هذا ما نبرع فيه بكفاءة .. قتل عباقرتنا !.

عزالدين صغيرون
“لقد مات، حتى قبل أن يعلن خبر وفاته”.
هذا ما جاء في تقرير بصحيفة The Guardian (1)عن الفنان الشعبي أبو عبيدة حسن (هل تذكرونه؟). الذي بزغ نجمه في السبعينات وأوائل الثمانينات، ثم اختفى صوته فجأة من المذياع واختفت صورته من شاشة التلفزيون والصحف، وكأنه لم يكن. وبعد عشرين عاماً ظهر فجأة من خلال إحدى الصحف لتعلن للناس خبر وفاته. ويمر الخبر دون أن يخلَّف وراءه أي أثر، لا في أجهزة الإعلام، ولا في اتحاد الفنانين، أو حتى اتحاد فن الغناء الشعبي. ثم ها يطفو الاسم مرة أخرى، ولكن على المستوى العالمي هذه المرة.
وكأنه، وهو الانسان البسيط، طيّب القلب – ساخراً – أراد أن ينتقم ويخلص حسابه منَّا على تجاهلنا وازدراءنا له.
ويا له من “حقد نبيل”: أن يرفع مكانتنا بين العالمين، انتقاماً منا!.
(2)
ولكن أليس هذا هو الحال دائماً، أن نزدري ونتجاهل، بل ونقتل بقسوتنا أجمل وأزهي تجليات عبقريتنا في مختلف المجالات؟.
تقرأ ما كتبته القارديان عن أبو عبيدة حسن، وتطالع ما زينت به تقريرها من صور تعكس مختلف مراحل عمره، من شاب وسيم وضيء الوجه لكهل أشعس يتنزه جسده النحيل في فضاء جلباب واسع، ترى صوره في التقرير، فيقفز إلى ذهنك فوراً المصير المأساوي للتجاني يوسف بشير، ومعاوية محمد نور، وإدريس جماع، وعبد الرحمن شيبون، والجنيد على عمر، والدكتور أحمد الطيب، وبهنس وغيرهم كثير ممن لا تحضره الذاكرة الآن.
كيف تركناهم بهذه القسوة وتخلينا عنهم؟!.
وبالمقابل تتذكر ممن أسعفهم الحظ شيء ما، كالطيب صالح، والعالم التجاني الماحي، وشاعر الشعب محجوب الـ “شريف”، وصلاح أحمد إبراهيم وغيرهم ممن نالوا “بعض القليل” مما يستحقون في حياتهم، ولكنا تخلينا عنهم، ودفنا ذكراهم ومآثرهم وأفضالهم علينا مع جثامينهم التي واريناها الثرى.
فأي أمة هذه التي تريد مجداً وترجوا مستقبلاً وهي تدفن رموزها وما يمثلون من قيم عليا، ومن يجسدون أجمل وأنبل وأعظم ما فيها؟!.
ما الذي يبقى في ذاكرة الأجيال إذا نحن دفنا وأهلنا تراب النسيان على عباقرتنا والموهوبين فينا، إلا خراب الحاضر، وتفاصيل مفردات حياتنا اليومية المتناثرة مع نثار الخبز الهارب من أيدينا، والركض اللاهث وراء المركبات؟!.
الأجيال الحالية تعرف حديقة “إشراقة” تلك التي تقع في أرقى أحياء الخرطوم، ولكن من منهم يعرف “ديوان إشراقة” للتجاني يوسف بشير الذي سميت حديقة عبود باسمه؟.
ولماذا جُردت الحديقة من اسم عبود الذي شيدت في عهده، وهي لم تكن “بيضة ديك” مشاريعه التنموية، ليطلق عليها اسم الشهيد “القرشي” أليس في هذا طمس للتاريخ الذي لا ينبغي أن يكون كرة تتقاذفها أقدام الساسة ونزواتهم الوطنية الزائفة؟!.
نحن نُخضع ذاكرتنا التاريخية، وهي أهم مرتكزات هويتنا لأهوائنا السياسية.
