في تذكر الأماجد: بروف شبرين ..

كان يحادثني بصوت ندي وقور، قال: (في البدء استهوتني في الخلوة * أشكال حروف كتابتنا بلونها الأسود الذي يزداد ويخفت سواده على سطح اللوح الخشبي* باهت الصفرة، فأطيل النظر إلى ألواح عبد الله كرباوي وعبد الرحمن أخيه. وعبد الله محوَّر ابن المؤذن، يزينون ألواحهم بالأهلة والنجوم والمثلثات المتقابلة، في خلوتي ابراهيم الجزولي، وأحمد الأَصْوَلِّي بعدها).
(عندما دخلت المدرسة الأولية كنت هادئاً، بطيء الانفعال كثير التأمل، بين ما كان شقيقي “الحاج” في الصف الرابع قلقاً ودائم الحركة سريعها. جاء من المدرسة يوماً بقطعة طبشور كتب بها على الجدار (تذكار من الحاج محمد شبرين). الكتابة على الجدران كانت مما يستنكفه الناس – فهي فأل غير حسن ” يقطع البركة عن الدار ويحجب زيارة الملائكة”. سارع أبي بحمل الطبشورة و”شخبط” بها على الكتابة بخطوط مائلة ودائرية ليطمسها مستنكراً ومتعوذاً).
(بقيت بعض أجزاء حروف الكتابة المطموسة تطل من بين الشخبطة، وتتداخل في ناظري بخيال حركة والدي وهمهته المستنكرة .. بت بعدها أطيل التأمل فيما يقع عليه بصري وكان من قبل من المعتادات ? مثل تقاطعات أغصان الأشجار وأوراقها، وأشكال السحب وحركتها تتقارب وتتباعد، وتظهر من خلفها ليلاً النجوم ثم تخفيها، وهذه ترسم بتراصها وتفاوت المسافات بينها أشكالاً أتصور ما يشابهها مما أعرف ولا أعرف من مخلوقات، في سياحة بصرية ممتدة. بل وامتد تأملي إلى ما وراء رفض هذه الكتابة “البريئة” ورد الفعل الصارم بطمسها عبر خطوط تتقاطع وتلتف بها في غير ما لطف لإبعاد مظان النحس وطلباً لقرب الملائكة).
هذه الخطوط والأشكال “المتشاطبة” التي تولدت على الجدار جذبت بصر و”بصيرة” الطفل أحمد، فصارت مقصداً لأنظاره -يتأمل تقاطعاتها ويتحسس ذبذباتها. ويتابع صعود خطوطها واستدارتها أو انكسارها هابطة أو مستلقية. وما يتولد عنها من أشكال مبهمة تراوح ما بين الانتظام والعفوية، ومساحات موجبة وفراغات سالبة، تصغر هنا وتكبر هناك. ظلت مرجعاً لذاكرته البصرية في ما يرسم ويصمم لاحقاً. وزودته بقدرة هائلة على تحريك مكونات الأشكال -والحروف خاصة -والتلاعب بجزئياتها بمهارة، ليعيد تخليقها في صور شتى. ويبقى الحرف من بعد هو الحرف، بذات شخصيته التي لا يجوز أن تكون محل اشتباه ..وإن تعددت أشكاله بتعدد مرات تكراره. فتفردت تشكيلاته الحروفية بتميز وثراء بصري غير مسبوق. فطن لذلك الناقد وضاح فارس وبشَّر به في مجلة “حوار” البيروتية في منتصف الستينات فكتب:
” شبرين أحد الحوادث اللذيذة النادرة في الفن العربي الحديث، فصوره التخطيطية تجمع الأقاصي في تجربة ناجحة لاستعمال الحرف العربي الكلاسيكي أداة للتعبير الفني الحديث، عبر إدراك سليم للتركيب والحركة والجمالية. تجربة تعي أبعاد وإمكانات الفن التخطيطي (الغرافيك) بمفهومه الحديث، واعية بالمساحات ومدركة لإمكانات الحرف الديناميكية، وحسه لمحدودية التلوين تنم عن موهبة متكاملة خصبة، حاملة خيالات مزيج من نقوش إسلامية عتيقة وتركيب مصري أنيق وحس نوبي للكلية والعنف، مستحدثة لتعبيرنا الفني أدوات ومصطلحات جديدة.
