مقالات وآراء

محمد علي مداوي النقابي المخضرم القومي

عدت الي بورتسودان في إجازة بعد غياب طال في الإغتراب ، فأنا دائما في شوق الي مدينتي الجميلة الوادعة التي تستلقي علي البحر .وكانت هذه المرة الإجازة مختلفة فقد سيطرت عليها أجواء الحزن والكآبة ، أي علي بورسودان بخلاف عهدنا بها منذ الطفولة والصبا والشباب وحتي في فترة عملي كموظف بهيئة المواني البحرية .فقد طغا جو الإقتتال القبلي بين البني عامر والحباب والنوبة ، وما خلفه من ضحايا وأحزان علي المدينة ، والفاجعة الأخري الصراع الدموي التي إستهدف فيه بعض المحسوبين علي قبيلة الأمرأر أيضا قبائل البني عامر والحباب بسبب زيارة ممثل الجبهة الثورية لبورسودان وما خلفه ذلك من ضحايا في الجانبين . يبدوا أنه نسبة لغيابي الطويل من البورت لم إستوعب في البداية ما فعلته حكومة الكيزان في النسيج القبلي الذي يشكل أهم مرتكزات التعايش السلمي بين أبناء الشرق ، بإعتبار أن النوبة أصلا من خارج الشرق مثلنا اللذين جئنا الي الشرق من الشمال بحثا عن الرزق في ميناء السودان بعض أن ضاقت الأرض في الشمالية علي أهلها ، وقد حدث ذلك في كل ولايات السودان التي هاجر اليها أهلنا من الشمال بمختلف قبائلهم .وإندمجنا في هذا النسيج الشرقاوي ولم نكن نعرف تفاصيل القبائل ، وفي المدرسة والكورة والعمل والسينما والمسرح وفي كل المناشط نلتقي لم نكن نميز بين القبائل ، حتي في التعيين في أية مؤسسة حكومية أو قطاع خاص لم نكن نتقدم للوظائف بإسم القبيلة أو الجهوية ، كل تلك الأمراض صنعتها الإنقاذ في الشرق الجميل ويبدوا أن هذا الداء منتشر بكثافة في كل السودان . وإكتشفت أن بعض السياسيين من الأمرار تحديداًكانوا وراء تحريض النوبة علي البني عامر في المرة الثانية بعد تحريض أبناء قبيلتهم علي البني عامر ، ثم قيادتهم حملة تخوين لأبناء البني عامر والحباب في حملة إمتدت لعقد مؤتمرات بلا طائل لإستهداف البني عامر ، بسبب التنافس السياسي .
وفي خضم هذه الذكريات ، وخاصة مع الزملاء السابقين في هيئة الموانئ تذكرت أحد أعلام الشرق وأشهر أبنائه من اللذين عملوا بهيئة المواني ، وكانت لهم إسهامات كبيرة وواضحة من عمله كرئيس لنقاية العاملين وعضو مجلس إدارة هيئة المواني البحرية ممثلا للعاملين ومنتخبا بالتزكية لمدة عشرون عاما .الأ وهو المرحوم / محمدعلي مداوي – النقابي الفذ ،والإنسان القومي الوطني الغيور ، وأهم ماميزه أنه رجل قومي كان يدافع عن حقوق العاملين ولايميز بينهم ومن اية قبيلة أو منطقة جاؤوا ، وكانت كل المواني تنتظر سفر العم مداوي لحضور إجتماعات مجلس الإدارة في الخرطوم ، وتعلم تماما إنه خير من يمثلها وينتزع لها حقوقها ، فكانت الحوافز التي رفعت الإنتاجية ، هذا بجانب دوره مع خالد أونسة رئيس مجلس الإدارة وعلي عبد الرحيم ، عندما إستندوا علي قوة قاعدة مداوي العمالية وأنتزعوا من مجلس الإدارة قرارات تحديث المواني وبناء ميناء الحاويات وميناء سواكن وبناء مستشفي المواني وأندية العاملين بالمواني والعديد من الإنجازات . كان العم مداوي وهو من أبناء البني عامر قوميا يعمل علي حل مشاكل كل العاملين ، وحتي خارج الموانئ تعرفه مدينة بورسودان كرجل ضوء وسط أهله وعشيرته ويعمل علي حل الخلافات بين قبائل البني عامر .كنا أحيانا عندما نسافر الخرطوم ننزل بإستراحة المواني ، والتي أصر عمنا مداوي أن تخصص فيها غرف للعاملين بالموانئ اللذين يلتحقون بالدراسة في الجامعات بالإنتساب . ودائما ما نجلس معه لنستمع لقصصه الرائعة حول تاريخ بورسودان والموانئ وعملهم مع الخواجات والسفريات البحرية والتعامل مع البواخر ولغة الأعلام التي ترفعها البواخر وعدد الفنارات في البحر الأحمر . فقد التحق العم محمدعلي مداوي للعمل بالميناء في قسم البحرية الملكية عام 1951م وتدرج في وظيفة البحار حتي بلغ أعلي درجاتها. وله نوادر كثيرة خلال فترة عمله ، الي جانب هوايات أخري فقد ذكر لنا مرة إنه إلتحق بالكشافة ، وكان يرتاد السينماء بكثافة ، حتي أنه كان معجب بالممثلة والفنانة صباح وكان يراسلها وترد عليه ،ويشجع في كرة القدم حي العرب . كذلك فهو قارئ مميز للكتب والمجلات والصحف وكنا نستمع لتحليلاته عن نكسة 67 في مصر وعبدالناصر وتاريخ الحركة الوطنية في السودان ، وكيف أنه إنضم لشباب الختمية ، ثم أصبح إتحاديا ولفترة قصيرة إنضم للحزب الشيوعي ، ثم الإتحاد الإشتراكي ، وكان يقول إنو الكيزان ديل ماناس حكم ودولة . كنا ننتظر الأمسيات لنجلس معه وأحيانا كنت أخرج معه لزيارة أقاربه في الصحافة والديوم الشرقية ونمرة تلاتة ، وأحد أصدقائه من اسرة أبو سمرة في أبوروف . وقد كتب عنه الزميل محمد عبد القادر مقالا مميزاً في جريدة السودان الحديث عند تقاعده للمعاش عام 1991م ، واذكر أنه كان له إبن صحفي وأخر ضابط إداري ، والآن بعد عودتي سألت عنهم بعد وفاته رحمه الله وعرفت أنه كان متزوج بثلاثة نساء ولديه منهم أبناء وبنات كثيرون كلهم تاهلوا بشهادات جامعية ، حتي البنات تخرجوا من الجامعات . وعلمت أن أبنائه وبناته علي خلاف عادات أهله البني عامر تزوجوا من خارج أسرتهم وقبيلتهم ، حيث تزوجت إبنته من طبيب من أبناء جنوب كردفان وأحد أبنائه متزوج من شايقية والآخر من جعلية وهكذا ، مما يدلل علي قومية هذا الرجل الإداري المميز والنقابي الفذ والقومي بإمتياز ، المثقف الواعي بإتساع هذا الوطن لكل السودانيين ، اللذي لم يجبر حتي بناته من الزواج من أهله . وأذكر أنه ذات مرة كان يتحدث عن القبائل فقال لنا أن المشكلة هي في القبلية التي تسعي الإنقاذ الآن لتكريسها وخطورة ذلك علي مستقبل هذه البلاد ، كان ذلك عند زيارته للخرطوم تقريبا عام 1992م ضمن وفد البجا الذي نظمته وزارة الرعاية الإجتماعية عندما كان وزيرها علي عثمان ، بهدف الإستقطاب القبلي ، وكان العم مداوي يعي ذلك تماما. وكان يقول لنا أن الأحزاب الكبري كالإتحادي وحزب الأمة والحزب الشيوعي وحتي أحزاب القوميين العرب من ناصريين وبعثيين تستطيع أن تعبر بالسودان لمرحلة القومية والأجماع علي قضايا وطنية قومية ، لكن زي ماقال ناس الجبهة ديل ناسيين إنهم بيحكموا بلد ودي دولة وليست تنظيم عقائدي سري . تذكرت تلك الأيام وكيف كان حال الموانئ وما صارت إليه الآن وحال العاملين المهددين بالتشريد ، بل وحال مدينة بورسودان المهددة بعدم الإستقرار نتيجة لجهل قيادات أبناء البجا من كل الأطراف لمعني كلمة القومية والوطنية ، والأخطر جهلهم بأهمية بورسودان التي يعكسون صورة سيئة عن أهلها بتحريضهم علي الإقتتال والإساءة لبعضهم البعض والتشهير والتخوين ، والمشكلة أنهم لا يعرفون أنهم بالنسبة لنا سواء كنا من الشمال أو اللذين من الغرب أو من الجزيرة أو من من جنوب النيل الأزرق ، أقصد من بقية أنحاء السودان عموما ، أنهم بالنسبة لنا كيان واحد سواء كانو بني عامر أو هدندوة أو أمارأر ، نحترس منهم جميعا ولانأمن لهم حتي لو كنا في حزب واحد ، لأن قبليتهم وعنصريتهم مع بعضهم البعض ومع الآخرين تنفرنا منهم ،خاصة اللذين يرفعون شعارات بجبجة الوظائف والميناء ويعلمون أن لنا حقا في كل السودان وفي الميناء وبورسودان مثلهم ، لأن بورسودان ميناء قومي ومدينة بورسودان مدينة قومية أنشأها الأنجليز ، وطورها الأغاريق واليمانية والحضارمة والهنود والأكراد واللبنانيين والأقباط وحتي اليهود ، بل أن سوق بورسودان الكبير عرف تجارأ من كل هذه الأجناس ومن البني عامر والشماليين ولم يكن لهؤلاء اي وجود فيه ، وهؤلاء اللذين يدعون أن البلاد ملكهم صنعتهم الإنقاذ التي قتلت إخوتهم وهم يعلمون عندما تآمروا معها علي قتل الشباب في أحداث بورسودان والتي مات فيها أيضا عدد من ابناء البني عامر إثنين منهم بالقرب من أهلنا في ديم مدينة و كانو أصحاب دكاكين وبعضهم كان مارا بالشارع حيث ساقه حتفه .كل هذه الأحداث ذكرتني العم محمدعلي مداوي كنموذج للشخص البجاوي الذي دخل قلوب كل العامليين بهيئة المواني وخدمهم جميعا بنكرات ذات وصدق وتفاني دون أن نعرف حتي قبيلته ، والتي عرفتها بالصدفة عند زيارتي للخرطوم ، فهو بحق شخصية قومية ، وحسنا فعلت هيئة المواني بتكريمه في إحتفال كبير في نادي الموانئ قبل عدة أعوام من وفاته ، حيث كانت وفاته قبل عشرة أعوام تقريبا ، رحم الله العم محمدعلي مداوي الشخصية النقابية القومية الفذة التي لاتعوض ، ونأمل أن نري في أبناء البجا هذا الصدق والإخلاص للوطن والعمل لتحقيق الأهداف القومية وليس القبلية العنصرية المقيتة التي أعمت عقول وقلوب قيادات البجا الحاليين .

عصام تاج السر
[email protected]

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..