
من المحبط أن رؤية هذا القدر من البؤس والأوضاع المعيشية المتدهورة في ظل حكومة الثورة، التي عقد الجميع عليها آمالا عريضة. ولكن الأشد إيلاماً هو اتجاه محسوس في الرأي العام على إثر هذه الأوضاع، ينحو إلى إلقاء اللوم كاملاً على مجلس الوزراء الانتقالي وحاضنته السياسية. على أننا لا نملك الوسائل الأكثر دقة لقياس الرأي، خاصة مع وجود المال السياسي والذمم المشتراه والدجاج الإلكتروني، إلا أن زيادة الحنق الشعبي على مجلس الوزراء وقوى الحرية والتغيير بائنة للعيان، وهي ظاهرة جديرة بمحاولة المعالجة بغض النظر عن حجمها الدقيق.
رغم أنه من المفهوم أن تكون الحكومة مسؤولة بالكامل أمام الشعب عن أوضاعه المعيشية، إلا أن وضعنا الانتقالي والشراكة القائمة تحتم علينا التأمل العميق للمسألة، فالشراكة قد قطّعت الأوصال الأمنية لمجلس الوزراء، في مرحلة دقيقة وحساسة لهول القوّة الاقتصادية الكامنة للنظام المباد، والنظام الذي تم إلغاء دوره السياسي المباشر، ما زال يبرطع في السوق من دون رقيب ولا حسيب، تلك الرقابة التي هي من صميم مهام أجهزة الأمن والشرطة. لقد رأينا في سابق الأيام تخاذل النظاميين وسمعنا عبارة “دي المدنية الدّايرنّها”، تلك العبارة التي تمت مداراتها ولكن الأفعال المعبّرة عنها لا زالت قائمة، فاتحة المجال لمخربي الاقتصاد للتلاعب بالسوق مستفيدين من جبال العملة المخزنة في أقبيتهم خصيصاً لمثل هذا اليوم، مع أرصدتهم الخارجية، وخبرة تماسيحهم في أزقة الوضاعة الاقتصادية، وامتلاك معاونيهم للبنية التحتية للسوق والإمداد، وغيرها من ممارسات التهريب والتلاعب التي لا قِبل لمجلس الوزراء بفك طلاسمها وحيداً بلا أمن أو مباحث ولا قوة مؤثرة على الأرض.
إن الأجهزة الأمنية والشرطية والعسكرية هي أدوات القمع والبطش الديكتاتورية، التي تعمل في تناغم مع ممارسات الفساد وألاعيب السوق. والديكتاتوريات طويلة الأمد لا بد لها من إرضاء هذه الأجهزة سواء بالمال أو بالسلطة المطلقة فوق القانون، لذلك فإن طول العهد بمنبت السوء هذا يفقدنا الأمل في قدرة هذه الأجهزة على مداواة نفسها، لأنها بذلك تتخلى عن امتيازاتها وتضع نفسها تحت قيد القانون طوعاً، وهي تفهم أن إصرار الشعب على المدنية ما هو إلا إصرار على إعادة الأجهزة العسكرية لدورها الطبيعي داخل حدودها السليمة ولجامها القانوني، وها هي الآن تجد نفسها تحت الجانب الآخر من الشراكة، في حِل من سلطة المدنيين.
إذاً، هناك اختلال أقل ما يقال عنه أنه تخاذل من جانب الشريك العسكري، وبدون أن ننكأ جراحات الماضي، أو نفترض طموحات ديكتاتورية جديدة- ولنا الحق في ذلك، يبدو أن هذا الشريك يطبخ شيئاً ما ويحتاج إلى لي ذراع مجلس الوزراء وقوى الحرية والتغيير، وقد تكون رئاسة الآليّة هي البداية فقط، أو ربما خطة بعيدة المدى استعداداً لما بعد الفترة الانتقالية. في كل الأحوال، لا تعنينا هذه الأجندات الخفية بقدر ما يعنينا إصلاح الوضع المشوّه القائم.
قد يتبادر إلى ذهن القارئ الآن أن كيف ندافع عن مجلس الوزراء بما لم يدافع به عن نفسه؟ لماذا لم يستنجد بالشارع أو على الأقل يقدم دفوعاته في الإعلام؟ أرى أن مجلس الوزراء وقوى الحرية والتغيير قد آثرت أن “تشيل وش القباحة” على أن تعمل على تقويض شراكة لا يُعرف ما بعدها، أن تتحمل سياط الرأي العام إلى حين حصاد حقول المغتربين والدعومات الدولية، التي لا بد أن تفقد المخربين الأمل وتعمل على التعجيل بمرحلة التسليم بالتغيير بعد القَنَع من جدوى مقاومته، ولكن مع الأسف فقد خيّبت حركة الأحداث الدولية والإقليمة الآمال ودفعت لاعب الشطرنج بالتضحية بجندي الآلية الاقتصادية لإفساح المجال للعمل للجولة القادمة.
لا أرى بداً من إدخال الثورة إلى داخل الأمن والشرطة، وقد تحدث رئيس الوزراء قبل ذلك عن إعادة الهيكلة وضخ دماء جديدة شابة ومؤهلة، ولكن أعتقد أن العراقيل قد وُضعت في طريقه. نحتاج إلى ثورة تعيينات وعلى كافة المستويات من أدناها إلى أعلاها في الأمن والشرطة، بترشيحات من لجان المقاومة وقوى المجتمع الأخرى، وإلى التدريب والتعبئة والتوجيه المعنوي داخل هذه الأجهزة تثبيتا للقيم الجديدة، ومنح صلاحيات كاملة لرئيس الوزراء عليهما، بعد ذلك فقط يمكننا الجزم إن كانت أسباب التدهور اقتصادية بحتة أم أنها مشكلة أمنيّة. المشكلة أن الاتفاق على هذه الإجراءات ليس بنفس سهولة تعدادها، خاصة وأنها كانت حجر العثرة الأكبر في الوثيقة الدستورية، ولكن الوعي الشعبي بأهميتها ومحوريتها للتعامل مع الأزمات الراهنة والأخطار القادمة هو أول خطوة في طريق التنفيذ، يجب أن يفهم الطامعون أن الوثيقة الدستورية لم تكن شيكاً على بياض للتصرف في الأجهزة الأمنية والعسكرية المملوكة للشعب السوداني، وإنما كانت تنازلاً بعد ترجيح الثِّقة، وبداية لاختبار الوطنية الذي تشير الأحداث إلى فشل العسكريين الذريع في اجتيازه.
هشام عوض
[email protected]