فالحرف غادر موقعه التقليدي كأداة لفظية لتركيب الكلمة، إلى عالم آخر تحكمه نواميس أكثر “لا واقعية”: عالم التعبير الشكلي حيث المدلول لشكل الحرف وحده، تماماً كالخط والنقطة في الرسم. به يتصرف الفنان في كل بعد وإمكانية ليخرج عملاً فنياً. هذه التجربة الشاقة الفريدة تفرض نفسها بعنف وروعة، وتضيف علامة طريق أخرى إلى القليل الرائع في فننا العربي الحديث، بلا قرقعة ولا ضوضاء ?. وضاح فارس ? مجلة حوار البيروتية ? العدد 11/12 -أكتوبر 1964.
ظل شبرين المصمم علامة فارقة بتميز أعماله، فهو وإن تملك أسلوبه التصميمي الخاص STYLE ، إلا أن فرادة مميزة وسمت كلاَ من تصاميمه، مكنت الكثيرين من تذكر واستدعاء رسم أو شكل الشعار أو الهوية البصرية بمجرد سماع اسم الجهة، وبقي البعض يذكر أشكال بعض هذه العلامات رغم اختفاء أو ضعف نشاط مؤسساتها لعقود او لسنين طوال!
استقر في بصيرة وعي ? ولا وعي ? شبرين أن يبصر ما كان محجوباً ..وأن يحجب ما قد يكون مبصراً ليمنح الآخر متعة محاولة اكتشافه واستجلائه من بين تقاطعات الخطوط وتداخل الأشكال وتدرجات الأسود خاصة ? والألوان. فصاغ حروفاً يتكئ معمارها على بنية الخط الكوفي لكنها تأبى السكون، فتموج بحراك عامر بالتلوي والتكسُّر.. تسكن الحرف وإن تعددت صوره في اللوحة شخصيته الضابطة لصوته، فتبصره منطوقا!
افتتن بعلاقة الأسود والأبيض بتدرجات امتزاجهما غير النهائية، لفته عناقهما “الصلد” في خشب الأبنوس، فكان خامةً أثيرة لديه للحفر والتشكيل رغم قسوته وصلابته. وتمددت ثنائية التباين لديه إلى البني مع الأخضر في درجاتهما المختلفة.. يتغشاها الأصفر آناً هنا وأحياناً هناك، وكأنه يستذكر مدينة بربر التي رعته يافعاً.. تتشكل جدرانها وتكتسي بلون ترابها، وفوق تربتها تنتصب سوق الأشجار، بنيها ورماديها لتحمل تيجانها وارفة الخضرة. في تباين يزاوج بين جدب وخصب ? حياة وفناء ? جفاف وابتلال ? لين وقسوة ? مرونة وصلابة ? فراغ وامتلاء.
++
خاطرات من صحبة شبرين:
كان يحتفي بهبات نسمات الشتاء الشمالية حاملة إليه بعض ريح وعبق بربر، يسعد ويتلذذ بطعم ثمار الطماطم تحمل إليه منها، ويكتمل سروره حينما يشاركه الفطور بها وبفول السليم مجالسوه.
اصطحبني لتصوير نباتات مشتل بالجريف.. قضينا معظم النهار نطوف بينها وأدهشني بواسع معرفته بأسمائها العربية واللاتينية. كان يمسك بجزء من النبتة ويشرح لي ما يريد أن تبينه الصورة من ميلٍ لزوايا الأغصان وتفرعات الأوراق، نتوءات الشوك، تفاصيل نسيج أوراقها، الحُفيرة التي يخلفها سقوط ورقة عن الغصن، انتظام مجموعة من الأشكال هندسياً في دائرة أو خط لولبي أو متعرج.. كان يحفظ التفاصيل كما لو أنه رسمها مراراً، وبت من يومها أرى تفاصيل التفاصيل في كل ما أنظر إليه.
