د. محمد محمود الطيب
عودنا نظام الاسلام السياسي البائد علي اسلوب الخديعة والحيلة الماكرة كسبا للوقت الي حين الوصول لحيلة وخدعة جديدة وهكذا٠
يشغل وزير المالية هذه الايام الراي العام بكثير من الضجة واللغط حول بشريات الحل النهائئ والناجع لكل مشكلات البلاد وذلك في تنفيذ برنامجه “النهضوي” والذي ان طبق بحذافيره سيملاء الارض قمحا ووعدا وتمني بعد ان امتلات جورا وظلما٠
كل هذه الضجة المفتعلة ليس الا تمهيدا للاسواء في قادم الايام القادمة وهي باختصار اياما ستكون عجافا بمعني الكلمة وكل ماعاناه ويعانيه المواطن السوداني حتي الان يعتبر مجرد نزهه مقارنة لما سيحدث في مقبل الايام بعد تطبيق مزيدا من “الصدمة” او بالاحري زيادة “الجرعة” من نفس الدواء المر٠
فاستخدام اسلوب العلاج بالصدمة “The Shock Therapy” ليس جديدا علي الشعب السوداني فهذ الاسلوب قد نفذ تماما منذ العام 1992 من خلال سياسات التحرير الاقتصادي علي يد عراب تلك السياسة عبدالرحيم حمدي واستمر تتطبيق اسلوب الصدمة في كل البرامج والميزانيات حتي ميزانية هذا العام 2018 والتي كانت كل بنودها المجحفة وبالا علي المواطن المطحون اصلا٠
الاساس النظري والأيديولوجي لسياسة التحرير الاقتصادي
يعتبر اجماع واشنطن (Washington Consensus) الاساس النظري والأيديولوجي الفعلي لسياسة التحرير الاقتصادي وجاء هذا الاجماع في العام 1989 باتفاق مؤسسات واشنطن والتي تتحكم في ادارة الاقتصاد العالمي كالبنك الدولي وصندوق النقد الدولي ووزارة الخزانة الامريكية
ويرتكز اجماع واشنطن علي عشرة مبادي تهدف الي استقرار الاقتصاد الكلي وفق مبادئ حرية التجارة وحرية الاسوق مع ريادة دور القطاع الخاص وتقليص دور الدولة في ادارة الاقتصاد وتتلخص تلك المبادئ في إعادة توجيه الأنفاق العام من الدعم السلعي إلى الدعم النقدي٠
تحرير قطاع التجارة و تحرير تدفق الاستثمارات الأجنبية وخصخصة مؤسسات الدولة تحرير وإلغاء اللوائح والقوانين التي تعوق دخول الأسواق أو تقيد المنافسة وتحرير سعر صرف العملة واخيرا مراعاة قوانين وحقوق تملك الأراضي٠
والهدف الإيديولوجي واضحا تماما في تطبيق هذه التوصيات والتي تتمركز حول توجيه الاقتصاد نحو فلسفة السوق الحر والتحول التام من الاقتصاد الكينزي وسيطرة الدولة والذي ظل سائدا حتي نهاية السبعينيات.
