مقالات وآراء

نعم لمفوضية الإصلاح العدلي .. نعم لمجلس القضاء العالي (1)

تحت عنوان (انشاء مجلس القضاء العالي هو السبيل لإصلاح السلطة القضائية وليس المفوضيات غير الآمنة)، كتب د. ابوذر الغفاري مقالا عبر فيه عن وجهة نظره الواردة في عنوان المقال، وقبله كانت ورشة العمل التي أقامتها اللجنة الفنية لقوى الحرية والتغيير، بوزارة العدل لمناقشة مشروع قانون مفوضية الإصلاح العدلي، وكان الأسبق هو إجازة قانون مجلس القضاء العالي بواسطة مجلس الوزراء يوم الخميس 20 فبراير .

سأتخذ من كل ذلك مناسبة لإلقاء بعض الضوء على مشروع قانون المفوضية في مقالين (1)-(2)، بهدف الوصول لفهم مشترك سواء مع المعارضين للمشروع كليا أو لبعض مواده.

❎ أورد د. غفاري : ان : (الأصلح أن تتم عملية الإصلاح عبر الطريق الآمن وقد حددت الوثيقة الدستورية هذا الطريق من خلال مجلس القضاء العالي فنصت على إنشاء المجلس ليحل محل المفوضية القومية للخدمة القضائية).

مع الاحترام، أرى أن هذه الحجة فيها خلط واضح بين المفوضية المقترحة ومفوضية الخدمة القضائية، فالأخيرة هي نفسها مجلس القضاء العالي، وهو الجسم المؤسسي الدائم المعني بإدارة القضاء، حيث عدل الإسم بموجب دستور 2005 من مجلس القضاء لمفوضية الخدمة القضائية، أما مفوضية الإصلاح المقترحة فلا علاقة لها بإدارة القضاء، لكنها جسم معني بإعادة بنائه وتطويره ضمن المنظومة العدلية والحقوقية، وينتهي دورها بإنتهاء مهمتها.
وفي ذلك إجابة واضحة لسؤال د. غفاري : لماذا العدول عن إنشاء مجلس قضاء عالي إلى إنشاء مفوضية إعادة بناء؟ فالسؤال يقوم على اختلاط الفهم بين مفوضية الخدمة القضائية ومفوضية الإصلاح المقترحة، وطبيعة ودور كل منهما.

❎ مجلس القضاء العالي الذي يرى د. غفاري انه الأكثر أمنا، للقيام بعملية الإصلاح، لا وجود له، وقيامه في ذاته يحتاج لوجود الجسم الذي يضمن وجود مجلس قضاء مستقل وقادر وراغب للقيام بعملية الإصلاح .

على حد تعبير د. غفاري : ( السلطة القضائية كغيرها من مؤسسات الدولة الأخرى ظلت تتعرض لتخريب مستمر في ظل نظام حكومة الانقاذ، وربما كان نصيبها من هذا التخريب أكثر من غيرها، بما يتطلب مراجعة حقيقية لها ومعالجة للتشوهات التي طالتها طيلة ثلاثين عاما).
فاذا كانت القضائية قد تعرضت لهذا التخريب الممنهج، فهل يترك لها مهمة أنشاء وتشكيل مجلس قضاء عالي ليقوم بمهمة الإصلاح!! كيف يتصور خروج مجلس قضاء معافى من رحم قضاء يرى د. غفاري نفسه ، انه (مخرب ومشوه) ، ليقوم بإصلاح ذات الجسم الذي خرج من رحمه، والذي قالت الوثيقة الدستورية انه في حاجة لإعادة البناء !! إن فاقد الشئ لا يمكنه ان يعطيه .
لذلك من الضروري أن يكون للمفوضية دورها في وضع التصور اللازم لكيفية تشكيل مجلس القضاء وضمان وجود العضوية القادرة على النهوض بالقضاء، ولا بد أن يكون لنادي القضاة دوره الفاعل في الإصلاح وتحقيق وحماية استقلال القضاء والقضاة، من خلال تمثيله في مجلس القضاء العالي، وان يطبق ذلك أيضا في مجلسي النيابة والعدل.

❎ يرى د. غفاري أن المفوضية المقترحة ليست ضمن المفوضيات التي نصت عليها الوثيقة الدستورية.

