يتورع حامد عثمان حامد، في هذا المنحى، هو المسلّم بالوراثة، من ترديد طقوس ديانات أخرى، كأن يرسم علامة الصليب، في الهواء، أمام نفسه، كشكل سريع يتسم، كما يقول، بالعصرية، خاصّة عندما تدفعه رغبة ضاغطة، لا تحتمل التأجيل، في حمد الله أو شكره. ولم يعدم حامد عثمان حامد الحيلة قطُّ، وهو يفلسف مسلكه هنا، فالتقيد بروتين شكلي عمل ينطوي على إكراه، والتحرر من كثرة العقبات على طريق الوصول إلى الربّ عمل ينطوي على تلقائية موسومة “يقينا” بالصدق، وبالتالي (يصل حامد عثمان حامد إلى تلخيص مسألة الدين لديه)، فما يدفعه طوال الوقت إلى الله، كان الحبّ دائما، لا الخشية.
حاجة حامد عثمان حامد تلك، إلى التواصل غير التقليدي، مع الخالق، كان يعمل هو نفسه مدفوعا، في بعض الأوقات، على مفارقتها، هي بدورها، بنزعة تمردية يائسة ولّدتها داخله الأرجح مقولةُ كارل ماركس “الدين أفيون الشعوب”، وحامد إذ يتمرد في تلك الأحيان، حتى على أي شكل من أشكال التواصل مع الله، سواء أكان ذلك تقليديا أو من وحي ابتكاره الخاص، فإنما يفعل ذلك بحساب شديد وحذر، بل وأكثر: “إلى حين”، ذلك أن التمرد المؤقت على الدين ككل لدي حامد عثمان حامد، كان أقرب للدقة إلى الطيش أو النزق الصبياني، بل ومحكوما دائما والحال تلك بأمل التوبة قبل الموت، ولم يكن مثل هذا التمرد، حتى ليتم علنا، من دون وجود مثل تلك الحوافز التشجيعيّة كالخمر، أو تواجده هو حامد عثمان حامد نفسه، في القلب من مثل ذلك السعار الجماعي للعصيان، كأن يلبي دعوة اللورد الفقير لأكل لحم الخنزير، على نحو أراد حامد عثمان منه، في البدء، أن يشعر، بجرأة عقلية تليق به، كعضوٍ فاعل، في حزب طليعيّ. إلا أن حامد عثمان بدا مثيرا للضحك أول مرة يفعل فيها ذلك، فمع كل قطعة من لحم الخنزير تنسحب إلى جوفه، كان يشرع، عبر منضدة الطعام، في مخاطبة اللورد الفقير، قائلا: “إنّما وّجِدت الحدود، لعبورها، أليس كذلك، يا رفيق؟”.
كان اللورد الغارق في السُكر يجد صعوبة تامّة في متابعة ما ظلّ يكرره عليه حامد عثمان، من صيغ مختلفة لسؤال واحد، مع كل لقمة تصل إليها يده، فرجاه اللورد الفقير مرارا، وبذلك النوع الناعم من الحدة، ألا يُبطل عليه مفعول ثمالته تلك، لأنّها “مكلفة، يا رفيق”. وما لم يكن يدركه اللورد الفقير في حينه أن حامد عثمان كان يقاوم بإلقاء مثل ذلك السؤال مرارا وتكرارا إحساسَ المسلم المحافظ المتصاعد، وراء “قمع الحداثة”، من أعماق روحه السحيقة، والذي ظلّ يخبره، كذلك على نحو متكرر، بإمكانية سقوط صاعقة على رأسه، في أية لحظة، فيموت دون أن يتاح له المرور بطقس التوبة تلك، لأنّه وببساطة “فجرَ في ارتكاب المعصيّة”، ومع اشتعال ذلك التمزق الحاد في داخله، لم يتوصل حامد عثمان قطُّ، إلى كنه ماهية ذلك الذي يميز لحم الخنزير خاصة، من دون لحوم الله الأخرى، إلا أنّ حامد عثمان الوغد قال لي في مرة من المرات أنّه يُشبه “أكل الكنافة”، يا صديقنا شكر الأقرع، ولكن من غير وجود العسل طبعا ضمن المكونات الأخرى”. لا شك عندي، إذا كان الأمر كما يصف، أن حامد عثمان هذا يكون وقتها قد خسرهما معا: الدنيا والآخرة. إلا أن الأمر قد يبدو لي مختلفا نوعا ما، حين نتحدث عن مداومة حامد عثمان حامد على قراءة الأناجيل بالذات، فمع أنّها بدت لديه كذلك كصرعة تمرد تليق بعضو فاعل في حزب طليعي، إلا أنّه سرعان ما أدرك لخلو رصيده تقريبا من أي تاريخ يتعلق بمؤامرات الخدمة المدنية الراسخة حاجته الماسّة تلك، إلى مّن سيُنير له بالحكمة ليل المنفى الحالك الطويل، حيث من المتوقع في أية لحظة أن يبيع إنسانٌ شرفَ إنسانٍ آخر لقاء وجبة من الطعام الرخيص.