سياسة التحرير الاقتصادي في السودان
عندما تسلم المتاسلمين زمام الامور في يونيو 1989 كانت الشعارات المرفوعة والمتشنجة تندد بالغرب الامبريالي والشرق الشيوعي٠
وفي خضم كل هذا الزخم يأتي عبدالرحيم حمدي وزيرا للمالية ويشرع في التنفيذ الفوري للسياسة التحرير بشكل تام متبعا كل خطوات اجماع واشنطن بشكل ادهش حتي خبراء صندوق النقد الدولي والذين عادة ما يوصون بتنفيذ حزمة الاصلاحات علي مراحل للتخفيف من حدة الصدمة والتي عادة ما تقع علي عاتق الفقراء وذوي الدخل المحدود٠
في لقاء صحفي لخص عراب سياسة التحرير الاقتصادي في السودان عبدالرحيم حمدي سياسته في الاتي
“بدأت سياسة التحرير قبل عام 1992، لكن بطريقة متدرجة وعالجنا فيها الأشياء التي كانت حرجة عند اعلان اجراءات تطبيق هذه السياسة في فبراير 1992، اذ انها كانت اجراءات مكثفة وموسعة جدا، وهذه السياسة منذ ذاك الوقت كانت مستمرة ولكن حدث تراخ في بعض الجوانب خلال الفترة الماضية. فلقد حدث تراخ في عمل القطاع الزراعي عام 1995، فكانت برامج الخصخصة جاهزة ولكنها لم تطبق آنذاك نتيجة للعوامل التي ذكرتها سابقاً مثل ارتفاع نسبة معدل التضخم في عامي 95 /1996 انتهي كلام عبدالرحيم حمدي٠
وهنا يجدر بنا الاشارة للاتي:
اولا/كان الغرض الاساسي من تطبيق سياسة الخصخصة هو الحصول علي المال لدعم النظام في سنينة الاولي وفي نفس الوقت تمكين اعضاء التنظيم وتقويتهم ماليا واقتصاديا لذلك تم بيع اصول مؤسسات كانت رابحة اصلا كمؤسسة الاتصالات السلكية و واللاسلكية التي تم بيعها لشركة سوداتل كذلك الحال في البنوك الحكومية كبنك الخرطوم والبنك التجاري وبنك النيلين فمعظم هذه البنوك كانت تعمل بصورة جيدة قبل الانقاذ٠
ثانيا/ بيعت كل هذه الاصول بأسعار زهيدة اقل بكثير من قيمتها الاساسية او حتي اقل من قيمة السوق وفي احيان كثيرة تجري عملية اعادة تأهيل لها علي حساب الدولة ثم تباع بعد ذلك لاحد الموالين للنظام٠
ثالثا/ لم تراعي حقوق العاملين في تلك المؤسسات والشركات التي تعرضت للبيع فقد تم الاستغناء عن عشرات الآلاف من العاملين فيها قبل إعطائهم حقوقهم في الوقت المناسب وبصورة مجزية٠
ويواصل حمدي ويقول “خروج الدولة من العملية الانتاجية والخدمة الا في نطاق ضيق بالنسبة للقطاع الخدمي كالصحة والتعليم “
كاذب— فنصيب ميزانية التعليم والصحة لايتعدي ال3 في المئة في احسن الاحوال اذ اطلقت حكومة المتاسلمين يد امثال دكتور مأمون حميدة ليستثمر في المستشفيات والجامعات ويخدم الاغنياء من الطبقة الطفيلية الانقاذية اما غالبية الشعب من الفقراء فلهم الجهل والمرض والموت
ولولا مبدأ مجانية التعليم والذي كان سائدا في كل الانظمة التي حكمت السودان قبل نظام المتاسلمين لما تمكن حمدي ومأمون حميدة وغيرهم من المتاسلمين من الحصول علي التعليم العام ناهيك عن الجامعات٠
من كل ما سبق ذكره نخلص الي الاتي:
اولا/ تم التنفيذ الكامل لسياسة التحرير بانتهازية واضحة بهدف الحصول علي المال اللازم لتمكين النظام وتمويل الة الحرب القائمة في الجنوب ولتمكين الموالين للنظام من احكام قبضتهم من الاقتصاد السوداني٠
ثانيا/ نفذت هذه السياسات بالكامل وبقسوة ادهشت خبراء صندوق النقد الدولي واللذين عادة ما يوصون بضرورة التريث في تنفيذ مثل هذه السياسات وتطبيقها علي مراحل لخطورة ما يترتب عليها من اثار جانبية تقع علي عاتق الفئات الضعيفة في المجتمع ولكن اصروزير المالية عبد الرحيم حمدي علي استخدام الصدمة