هذه حجة مردودة لأن المفوضيات التي سمتها الوثيقة الدستورية، لتحقيق بعض مهام الفترة الانتقالية، نشأت استنادا على النص العام الوارد في المادة 39/1 من الوثيقة : ( تنشأ مفوضيات مستقلة… وتشكل وتحدد اختصاصاتها وفق القوانين التي تنشئها)، بالتالي فإن المفوضية المقترحة تستمد وجودها واستقلالها من هذا النص العام، وتنشأ بموجب قانون، فما دام النص العام يجيز انشاء مفوضيات، فإن تسمية الوثيقة لبعض المفوضيات لا يحول دون انشاء مفوضيات غير مسماه، لتحقيق مهام الفترة الانتقالية ومنها، إعادة بناء وتطوير المنظومة العدلية والحقوقيلة، ذلك لان تسميتها لم تأت إلا لاغراض توزيع سلطة تشكيلها بين مجلسي السيادة والوزراء .

❎ يرى د. غفاري أن مشروع القانون قد جعل على رأس المفوضية رئيس القضاء وأعطاه صلاحيات تنفيذية على بقية الأجهزة العدلية.
في فهمي أن دور المفوضية هنا يقتصر على وضع الأسس والمعايير التي تحقق استقلال الأجهزة العدلية ومنسوبيها، وفي إطار ذلك تترك مباشرة الجوانب العملية وتوصيات العزل والتعيين للجان فرعية تتكون من منسوبي كل جهة لتقوم بما يليها.

ووفقا للتعديل الأخير الذي إعتمدته الورشة سترفع توصيات اللجان عبر المفوضية للجهات المختصة باتخاذ القرار، وهي مجالس القضاء والنيابة والعدل .

❎ يرى د. غفاري أن مشروع القانون قد منح المفوضية صلاحيات من اختصاص أجهزة أخرى، مثل كليات القانون فهي تتبع لوزارة التعليم العالي وجامعاتها، وهي المنوط بها تطويرها، وهذا تقوم به أيضا المجالس العلمية في الجامعات.

نرد على ذلك بأن تبعية الكليات لجامعاتها ودور المجالس العلمية لا خلاف حوله، لكن ليس في مشروع القانون ما يمس حق الكليات في أن يكون لها قانونها ولا بحق المجالس العلمية في مباشرة اختصاصاتها.

مشروع القانون يهدف الي خلق وجود لكليات القانون داخل المفوضية المؤقتة، للاستفادة من أفكار منسوبيها وخبراتهم وتخصصاتهم في إيجاد التصور الأمثل الذي يحقق الإصلاح المؤسسي والتشريعي الذي يضمن استقلال الأجهزة العدلية، ويضمن التطور المستمر لكل المنظومة، لا سيما وان هذه الكليات هي التي ترفد اجهزة العدالة ومنظوماتها المختلفة بالكادر البشري العامل فيها .
إن الأجهزة العدلية ملك للشعب وقد رأي انها في حاجة لإعادة البناء والتطوير ، فبأي منطق يبخل أهل الرأي والخبرة بالمشاركة في هذا الهم الوطني.؟

كذلك يهدف المشروع إلى تمثيل الكليات في المجلس الأعلى للعدالة والقانون، كجسم إشرافي وتنسيقي مستديم، يكفل تكامل الأدوار والتطوير المستمر في اتجاه صناعة العدالة باستقلال وتجرد وكفاءة.

لقد ظل عميد كلية القانون بجامعة الخرطوم، ممثلا في مجلس القضاء العالي ثم في مفوضية الخدمة القضائية، وقد كانت مختصة بإدارة القضاء في كل شؤونه، ولم يقل احد ان في ذلك مساس على نحو ما يقول به الآن د. غفاري!! وهذا المشروع يهدف لوضع امثل يعطي الأجهزة العدلية حق إدارة نفسها، وتظل المنظومة العدلية والحقوقية في حالة تواصل وتنسيق وتعاون وتطوير مستمر، ثم من خلال وجودها في هذا الجسم تستطيع الكليات تلمس آراء المنظومة في كل ما يحقق كفاءة الأداء والمنهج التعليمي الذي يرفد خريجين أكفاء للمنظومة العدلية، ليكون تقييم الآراء والمعالجة في نهاية الأمر متروكا للجهات المعنية، جامعات أو مجالس علمية!! بالتالي لا مبرر للتوجس .