“ادخلوا من الباب الضيق. لأنه واسع الباب ورحب الطريق الذي يؤدي إلى الهلاك. وكثيرون هم الذين يدخلون منه. ما أضيق الباب وأكرب الطريق الذي يؤدي إلى الحياة. وقليلون هم الذين يجدونه”.
كان حامد عثمان قد أخذ يتلو مرارا، وبصوتٍ جدُّ خفيض، تلك الآيات الكريمة من انجيل متى، لصدّ ما بدا له فجأة كهجوم جرثومي على العمود الفقري لحائط مقاومته الداخليّة؛ عندما تناهى الطرق، على باب شقته، قويا داويا ومصمما، على الدخول، بأي ثمن. فسأل حامد عثمان نفسه، وهو يمد يده فوق رأس السرير والوسادة، ويكفي الكتاب المقدس على المكتب الخشبي الصغير، قائلا: “يا ترى مَن هو هذا الطارق الغبي؟”. مع أنّ حامد عثمان، ومنذ الطرقة الأولى، كان قد توقع “ما” هوية الطارق”، بيقينٍ عال، أو كما لو أنّه كان يراه بالفعل، عبر خشب الباب المصمت السميك.
أخيرا، نهض حامد عثمان حامد، من جلسته عند منتصف سرير الحديد الضيق، بإيقاع سلحفاة، ومضى متثاقلا، عبر تلك الخطى القصيرة الزاحفة، باتجاه الباب اللعين، ممتلئا، حد التّخمة، بالحدس نفسه، أي كما لو أنّه كان يعرف، بالفعل، “مَن هو الطارق اللعين”. وقد كان. إذ وجد نفسه، وهو يقف تماما كما توقع، قبالة الحاج إبراهيم العربي، مالك الشقة المستأجرة والبناية شخصيا. “اللعنة”، هتف حامد عثمان حالا في نفسه، وهو يمد يده، قائلا بابتسامة:
“أهلا، يا حاج (ارتفع بوق سيارة في الجوار) تفضل”.
لم يسفر وجه الحاج إبراهيم العربي عن سبب للحضور، فخمّن حامد عثمان أنّ حضور الحاج الآن لا بد وأن يكون ذا صلة بحدث تلك الأيام، أي الاغلاق القسري لجزارة الأمانة، وختمها بالشمع الأحمر، من قبل السلطات، بعد أن تم الكشف، عن قيام “الجزار المعني”، حسب تعبير صحيفة الأهرام، ببيع لحوم حمير للناس. كاد الحاج إبراهيم العربي أن يكلّم وقتها طوب الأرض. ولم يتعب وهو يشرح لأهل الحارة بإلحاح أنّه ولا بد استهلك ما يعادل زريبة من الحمير. وحامد عثمان حامد يتراجع، كي يفسح للحاج الطريق، أخذ يفكر، على نحو خاطف وغير متوقع تماما، في مصيره، من بعد مرور مائة عام. ورأى حامد عثمان مالك الشقة، كزائر قسريّ، وهو يشرع، كعادته، في إلقاء نظرة دائرية فاحصة، على المكان، قبل أن يجلس على كرسي الخيزران قبالة رأس السرير، حيث جلس حامد عثمان هناك، عند نهايته الأخرى، وهو ينتظر بعد أن عجز عن تخمين سبب الزيارة ما سيجود به الحاج إبراهيم العربي. إلا أنّ الحاج إبراهيم العربي لم ينطق بعد بكلمة. واصل التفرّس فقط بوجه حامد عثمان. كما لو أنّه يعيد تقييمه. فتململ حامد عثمان في جلسته. وبدأ يقلق. إلى أن أطل، والصمت يتفاقم، عبر باب الشقة الموارب، جانب وجه امرأة خطفا. كانت في طريقها إلى الخارج. فقال حامد عثمان في نفسه: “لعلها إحدى نساء الحاج!”.
ما ظلّ يثير حيرة حامد عثمان حامد، خلال مختلف تلك الزيارات التفقدية المباغتة، أن الحاج إبراهيم العربي لم يعطه الإحساس أبدا أنه على علم، بوجود مثل تلك الصور “الخليعة الماجنة”، التي ألصقها المستأجر السابق، على امتداد أحد الجدران، كيفما اتفق. وغالبا ما كان يفكر عندها حامد عثمان في نفسه، قائلا:
“الحاج يسمح بصورة الشيء إذن، لا الشيء في تحققه العياني!”.