“Shock Therapy”متبعا اسلوب صنوه مأمون حميدة في استخدام الكهربائية لمعالجة مرضاه النفسيين٠
ثالثا/ رغم اعلان فشل سياسات التحرير رسميا بعد حدوث الازمة المالية العالمية في العام 2008 الا ان حمدي مازال يصر وفي عناد عجيب علي تنفيذ هذه السياسات رغم فشلها الماثل للعيان٠
رابعا/ رغم التشدق برفع شعارات المعاداة للغرب الرأسمالي الكافر واسطوانة امريكا روسيا قد دنا عذابها التي مللنا سماعها التزم النظام باتباع كل سياسات الغرب الكافر في ميكا فيلية يحسدهم عليها ميكافيلي نفسه٠
خامسا/ معظم الدول تنفذ سياسات التحرير الاقتصادي في اطار برنامج للإصلاح الهيكلي كشرط للحصول علي قروض ومعونات ولكن في حالة الانقاذ فندها قد نفذت هذه السياسات دون الحصول علي اي قروض٠
وخلاصة القول مايتوقع في مجمل الايام القادمة يتلخص في الاتي:
اولا/سحب ماتبقي من الدعم للسلع والخدمات الاساسية وهذا يعني مزيدا من المعاناة وارتفاع جنوني للاسعار في كافة السلع٠
ثانيا/التعويم التام لسعر الصرف وازالة كل القيود الامنية والادارية مما يؤدي لارتفاع جنوني لسعر صرف الدولار واشعال المزيد من نار التضخم٠
ثالثا/خفض عدد الموظفين في جهاز الدولة والغاء بعض الوزارات واعادة هيكلة بعض الوظائف٠
رابعا/مزيدا من الخصخصة وبيع ماتبقي من اصول الدولة السودانية وخاصة في مجال بيع الاراضي الزراعية٠
خامسا/ المزيد من فتح باب الاستثمار الاجنبي لجذب المثتثمر الاجنبي ومنحه امتيازات علي حساب المواطن السوداني٠
سادسا/مزيدا من الضرائب والجمارك والرسوم علي عاتق المواطن المنهك اصلا٠
والهدف من سياسة الصدمة ‘The Shock Therapy” كما هو معلوم في ادبيات الاقتصاد السياسي هو خلق حالة نفسية اشبه بالغيبوبة “Disorientation”من هول الصدمة وسوء الاوضاع الاقتصادية والاجتماعية وبالتالي يصبح المواطن طيع سهل الانقياد ومتقبلا لكل شي طالما كان قضاء وقدر وابتلاء٠
وما اشبه الليلة بالبارحة فهاهو الان السيد وزير المالية مازال مصرا علي السيرفي طريق صنوه وزير مالية النظام البائد “المصرفي” ولأ اقول الاقتصادي عبدالرحيم حمدي والذي تقتصر معرفته المحدودة علي المجال المصرفي “الاسلامي” تحديدا وكان يتعامل مع إدارة الاقتصاد بمفهوم قاصر وقصير النظر لابعد الحدود متجاهلا الأبعاد السياسية والاجتماعية والنظرة الشاملة لإدارة الاقتصاد القومي وفي هذا يتشابه الرجلان تشابها تاما٠
والآن وفي هذا المنعطف التاريخي الخطير يصر الدكتور ابراهيم البدوي علي اتخاذ نفس الطريق والالتزام الكامل بتنفيذ توصيات صندوق النقد الدولي والتطبيق الشامل لسياسات التحرير الاقتصادي بكل عيوبها وقديما قالوا من جرب المجرب حاقته الندامة٠
ترتكز خطة السيد الوزير علي اربع محاور تتلخص في الاتي:
اولا/ ريادة القطاع الخاص لاقتصاد البلاد في جميع القطاعات مع حصر دور الدولة في التنظيم والمراقبة وسن القوانين٠
ثانيا/ السحب الكامل لدعم السلع الاساسية ويشمل ذلك المحروقات(بنزين جازولين وغاز طبخ) اضافة للكهرباء كذلك دقيق الخبز ورغم حديثه عن سحب الدعم علي مراحل ولكن في الأساس تهدف الخطة الي سحب الدعم السلعي نهائيا من جميع السلع المذكورة أعلاه واستبدال نظام الدعم السلعي الي نظام الدعم النقدي المباشر٠
ثالثا/ التحرير الكامل لسعر الصرف (تعويم سعر الصرف)
علي يتم ذلك لكافة أنشطة القطاع الخاص في الاستيراد والتصدير وتحويلات المغتربين (يتم التعامل علي أساس سعر السوق الموازي لسعر الصرف) علي ان يترك سعر الدولار الجمركي علي السعر الرسمي الذي تحدده الحكومة حتي إشعار اخر علي حد قول السيد الوزير٠