* وإلا بأي مسوِّغ يصير شارع “الحرية” شارعاً لـ “السيد علي”؟.
* ويتزين شارع كاترينا باسم بيو يوكوان.
إذا كنا نريد أن نخلد جنوبياً من أبناء السودان، لماذا لا يحمل الشارع اسم مولانا أبيل ألير أو فرانسيس دينق أو جون قرنق، ولكل منهم في مجاله إسهامه ومآثره.
* ما هو إسهام عضو تنظيم الإخوان المسلمين عبيد ختم (رحمه الله) في تاريخ السودان حتى يطلق اسمه على شارع بطول الشارع الذي يحمل اسمه؟.
شارعاً بهذا الطول أليس أحرى أن يحمل اسم التجاني الماحي أو محمد وردي على سبيل المثال؟.
* شارع “المك نمر” – في قلب العاصمة – المسمى باسم تاجر “الرقيق السودانيين” المعروف، أما كان أجدر أن يحمل اسم السلطان إبراهيم حسين المعروف بالسلطان “إبراهيم قرض” الذي استشهد في حربه مع مرتزقة المك نمر دفاعاً عن “عبيد” الأخير، الذين فروا منه والتجأوا لسلطان دارفور الذي رفض تسليمهم له لأن الشرف يمنعه من تسليم اللاجئ؟!.
(3)
نعم كل هذا ممكن ومعقول.
وهذا ما يقوله العقل والمنطق، ويمليه الوفاء لتاريخ السودان وشعوبه .. ولكن السياسة والعصبية القبلية تقول عكس ذلك!.
* لماذا أزلنا تمثالي غردون وكتشنر والجندي المجهول وبوابة السكة حديد، وأول مدرسة الخرطوم شرق التي افتتحها وأدارها رائد التنوير رفاعة رافع الطهاطاوي، وأبقينا على بوابة عبد القيوم. أليست جميعهاً مفردات في كتاب وذاكرة تاريخنا؟!.
من يعطي نفسه الحق في التعامل الانتقائي مع رموز وعلامات تاريخنا ؟ّ.
ألا يبدو من التناقض والنفاق أن نفعل كل ذلك بشواهد تاريخنا، ثم نحتج بقدسية هذا التاريخ، حين لا يرى الإسلاموي في تماثيل حضارتنا النوبية سوى “أصنام” ينبغي أن تحطم.
أو أن نستهجن بأشد العبارات قوة وحرارة تحطيم طالبان لأكبر تمثال لبوذا وهو من تراث الانسانية في أفغانستان؟!.
قرأت مرة لمن ينادي بإعادة آثارنا النوبية المغتربة/ المنهوبة/ المهجرة (قل ما شئت) في متاحف العالم. وقد أوجفت خيفة أن ينبري أحد “الوطنيين المتنطعين” لدعم هذا النداء، وينظم حملة “وطنية خرقاء” يستجيب لها ويتبناها أحد ساستنا الانتهازيين – في السلطة سواء كان أو في معارضتها – ليكسب نقاطاً يدعم بها موقعه في الشارع، وتصبح الحكاية (جد جد).
ولا أدري. هل من يطلق مثل هذه الدعوة على وعي بما يفعل؟. هل فكر للحظة ما سيكون عليه مصير هذه الآثار لو جاءت هنا؟. هل نحن على وعي حقيقي بقيمتها؟.
صحيح نحن شعب عريق له تاريخ قديم وشاد – ما يمكن أن نتفق مع بعض المؤرخين والآثاريين فيه – أول حضارة حقيقية بهذا الاسم في العالم.
ولكن كم عمر ذاكرتنا نحن التاريخية؟. وما عمق وعينا بتاريخنا؟.
طالما لا يزال، كلما (نط) ضابط على ظهر دبابة واعتلى كرسي السلطة، أو كلما استلم حزب أو طائفة السلطة، وأعاد كل منهما كتابة تاريخنا، على نحو ما يشرعن سلطته.