“تشرب شاي؟”.
هكذا بادر حامد عثمان الحاج، الذي من المفترض به أن يكون ضيفا في محاولة لكسر حدة ما بدا صمتا بوليسيا ماكرا، فقال الحاج ردا على سؤال حامد عثمان حامد ذاك: “متشكرين. يدوم”، وهو يمسح على لحيته التي غلب بياضها سوادها، وقال متابعا: “لسه الوقت بدري، يا ولدي، على صلاة المغرب، فقلت أمر عليك”. قال حامد عثمان حامد: “أهلا وسهلا”. وفكر أنّه على الرغم من وجوده لسنوات طويلة في مصر إلا أنّه لم يجد التحدث باللهجة المصرية بعد. كان يشعر في كل مرة يحاول فيها تقليد تلك اللهجة كما لو أنّه يمشي عاريا بين النّاس. وكانت ملامحه الأفريقية البادية لا تساعد كثيرا. وقد انطبع لدى أغلب مَن يُبادله الحديث أنّه لا يفهم بالضبط مغزى حديث حامد عثمان حامد إليه. حتى من قبل أن ينبس حامد عثمان في كثير من المواقف ببنت شفة. وهذا الأرجح ما يحزن. فجأة، قال الحاج إبراهيم العربي: “لا مؤاخذة، يا أستاذ حامد، هو حضرتك مسيحي، ولا مسلّم؟”.
“ليبيع لحمي “جزار الأمانة”، يا شكر الأقرع، ثم ليأكلني الشيطان بشهيّة، وجسمي وقتها مشوي ومحاط بالسلطة والليمون والمشهيات، ثم ليرمي اللعين بما تبقى من عظامي تلك لصغاره، ثم ليرمي هؤلاء السفلة بما تبقى مني في بيت النمل الأبيض، ثم لألحس خراء الأرنب حتّى!؛ لو كان خطر من قبل على ذهني ولو مرة واحدة مثل ذلك السؤال اللعين”. وقد استعاد ذاته قليلا، قال حامد عثمان حامد: “لا، أنا مسلم، يا حاج”. قال الحاج: “الحمد لله”. أي كما لو أن حملا ثقيلا قد أزيح عن كاهله. فقال حامد عثمان هذه المرة بما بدا البراءة المطلقة: “ولكن لِمَ سألتني أصلا، يا حاج؟”. بعد صمت قصير، أجاب الحاج إبراهيم العربي، قائلا: “يعني”. وأخذ وجهه يفيض ثانية بالبشر. لم يفهم حامد ما حدث تماما، إلى أن رمق الحاج أخيرا ذلك الإنجيل القابع أعلى المكتب، قائلا: “أصل أنا شائف عندك كتاب المسيحيين، يعني!”. وأخذ ينقب عميقا داخل عينيّ حامد عثمان. حامد عثمان كان يزعجه كثيرا أن ينقب إنسان في دواخله على ذلك النحو السافر، فقال: “أبدا. دي ثقافة عامة، يا حاج”. قال الحاج بطيبة: “يا ولدي، الشيطان يجري من الإنسان مجرى الدم من العروق”. أومأ حامد عثمان برأسه موافقا، وقد كانت الرأس نفسها، التي أخذت تشتعل، في لحظة، بمحاولة تحديد هوية ذلك الشيطان، الذي أقلق سكينة الحاج إبراهيم العربي، مثيرا توجسه وشكوكه التي لا تنتهي، فتصور الحاج اللعين للحظة أن يكون قد قام من دون أن يدري باستئجار شقته لكافر. ثم خيل بغتة إلي حامد عثمان كما لو أنّه تائه داخل كابوس ما. إلى أن تناهى مجددا صوت الحاج إبراهيم العربي، بالتزامن مع صوت آذان المغرب، قائلا وهو يهم أخيرا بالنهوض: “فتقبلها إذن مني نصيحة (وأشار بسبابته المنفردة كرمح منطلق في ساح معركة لم يكسبها الأرجح أحد إلى الانجيل): لا تقرأ مثل هذه الإسرائيليات مرة أخرى، يا ولدي”. وصمت. هناك، عند عتبة باب الشقة، ضمن طقس فضاء الوداع الخاطف ذاك، مد حامد عثمان حامد يده، بمسكنة وطيبة آسرتين، وخاطب ضيفه، بوقار تام، في سره، قائلا: “عليك اللعنة، يا حاج”.

[email][email protected][/email]

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..