
منذ أن تم تعيين حمدوك كرئيس وزراء للحكومة الانتقالية وحمى مزاد المقايضة على المناصب في تسارع لا يختلف عن الحكومات السابقة التي خرج الشباب منتفضين ضدها منذ ديسمبر ولايزالون يدفعون الثمن غالياً بدمائهم الطاهرة لوضع حد لها.
ما لا يريد الساسة الحاليون فهمه انتقائياً، هو أن إعادة تدويرهم في مناصبهم أو اختيار أقاربهم أو من احتل منصباً في الحكومات السابقة، إنما هو ما تعتبره الأنتفاضة السرطان الذي بات ينخر المنظومة السياسية وما بقي من الدولة من أعلى مسؤول فيها إلى أصغر موظف بضمنها كل المستويات الاقتصادية والأمنية.
والأخطر من ذلك أنه بات لايتجزأ من حياة المواطنين صار أمرا عاديا، أما حماية لأنفسهم أو ابتغاء منفعة أو مجرد تسيير أمورهم، بمعنى آخر أن الفساد بأشكاله لم يعد حكراً على طبقة محددة، بل تسلل إلى بنية المجتمع في دوائر الدولة وموظفيها والى المدارس والمستشفيات كما في الشوارع والمطارات، السفارات والموانئ والأسواق، وحتى للعائلة، مما يهدد بقاءه وجعله لقمة سهلة للإرهاب والتفتت، وهذا ما عاشه بلادنا في سنوات الإنقاذ وما افرزه من ميليشيات الجنجويد وإرهاب يتغذى على الفساد، خاصة مع توفر أموال هائلة وهو ما ترمي الانتفاضة لاستئصاله.
لذلك يصر المنتفضون على رفض إعادة تدوير الساسة الحاليين، ليس حبا بالرفض فحسب، ولا لأن شكل الساسة لا يعجبهم أو لأنهم مغرمون بالنوم في الساحات بعيدا عن بيوتهم وعائلاتهم أو طمعا بالمناصب لأنفسهم، ولكن لأنهم يدركون جيدا حجم الكارثة التي سببها حكم الفاسدين وما سيجره إبقاءهم في مناصبهم على الوطن.
وعي الشباب اليوم بهذه الحقيقة وجعله أولوية ضروريه واستمرار لما توصلت إليه شعوب بلدان أخرى تعيش مرحلة الانتقال من نظام إلى آخر، مع وجود بعض الاختلافات التي تشكل نموذجا ناجحا للانتقال من نظام استبدادي إلى ديمقراطي، لم يعد خافيًا، أن سيرورة الثورة لن تتم بالشكل الذي يحقق طموحات الشباب في مستقبل مغاير واستقلالية بناء الدولة وحمايتها، ما لم يتم القضاء على منظومة الفساد التي أسسها النظام السابق وهنا مكمن الخطورة.
واذا كانت سيرورة العدالة الانتقالية قد فشلت ولأسباب عديدة من بينها عدم القدرة على العمل وغياب الاستقرار السياسي والأمني، فأن مسار تحقيق العدالة الانتقالية بأوجهه المتضمنة المساءلة الحقيقية والكرامة وجبر الضرر لم يؤد النجاح المتوقع.
اقتصار ميدان العدالة الانتقالية طيلة هذه السنوات على العناية بقضايا الحرمة الجسديّة وانتهاكات الحقوق المدنية والسياسية، مبيّنا أن بعض البلدان ركزت على جرائم التعذيب والقتل والاختفاء القسري والاحتجاز المطوّل، دون النظر في الفساد الذي تمّ ارتكابه من طرف المسؤولين، وقد تم تسجيل استثناءات ملحوظة في عدد من البلدان فقط حين يكون بإمكان العدالة الانتقالية أن تطلع بما يتعيّن عليها وذلك بمتابعة المساءلة عن انتهاكات حقوق الإنسان والفساد على حدّ السواء.
يختلف الوضع في السودان عن بقية الدول التي تعيش تجربة العدالة الانتقالية من عدة نواحي لعل أهمها انتهاك حقوق الأنسان وهذا ما نلاحظ تطوره بين الشباب في ساحات النضال.
إذ استعادت المفاهيم التي حاربت الشعوب طويلا لامتلاكها لأنها حق من حقوقها كالوطن والحرية والكرامة ومعاقبة الظالمين والفاسدين، يجعل لتجربة الشعوب بمواجهة هذا النوع من الأنظمة وتوحيد جهودها للتخلص منها، قيمة تتجاوز حدود البلد الواحد، لتفرض أشكالا من النضال والتضامن، لن تكون بالضرورة بل تعيدنا في بعض ملامحها إلى حقب التحرر الوطني إلى الواجهة في حيز الوعي المتنامي وهي ذات القيم التي أراد المستعمر طمسها واستطاع بمرور الوقت بالتعاون مع طبقة الفاسدين المحليين أن يحقق نجاحات تبرعمت بشكل حكومات استبدادية وطائفية.
اتضح عمق مطالبة الثوار بالوطن اولاً مع استمرار انتفاضة ديسمبر واستشهاد الشباب بشكل يومي تقريبا لتصبح الدعوة إلى إسقاط النظام ومحاسبة القتلة أساسية لتحديد تركيبة الحكومة المقبلة وان كانت انتقالية، ولترسخ أسس أي حكومة وطنية ديمقراطية مستقبلاً، وهي قفزة نوعية تجمع ما بين الطموح بتنظيف السياسة والقضاء والاقتصاد والممارسات التي تخللت بنية المجتمع على مدى عقود.
إذا اردنا ان ينهض السودان من كبوته، وقد منحت الانتفاضة بشجاعة شبابها وتضحياتهم وبقية أبناء الشعب الأمل بإمكانية التغيير الحقيقي وليس فقط تدوير الفاسدين وهو ما كان يجري سابقا، كما رفعت من مستوى الوعي بالظلم والإهانة والحرمان من الحقوق من كونه استهدافاً فردياً إلى كونه جماعيا ووطنيا وهذا ما لن يتمكن الحكومة الانتقالية من القضاء عليه.
محمد ادم جاكات
[email protected]