مقالات وآراء

سقطت الإنقاذ أم تكررت التجربة! (3)

محمد التجاني عمر قش
قبيل استقلال السودان بقليل ظهرت بواكير حركة وطنية التف حولها كثير من النخب السياسية، لدوافع وطنية خالصة، لكن لم يلبث الوضع أن تحول لصراع واضح ومستتر بين قطبي الطائفية في البلاد، وهما تحديداً كيان الختمية بقيادة السيد علي الميرغني، والأنصار بزعامة السيد عبد الرحمن المهدي. وعندما أحس الإنجليز بالتقارب بين الحركة الاتحادية ومصر، توجهوا نحو السيد عبد الرحمن المهدي، وأغدقوا عليه الأموال، واقطعوه الجزيرة أبا، وأسندوا إليه تنفيذ مشاريع كبيرة، حقق منها أرباحاً ضخمة جعلته من أثرى الناس في السودان! وفي المقابل طلب من السيد عبد الرحمن رفع شعار “السودان للسودانيين”. يقول الدكتور حسن عابدين في مقال له ما نصه: “أصل الشعار بريطاني ابتدعه وصاغه وروج له لأول مرة عام 1917 ونجت باشا، ويلخص هذا الشعار سياسة بريطانيا آنذاك الرامية إلى عزل السودان عن مصر وعن رياح التغيير التي بدأت تهب جنوباً صوب السودان، أثر ثورة 1919. ومن هذه الناحية لم يكن شعار السودان للسودانيين سوى قول حق أريد به النقيض أي أن السودان للسودانيين لا للمصريين، ولكنه يتبع لبريطانيا وليس لمصر كحق تاريخي وسيادي لها. وهو في ظاهره شعار وطني ولكنه في حقيقة الأمر استحدث لصالح المحتل والمستعمر البريطاني وعلى حساب مصر والسودان كليهما. وصار شعاراً لتيار ما عرف بالحركة الاستقلالية بزعامة حزب الأمة “.
ومن جانبها تبنت مصر الحركة الاتحادية بكل مكوناتها وقياداتها التاريخية التي كانت تحج إلى القاهرة كلما سنحت فرصة أو قدمت لها الدعوة تحت أي غطاء كان. وحتى مسمى الوطني الاتحادي ما هو إلا تجسيد لأطماع مصر في السودان بحيث يستقل السودان تحت التاج الخديوي أو السيادة المصرية. ومع أن السودانيين قد أعلنوا استقلالهم من تحت قبة البرلمان، إلا أن الولاءات القديمة ظلت تلقي بظلالها على الحراك السياسي السوداني خلال جميع فترات الديمقراطية التي كانت يتنافس عليها قطبا الرحى حزب الأمة والوطني الاتحادي، أو بمعنى أدق بين الأنصار والختمية.
هذه الموقف يوضح بما لا يدع مجالاً للشك أن الحركة الوطنية، إن جاز التعبير، قد ولدت وهي مرهونة الإرادة للخارج، أو حتى للأجنبي، وبالتالي فإن الأجندة الوطنية الخالصة، والرؤية التنموية المرتبطة بمصالح البلاد العليا ومصادرها، قد غابت عن المشهد السياسي ولم يشهد السودان أي برنامج سياسي تنموي من شأنه الاستفادة من مقدرات الوطن المادية والبشرية، فقعدت بنا تلك الحالة حتى عجزنا عن توفير الخبز والدواء والوقود لهذا الشعب العظيم. وفي هذا الصدد يقول الدكتور منصور خالد إن علة السياسة السودانية الكبرى هي عدم وجود برنامج تنموي وطني يستوعب طاقات السودانيين ويسخرها للنهوض بوطنهم. وينطبق هذا على كل الأنظمة التي حكمت السودان منذ الاستقلال، إذ ظلت حكوماتنا تتخبط بلا تخطيط ولا أهداف وكان همها منصباً فقط على الوصول إلى سدة الحكم سواء عبر صناديق الاقتراع، أو انتخابات تفتقر للنزاهة، في عهود الديمقراطيات الهشة، أو بالاستيلاء على السلطة بالانقلابات العسكرية وما شابهها!
نخلص مما سبق إلى أن هيمنة الطائفية، ورهن الإرادة الوطنية للخارج، وغياب البرنامج الوطني، والتنافس المحموم بين الزعامات، هي ضمن الأسباب والعوامل التي أضعفت التجربة السياسية في السودان وحالت دون تطور الأحزاب التقليدية إلى منظمات فعالة تستطيع أن تقود العمل السياسي وتحافظ على الاستقرار والتطور. بالعكس تماماً بلغ ضيق الأفق وسوء التقدير لدى تلك الأحزاب ذروته في عام 1958، عندما قرر عبد الله خليل بك، رئيس الحكومة آنذاك، عن حزب الأمة، تسليم مقاليد الحكم طواعية، وبعلم منافسه الوطني الاتحادي، لجنرالات الجيش، بقيادة إبراهيم عبود، وبذلك قطع الطريق على الممارسة الديمقراطية، مهما كان رأي الناس فيها؛ إذ تحولت معظم القوى السياسية، خاصة الحديثة منها بقيادة اليسار وجبهة الميثاق التي تمثل تيار الإسلاميين إلى معارضة شرسة أفضت فيما بعد إلى ثورة أكتوبر وما ارتبط بها من هيمنة لقوى اليسار، التي كانت هي الأخرى مرهونة الإرادة للمد الشيوعي العالمي، واستطاعت تضليل الرأي العام، عبر واجهاتها المتعددة ومنها جبهة الهيئات.
الحكومات الوطنية لم تلتزم بمتطلبات النمو السياسي والاقتصادي من أجل حل مشكلات التخلف وإنما التزمت بأهداف ضيقة، الأمر الذي حال دون تحقيق الوحدة الوطنية وتدامج مكونات المجتمع، إضافة إلى إهدار موارد الدولة المحدودة مما خلف صراعات، اتخذت مسارات عسكرية مسلَّحة، حالت دون تحقيق الاستقرار والتنمية؛ وبالتالي صار السودان رمزاً للفقر والمديونية في العالم! وطوال ما يزيد عن ستة عقود لم تستقر أوضاع السلطة وأنظمة الحكم في السودان؛ نتيجة الافتقار إلى بنية مؤسسية ودستورية فاعلة.
وكل الوضع الراهن إنما هو نتاج طبيعي لإخفاق المنظومة الحزبية، من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار؛ نظراً لرهن الإرادة الوطنية للخارج، وسيظل هذا الوضع قائماً ما لم نستفيد من تجارب الماضي. في الواقع تميّز زعماء حقبة الاستقلال بالنزاهة والإخلاص، ولكنهم فشلوا في وضع لبنات لمشروع وطني قابل للتطوير يمكن أن يجمع عليه السودانيون.
محمد التجاني عمر قش
[email protected]

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..