رابعا/ دعم القطاع الاجتماعي التعليم والصحة اضافة الي زيادة المرتبات والاجوروإنشاء صندوق بند العطالة علي ان يتم ذلك في حالة رفع الدعم الكامل عن المحروقات والذي يتوقع ان يوفر مبلغ 150 مليار جنيه سوداني (1.5 مليار دولار) علي حسب زعم السيد الوزير٠
هناك العديد من الملاحظات علي هذه الخطة نفندها في الاتي:
اولا/ حول ريادة و دور القطاع الخاص نقول
١/ ألكل يعلم ان معظم شركات القطاع الخاص مملوكة لاعضاء النظام البائد او مملوكة لابنائهم وانصهارهم وأقاربهم او شخصيات مغمورة تمثلهم اوتشاركهم ملكية هذه الشركات نتيجة لسياسة التمكين في هذا اللنك
تجد قوائم الشركات المملوكة لمنسوبي النظام البائد ومازالت تعمل بكل حرية ولَم تخضع للمحاسبة او المراجعة من لجان تفكيك التمكين حتي الان٠
٢/شركة الفاخر وتجاوزاتها في فضيحة احتكار تصدير الذهب واستيراد معظم السلع الاستراتيجية خير دليل علي تجاوزات وفساد شركات القطاع الخاص خاصة عندما تجد الحماية والمحاباة والمعاملة الخاصة من شخصيات نافذة مثل وزير المالية من اجل تحقيق المصلحة الخاصة علي حساب المصلحة العامة ومصلحة الوطن اللنك
ومن المعلوم ان هذه الشركات ماتزال تمارس انشطة وتجاوزات خطيرة واجرامية مثل الحصول علي اعفاءات ضريبية وجمركية تسهيلات بنكية وبدون ضمانات اضافة الي تهريب السلع والاحتكاروالضلوع في نشاطات اجرامية مثل غسيل الاموال والنشاط في السوق الاسود للدولار والمضاربات في العقارات والسيارات وكل الانشطة الطفيلية الغير منتجة٠
٣/ يقود القطاع الخاص مايسمي باتحاد اصحاب العمل واتحاد الغرف التجارية والمعلوم هذه المنظمات كانت الي الامس القريب من اهم اذرع النظام البائد الاقتصادية ومعظم منسوبيها ينتمون الي المؤتمر الوطني الي الان ويتآمرون علي الثورة ويحلمون بعودة نظامهم البائد ولاننسي حملتهم الشهيرة لإنقاذ النظام إبان أزمة السيولة في أواخر ايّام النظام المباد.
اللنك
ثانيا/ حول سحب الدعم عن السلع الاساسية واستبدال الدعم السلعي بالدعم النقدي المباشر نلاحظ الاتي:
١/ بناء علي تصريحات السيد وزير المالية لقاء تلفزيوني عرض مؤخرا فاتورة الدعم السلعي حوالي 150 مليارجنيه (1.5 مليار دولار) وهو مبلغ ضئيل جدا ويمكن تغطيته من عدة مصادر اخري (بيع ممتلكات النظام البائد مثلا) ولا يستحق كل التضحيات والإشكاليات الناجمة من سحب الدعم السلعي٠لنك اللقاء التلفزيوني
٢/ اكد السيد الوزير ان سحب الدعم السلعي من المحروقات سيمكنه من توفير مبلغ 150 مليارجنية وسيقوم بتمويل فروقات الهيكل الراتبي الجديد بمبلغ 80 مليارجنيه ويستغل ماتبقي 70 مليارجنيه في تمويل بند العطالة للشباب الباحثين عن العمل بمبلغ الفين جنيه لكل شاب٠
والغريب في الامر ان هذين البندين الهيكل الراتبي الجديد وبند عطالة الشباب لم يكونا في ميزانية 2020 المجازة سلفا مما يؤكد محاولة السيد الوزير باستخدام هذين البندين كوسيلة اغراء وتحفيز لسحب الدعم ونجد
في هذا التصرف قمة التحايل والخداع وعدم الشفافية٠
وهذا يؤكد أيضا انه اذا لم يتم تنفيذ هيكل الاجور الجديد وبند العطالة المقترح فلاحاجة لسحب الدعم اصلا اذا كان الهدف من سحب الدعم تقليل الفجوة في عجزالميزانية٠