وطالما كل (كم سنة) تم تلقيننا تاريخاً جديداً تتحدد به هويتنا، ستظل ذاكرتنا التاريخية بعمق ومدى ذاكرة سمكة. وسنظل معلقين هكذا بين السماء والأرض، لا نستطيع أن نعثر على مرتكز لهويتنا الوطنية نقف عليه. والذاكرة التاريخية الجمعية كما نعلم إحدى أقوى مرتكزات الهوية لذى الشعوب.
ويزداد ترسيخ ذاكرة تاريخية جمعية نرتكز عليها جميعاً صعوبة، ونحن في الأصل (لحم راس).
أختم بأبو عبيدة حسن الذي أثار تقرير الجارديان عنه كل هذه الخواطر والتداعيات. لنسأل: ماذا كانت مشكلته، ومشكلة من قتلناهم بتجاهلنا وتخلينا حتى يكون مصيرهم بهذه المأساوية التي لا يستحقونها؟.
(4)
المشكلة ببساطة، لو أنه كان ينتمي إلى حزب، أو رابطةقبلية ، أو شلة، أو تعلق بأذيال أي حكومة: عسكرية/ مدنية (ما تفرق)، لكان له شأن، ولتبنته أي من تلك الجهات.
لا يهم مستوى أو نوع إبداعه، بل لا يهم حتى لو كان ما يقدمه لا علاقة له بالإبداع.
ستعمل كانت أبواق الدعاية الحزبية، أو القبلية، أو الشللية، أو الحكومية، بطاقتها القصوى، تسوقه، وتروج له، وتوزع بضاعته على أوسع نطاق (بالكضب والصح).
ماذا يستفيدون من المبدع أو المثقف؟.
إنه يرفع أسهم الحزب، أو الحكومة، أو القبيلة، أو الشلة، أو الجهة.(2).
إذا لم يرض بأن يكون بوقاً سياسياً يروج للنظام أو الحزب بشكل مبتذل ومباشر. فإنه يصلح كقطعة أثاث تزين خرائبهم.
إنهم يستخدمون المبدعين “مناديل ورق” يمسحون بها (غبرة) وجوههم لتبدو ناصعة ونضِرة مشرقة أمام الكاميرات وعلى شاشات التلفزة.
أما أن يجئ المبدع أو المفكر أو الوطني الصادق وحده (مقطوع من شجرة)، لا يحمل من مقومات البقاء تحت الأضواء سوى إبداعه أو عبقريته أو فكره أو صدق وطنتيه … فلن يجد له مكاناً!.
فالمقاعد محجوزة للأدعياء (العندهم ضهر).
لهذا يموت بهنس جوعاً في برد القاهرة على الرصيف!!.
مصادر وهوامش
(1) https://www.theguardian.com/global-development/2020/feb/18/how-sudans-star-of-the-tambour-defied-death-and-dictatorship?CMP
(2) لم يحظ أبو عبيدة حتى بالدعم القبلي الذي حظي به النعام آدم وعثمان اليمني على سبيل المثال، ورغم إشارات التقرير المتكررة إلى إجادته العزف على آلة الطمبور، حتى أن عنوان التقرير يتحدث عن نجم الطمبور السوداني الذي قاوم الموت والديكتاتورية. إلا أنه لم يقدم فنه على النمط القبلي، رغم استخدامه الآلة ومعها الكورس، ولكنه قدم من حيث القالب Formاللحني والكلمات، الأغنية الشبابية الخفيفة الحديثة، وبالتالي فإنه كان يغرد خارج السربين، القبلي والحديث. ورغم هذا استطاع أن يشق طريقه، ويكسب جمهوراً كبيراً في حينه. ولعل من جانب ما يذكر بتجربة النور الجيلاني الفنية، الذي عبر إلى الصفوف الأولى باعتماد المندلين كآلة رئيسة، وبنمط مختلف من الغناء والأداء.
عزالدين صغيرون
[email protected]
https://www.theguardian.com/global-development/2020/feb/18/how-sudans-star-of-the-tambour-defied-death-and-dictatorship?CMP