راح يستعيد علي ما كان تعلمه بالكلية المركزية للفنون ببريطانيا منذ عقود حول تصميم الحرف حين عرضت عليه محاولتي في تصميم خط طباعي عربي مستلهم من صور رسمه للحروف في عدد من أعماله، فراح يتأمل كل حرف على حدة، ويسهب في توصيف أجزائه وصلتها بصوت نطقه، مكسباً كلاً منها شخصية حية تتفاعل مع بقية الحروف في “جماعة” ذات حس وحركة في بعدين زماني ومكاني.. فالألف (يجب أن تقصر عن طول اللام وتبتعد عنها لتتكيف بذاتها). والكاف هذه (منغلقة وتبدو عصبية nervous، وتحتاج لمزيد من الانفتاح حتى تبدو في شكل جهوري منسرح يشبه صوت نطقها) .. تعلمت أن أحاور كل حرفٍ قبل تعديل شكله.
في مبتدأ عهد الإنقاذ عين وكيلاً لوزارة الثقافة والإعلام، فطلب في أول لقاء له بالوزير أن يأذن له بالعمل على فصل الثقافة عن الإعلام، لأن أهل الإعلام ظلوا “يتغولون” على مؤسسات الثقافة في الوزارة ويحجمون أدوارها، ويبدو أنه استشعر ذلك من خبرته في تولي أمانة المجلس القومي للفنون والآداب لسنوات عديدة. بادره الوزير بالرفض، فما كان منه إلا أن قدم استقالته. وفي مرة أخرى حملت له دعوة للمشاركة من أمين عام الهيئة القومية للثقافة والفنون، وكان مقرها في دار صودرت من حزب الأمة، فاعتذر قائلاً إنه يرفض لأن الثقافة والفنون أكرم من أن يخصص لها مبنى مصادر، وأن الدولة تملك آلاف المباني التي يستحق أهل الثقافة أن يستقروا بواحدة منها.
كلفني مرة بتتبع صدور العدد التالي من مجلة “حروف” التي كانت تصدرها دار جامعة الخرطوم للنشر، وبعد عدة استفسارات نقلت له خبر إيقافها وإعفاء طاقم تحريرها، فأبدى حزناً وأسفاً عظيمين وقال: هذه المجلة بعدديها الإثنين الذين صدرا خدمت الثقافة السودانية بما لم تفعله وزارة الثقافة في كل تاريخها!
ظل شغوفاً بقراءة الشعر (وقرضه أحيانا دون نشره).. وكان يحفظ الكثير للمجذوب وللفراش شاعر بربر ويستشهد بأشعارهما. واحتفظ بمكانة خاصة لأشعار شكسبير وترجم بعضها ورسمها في لوحات عديدة احتفى بها المركز الثقافي البريطاني وعرضها. وكان يقول إن روح أشعار شكسبير أقرب لأهل السودان من أشعار بعض بنيهم!
في إحدى سفراته لتنفيذ تصاميم العملة السودانية لإيطاليا، دفع إليه مدير المطبعة بكتالوج به آلاف الخطوط الطباعية ليختار منها. قال إنه قضى يوماً وليلةً يتفحصه، وأعاده دون أن يجد فيه ضالته وسط دهشة المدير وطاقمه، ومن ثم عكف على تصميم حرف خاص وصفه طاقم المطبعة بأنه مميز ويعد أفضل علامة تأمينية لهذه العملة.
+++++
سعد الدين عبد الحميد ? سلطنة عمان ? 28 مايو 2018

? لوح الخلوة: الخلوة هي المدرسة القرآنية (الكتاب)، واللوح خشبة مستطيلة من شجر الهجليج (اللالوب) يعلوها عنق تثبت منه ليخط عليها الصبية سور القرآن التي يتوجب عليهم حفظها.

سعد الدين عبد الحميد ? سلطنة عمان
[email][email protected][/email]

تعليق واحد

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..