٤/الدعم النقدي المباشر يتطلب تتفيذه إمكانيات فنية وإدارية ضخمة تبداء بحصرشامل لكل فئات المجتمع وتحديد المستحقين ثم إيجاد الوسائل المناسبة لتوصيل الدعم النقدي لهم وهذه مهمة مستحيلة في بلد مترامي الأطراف كالسودان وبه نسبة عالية من الاميه ومن المجموعات الرعوية غير المستقرة ولاترتبط بأساسيات الاستقرار الحضري ولاتمتلك حسابات بنكية او حتي موبايل فون أضف الي ذلك المبلغ المقترح 300 جنيه للفرد شهريا وهذا المبلغ اقل بكثير من الحد الأدني للمعيشة ودون الحد الأدني لمستوي الفقرالعالمي خاصة في ظروف التضخم الجامح الذي سرعان مايلتهم هذا المبلغ في ايّام٠
مشاكل سياسة تحرير سعر الصرف (التعويم)
بعيدا عن المصطلحات الفنية وتعقيداتها تعويم الجنيه يعني بكل بساطة ترك قوة السوق اي العرض والطلب تحدد سعرصرف العملة المحلية مقابل العملات الاجنبية او العكس ووفق هذا النظام لايتدخل البنك المركزي بشكل مباشر في تحديد سعر الصرف٠
اسباب تعويم العملة
الاساس النظري لسياسة التعويم يستند علي المدرسة النقدية لملتون فريدمان والمدرسة الكلاسيكية وجوهر هذه المدرسة ان حرية جميع الاسواق كفيلة باعادة التوازن وفق الاسعار الحقيقية ويشمل ذلك تحرير جميع الأسعار -أسعار السلع والخدمات، أسعار الفائدة، أسعار العمل (الأجور)، أسعار النقد الأجنبي (أسعار الصرف)٠
والافتراض الاساسي للنظرية الكلاسيكية مبدأ كفاءة الاسواق وحرية الحركة الكاملة لراس المال والعمالة والسلع ووفق هذا الافتراض ان التعويم سيؤدي إلى انخفاض قيمة العملة الوطنية مقابل العملات الاخري، وبالتالي إلى تعزيز القوة التنافسية ٠وهذا كفيل، حسب قولهم، بزيادة الصادرات والحد من الواردات، فيعتدل بذلك عجز الميزان التجاري ويعود إلى حالة التوازن. والمنطق نفسه يعمل في اتجاه عكسي في حال وجود فائض تجاري٠
هناك الألاف من البحوث والاوراق بل حتي توصيات المؤتمرات عن هذا الموضوع كذلك التجارب الماثلة امام العيان في الكثير من الدول والتي اثبت التجارب فشل هذا المودل الاقتصادي تماما ان هناك دراسة حديثة تمت العام الماضي بواسطة خبراء اقتصاديين من الصندوق برئاسة كبير الاقتصاديين في صندوق النقد بعنوان:
“IMF Warns that currency devaluations will not fix the country’s economic problems “
تجدها في هذا الرابط
وخلصت الدراسة للآتي:
A 10% depreciation on average improves a country’s” trade balance by around 0.3% of GDP within a 12 month period, primarily through contracting imports, the trade is largely invoiced in dollars. Over a three years span, increase to a 1.2% of GDP improvement in trade balance as export respond more meaningfully to exchange rate movements, thought the “ full expenditure switching effects” remains relatively modest”
وهذا يعني ان تخفيض العملة الوطنية بنسبة 10% قد يؤدي الي زيادة في اجمالي الناتج القومي بنسبة ضئيلة الغاية اقل من الواحد في المئه في المدي القصير بتأثيرها المباشر علي تقليل الصادرات وفِي المدي المتوسط في خلال ثلاث سنوات ربما يزيد تأثير تخفيض العملة علي زيادة أجمالي الانتاج القومي بمايعادل 1.2% فقط ويعتمد هذا التأثير علي مرونة الطلب علي الصادرات والواردات٠
ونقول للسيد الوزير وهو ادري بان هناك شروط لاختبار فعالية تخفيض العملة حتي لاقتصاديات الدولة المتقدمة والتي تلعب التجارة الدولية دورا هاما في مكونات أجمالي الناتج القومي لاقتصادها من هذه الشروط
اولا/ اهمية قياس مرونة الطلب الصادرات والواردات وتطبيق مبدأ مايعرف في الاقتصادي الدولي
“Marshal/-Lerner Condition”