❎ بالنسبة للاختصاصات المتعلقة بوضع أسس ومعايير إعادة البناء والاستقلال.. الخ، فهي من مستلزمات قيام المفوضية بمهامها وليس فيها ما يثير التوجس، لأنها تهدف لإصلاح التخريب والتشويه الذي قاله وبحق، د. غفاري.
لقد تركز فهم معظمنا بأن الإصلاح العدلي يعني فقط تفكيك التمكين البشري ، لكن في تقديري ، ان الإصلاح لن يتحقق لمجرد عزل احد وإبقاء غيره، ان الإصلاح الحقيقي يكون في مدى مقدرة السادة منسوبي تلك الأجهزة علي مواجهة واجتثاث المفاهيم التي غرستها الإنقاذ في النفوس على مدار الثلاثين عاما الماضية .
فإذا توقفنا عند القضاء نجد أن الإنقاذ لم تكتفي بعزل الكفاءات وقطع تواصل الخبرات، بل قامت بالتشويش على مفهوم وضمانات استقلال القضاء، فتولى إدارة القضاء قيادي بالمؤتمر الوطني، فعمل على تقويض استقلال القضاء بطريقة ممنهجة، بأن أقام فرعا للدفاع الشعبي ومكتبا لحزب المؤتمر الوطني داخل مباني السلطة القضائية، وأصبحت السلطة القضائية تجنب المال العام وتشيد المباني، ودخلت مجال التجارة والاستثمار والبيع والشراء، وانعدمت الشفافية في كل مستويات الأداء والمعاملات، فحدث التعايش والاستسهال.

لما كانت الشعارات التي رفعتها الثورة يتوقف تطبيقها على تحقيق استقلال الأجهزة العدلية وفي مقدمتها القضاء ، تصبح الحاجة ماسة لندرك بأن حماية إستقلال القضاء تستلزم حرص السلطة القضائية على عدم التدخل في شؤون السلطات الأخرى، وعدم الاستنصار بسلطة في مواجهة سلطة، وعدم التكتل وخلق الشلليات وعدم التكالب على الوظائف الإدارية على حساب العمل القضائي، وتستلزم التعامل بشفافية مع المال العام والبعد عن التجارة والاستثمار، وكل ما يشين ويتناقض وهيبة ووقار مهنة القضاء.

محاربة كل ذلك يحتاج إلى أن تقوم المفوضية بوضع تعريف مفصل لمفهوم إستقلال القضاء والأجهزة العدلية عموما، وتحديد كل موجبات وضمانات ذلك الإستقلال والنص عليها تفصيلا في القانون الخاص بكل جهة.

وتبقى المشكلة المتعلقة بتدني كفاءة الأداء المهني بسبب إنقطاع تواصل الخبرات، لذلك يبقى من مهام المفوضية السعي لرفع سن المعاش واستنفار كوادر مؤهلة من داخل وخارج السودان .

رغم حقيقة ومرارة كل ما نقول ويقال، فإن ما يبعث على التفاؤل أنه لا زال بالسلطة القضائية والنيابة والعدل، الكثير من الكوادر التي تحمل هم المهنة والراغبة في الإصلاح، ويمكن أن يشكلوا أساساً جيدا لمستقبل عدلي أفضل، ولا يعيبهم كونهم ضحايا مرحلة غابت فيها القيم والمفاهيم السليمة، ويبقى علينا نحن أن نحسن الظن ببعضنا البعض، ونتعاون جميعا في اتجاه ما يعينهم ويحقق الإصلاح .

عبد القادر محمد أحمد
المحامي
[email protected]

‫2 تعليقات

  1. الرجل من دكاترة الأنجاس يا مولانا تحصل عليها منهم وعمل بها لديهم وهذا مبلغ علمه وهذا مستوى فهمهم لاستقلال القضاء الذي يلقنونه لرئيسة القضاء لترديده والتي يجب اجبارها من وزارة المالية بعد تجنيب فلس واحد من الرسوم القضائية والتحقيق معها في تلقي أي تبرعات للقضائية من أية جهة كانت وادخال كافة إيرادات القضاء في ولاية الوزارة فهذا الأمر ليس من استقلال القضاء بل ضده والاستقلال المالي للقضائية يتمثل فقط في الميزانية التي يقترحونها وتجاز لهم ضمن الميزانية العامة وليس أن تترك لأي جهة بالدولة حرية التجارة والاستثمار في الإيرادات العامة وتجنيب الأموال وتخصيصها لأي أغراض غير مجازة من سلطة الولاية على المال العام في الدولة ألا وهي وزارة المالية!

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..