والتي تشترط لفعالية ونجاح تخفيض سعر الصرف علي الميزان التجاري يجب قياس مرونة الطلب علي الواردات ومرونة الطلب علي الصادرات والتأكد من ان حاصل مجموعهما يجب ان يكون اكثر من واحد صحيح٠هل قام السيد الوزير المتخصص في “الاقتصاد القياسي” بإجراء هذا القياس وهل هناك معلومات عن مرونة الصادرات والواردات للاسواق المختلفة لكل الصادرات والواردات السودانية ؟
ثانيا/ ليكون تخفيض العملة المحلية مبررا يجب ان يكون حجم القطاع الخارجي (الاستيراد والتصدير) لإجمالي الناتج العام كبيرا مقارنة مع بقية المكونات هل هناك معلومات وإحصائيات عن حجم النشاط الاقتصادي للقطاع الخارجي؟ وكم تمثل كنسبة لإجمالي الناتج العام؟ وهل تبرر هده النسبة تخفيض الجنيه ومايتبعه من تكلفة وإشكاليات اهما التضخم الجامح الماثل للعيان الان؟
ثالثا/نسبة التخفيض هل تتناسب مع مايتوقع من فوائد واضرارهل تمت دراسة شاملة “Cost-benefit” لتقارن بين الفوائد المتوقعة والتكلفة الاقتصادية والاجتماعية لتخفيض العملة الوطنية؟ خاصة ان السيد وزير المالية يهدف الي خطوة جبارة الا وهي التحرير الكامل وهي كارثة كبري بمعني الكلمة٠
رابعا/هناك عوامل اخري هامة غير سعر الصرف تؤثر علي حركة الصادرات والواردات منها التسويق والعلاقات التجارية وغيرها من العوامل الغير سعرية هل تمت دراسة شاملة لمعرفة مدي تاثير تلك العوامل علي السياسة الاقتصادية المعلنة؟
خامسا/التوقيت مهم في قرارالتخفيض وتختلف النتائج حسب الظروف اذا كانت الدولة في حالة انكماش او تضخم او كما في حالة السودان حالة الكساد التضخمي الجامح فالتخفيض في هذه الحالة يودي قطعا الي إشكالات كبيرة نتحسس اثارها كل يوم هل تمت دراسة هذا الاثر؟
سادسا/ The second round effect of multiplier and accelerator “
التأثير الثانوي للمتغيرات الاقتصادية الناتجة عن زيادة الإنفاق الحكومي والضرائب علي زيادة اجمالي الناتج القومي وتأثير تخفيض سعر الصرف علي هذه العملية هل تمت دراسة ذلك التأثير؟٠
في حالة السودان يمكن دحض هذه الاسباب النظرية لتبرير تعويم الجنيه علي النحو التالي:
اولا/خفض العجز التجاري وخفض الدين الاجنبي عن طريق زيادة الصادرات والحد من الواردات ففي حالة السودان يظل العجز التجاري عجزا هيكليا فالطلب علي الصادر السوداني من المحاصيل الزراعية طلبا غير مرن ولايستجيب لتغير السعر ويعاني الصادرالسوداني من مشاكل غير متعلقة بالاسعار مثل مشاكل الانتاجية والترحيل والاسواق والمياه والمخصبات وعلاقات الانتاج٠فعجز الميزان الخارجي القادم لقلة الصادرت، وزيادة الواردات لأسباب هيكلية لا علاقة لسعر الصرف بها فمعظم الصادرات السودانية الزراعية والحيوانية او حتي التعدينية تعاني مشاكل في الانتاج وتدني الانتاجية وضعف التسويق والتمويل الداخلي والخارجي وهي مشاكل لاتحل بواسطة تعويم سعر الصرف اما الوردات ستظل كما هي سلع كمالية تخدم الطبقة الحاكمة الطفيليه بكل بساطة فالصادرات السودانية كالقطن والصمغ العربي والذهب تعاني من مشاكل في جانب العرض الانتاج نتيجة لاختلال البنية الهيكلية للاقتصاد الطفيلي وتخفيض سعر الصرف قد لايكون له اثرا كبيرا وذو تاثير محدود في تحفيز الصادر. اما الوردات فتنقسم الي سلع وخدمات كمالية مثل العربات والاثاثات وادوات التجميل والسفر، وعادة ما تستورد هذه السلع الطبقة الطفيلية المسيطرة حتي الان ولم تتم ازالتها من المشهد وهي سلع قليلة المرونة في الطلب ولاتستجيب للسعر فعند تخفيض قيمة الجنية وغلاء سعر الدولار يظل الطلب علي هذه السلع ثابتا بفضل تمكن الطبقة الطفليلية من السيطرة علي الاقتصاد، اما الوردات الاخري فهي سلع وخدمات ضرورية للطبقات الفقيرة كالادوية ومدخلات الانتاج الصناعي والزراعي والسفر للخارج للعلاج والدراسة وهي ايضا سلع هامة وذات طلب غير مرن وسيطلبها الموطن مهما زاد سعرها نتيجة تخفيض قيمة الجنيه، وهذا يثبت ان تخفيض الجنيه في حالة الاقتصاد السوداني غير فعال ويتنافي مع الاساس النظري لروشتة الصندوق والتي تستند علي فرضية تخفيض العملة ستؤدي الي تحفيز الصادر وتقليص الوراد وبالتالي تقليل فجوة العجز الخارجي لميزان المدفوعات، بل بالعكس التخفيض يؤدي الي اثار تضخمية وانكماشية خطيرة٠واذا افترضنا جدلا ان التعويم يمكن ان يزيد حصيلة الصادرات فنسبة الصادرات لاجمالي الناتج العام في الاقتصاد السوداني لاتتعدي نسبة 8% سنويا٠
ثانيا/استهداف معدلات التضخم في السودان حسب الجهاز المركزي للإحصاء في السودان إن معدل التضخم السنوي في البلاد ارتفع إلى 71.36% في شهر فبراير (2020 اخر احصائية) ٠
من اهم اسباب ارتفاع معدل التضخم بدرجة أكبر اعتماد البلاد الشديد على المنتجات المستوردة باهظة الثمن بسبب تخفيض سعرالعملة ومن اسباب التضخم ارتفاع تكاليف الانتاج وزيادة الضرائب والجمارك علي السلع او مايسمي بتضخم جانب العرض ‘Cost Push Inflation’٠
ثالثا/تشجيع تحويلات المغتربين عبر القنوات الرسمية فوزير المالية السابق صرح عن فقدان التحويلات الخارجية التي تقدر بأكثر من 400 مليون دولار، وكمان ستفقد اكثر واكثر لسبب عدم الثقة في النظام
وغياب السياسات التحفيزية المناسبة حتي الان٠
رابعا/تشجيع الاستثمار المحلي والأجنبي وفي هذا الاطار الاستثمار لا يجذب بسعر الدولار فقط ولكن يتم بتوفير المناخ الملائم من سياسات وقوانين وبنية تحتيه قوية من طرق ومؤاني ومصادرطاقة كهربائية دائمة وغيرها من الاساسيات٠
من التحليل اعلاه يتضح جليا ان المسوغات النظرية لتطبيق سياسة التعويم لاتنطبق علي حالة السودان تماما لامن حيث التنظير ولا التنفيذ بل علي العكس تعتبر (Counterproductive) اي معيقة وحتما ستؤدي لنتائج عكسية وكارثية مثل ارتفاع معدلات التضخم بدرجات غير مسبوقة اضافة الي الكساد الحاد في معظم القطاعات الانتاجية كما اجمع عليه معظم الاقتصاديين٠
ويتمثل الهدف الاساسي للحكومة من تحرير سعر الصرف في تمكين البنك المركزي بتوفيراكبر قدر من الدولار من المغتربين لتمويل الصرف علي الواردات ومدخلات الانتاج والتي تخدم الطبقة الطفيلية المسيطرة حتي الان٠
والهدف الثاني يتمثل في الانصياع التام لشروط صندوق النقد الدولي فسياسة التحرير الاقتصادي وتنفيذ روشتة صندوق النقد الدولي كانت ومازالت ديدن الميزانية المقدمة بواسطة وزير المالية حتي الان٠
التعويم سيكون لها عواقب كبيرة على الاقتصاد الوطني، كونه غير مستعدّ لذلك وسيجعله في مواجهة مباشرة وغير مسبوقة مع تقلبات الوضعية الاقتصادية والمالية محليًا ودوليًا، فأي ارتفاع لسعر البترول في السوق الدولي سيجعل قوة العملة المحلية أضعف مقارنة مع الدولار، وأي انكماش اقتصادي سيؤثر سلبًا أيضًا على القوة التصديرية التي تعتبر أحد ركائز قوة العملة الوطنية.وحتي خبراء صندوق النقد الدولي يحذرون من العجلة في تنفيذ سياسة التعويم الشاملة لخطورة مايترتب عليه من اثار كارثية سياسية واجتماعية٠
سر سبب نجاح الصين
وهنا نجد فكر السيد الوزير وايديولجيته النيوليبرالية الاحادية والتي تري الكون بعيون نيوليبرالية لا بديل لها ولاحقيقة سواها نابع من العقيدة النيوليبرالية وفكر اجماع واشنطون الذي يُؤْمِن بسياسات التحرير الاقتصادي بصورة مطلقة٠
يتحدث السيد وزير المالية باستمرار عن التجربة الصينية ويبدي اعجابه بها “For all the wrong reasons” ويعتبر سياستها في سعر الصرف هو سر نجاحها الباهر فالشاهد ان الصين لم تتبع الخط النيوليبرالي ورؤية صندوق النقد الدولي والبنك الدولي ابدا خاصة في مراحل النمو الاولي بل علي العكس كان سر نجاحهم الابتعاد كليا عن طريق الفكر النيوليبرالي المعادي للتنمية الاقتصادية التي تستهدف رفع مستويات المعيشة ومحاربة الفقر قبل التركيز علي اقتصاديات السوق والمنافسة والاستثمار الأجنبي خاصة في بدايات مراحل النمو الاقتصادي المبكرة٠
عجبت تماما لاستخدام السيد الوزير لجمهورية الصين كمثال لسياسات تحرير سعر الصرف ومن المعلوم ان الصين لاتستخدم ولاتؤمن اصلا بسياسة تحريرسعر الصرف وتطبق مايسمي نظام التعويم المدار “Managed Float or Dirty Float”
والذي يقضي بتحديد هدف معين لسعر الصرف الذي يخدم أهدافها الاقتصادية والتجارية ومصالحها العليا والعمل من خلال ضخ او سحب كميات من العملات المحلية او العملات الحرة حسب ماتقتضي الضرورة لخدمة هذه الأهداف المعلنة في الفترة الزمنية المحددة وتتغير هذه الأهداف حسب مقتضيات الحاجة. وتواجه هذه السياسة اعتراضات شديدة من معظم الدول وخاصة الولايات المتحدة وصندوق النقد الدولي والتي تعتبر هذه السياسة تحايلا واضحا ضد قوانين اللعبة ويطلقون علي الصين لقب
“A Currency Manipulator”
في دراسة مستفيضة عن التجربة الصينية بعنوان “التجربة الصينية: مسيرة وفرص الريادة الاقتصادية للعالم” لخص د. طارق ثابت
هذه التجربة في الآتي :
اولا/ اعتمد الاقتصاد الصيني في لفترة من (1991-2000)
وهي فترة التحول لاقتصاد السوق اعتمد علي تدخل الدولة والحزب في قيادة هذا التوجه نحو السوق ولكن وفق خطوات متدرجة ومحسوبة وفِي تلك الفترة قدم للحزب الشيوعي الصيني الكثيرمن الإصلاحات السياسية لتحفيز الاقتصاد وكان الهدف خلق اقتصاد سوق اشتراكي تحت قيادة الدولة وانتهاج المنهج السياسي القائم مع اضافة بعض الإصلاحات الاقتصادية المهمة لعملية للتنمية٠
ثانيا/ في عام 1993 زادت الصين الاستثمارات بشكل كبير وكان ذلك من خلال إقامة أكثر من 2000 منطقة اقتصادية خاصة (Special Economic Zones) أدي ذلك الي تدفق رؤوس الأموال الأجنبية مع استمرارالدولة في الهيمنة على كثير من الصناعات الرئيسية وهو ما عُرف بــ “اقتصاد السوق الاشتراكي” ويلاحظ انخفاض معدل التضخم بدرجة أكبر بفضل السياسة النقدية وإجراءات الحكومة للسيطرة على أسعار الغذاء٠
ثالثا/ وفي مارس 2004 أقامت الحكومة إجراءات لتوزيع الدخل بشكل متوازن بين الريف والحضر بما يحافظ على العدالة الاجتماعية، وفي عام 2005 وافق الحزب الشيوعي الصيني على الخطة الخمسية الحادية عشر (2006–2010) والتي تهدف لبناء “مجتمع اشتراكي متناغم ” من خلال التوزيع المتوازن للثروة وتطوير التعليم والرعاية الطبية والأمن الاجتماعي٠
رابعا/لإزالة الفوارق في الدخول بين المناطق المنتجة والمناطق غير المنتجة قامت الدولة بمزيد من الإجراءات لتحفيز الاقتصاد مثل خفض الضرائب على المشروعات الصناعية ومبيعات العقارات والبضائع وضخ مزيد من الاستثمارات لتطوير البنية الأساسية للسكك الحديدية والطرق والمطارات٠
خامسا/ في بداية الامر كانت الحكومة تحدد أسعار السلع بأقل من تكلفتها الفعلية وبدأت الحكومة في التحرك نحو سعر السوق من خلال العرض والطلب بشكل تدريجي٠
سادسا/ وضعت الحكومة الصينية سياسة صناعية تهدف لدعم الشركات الوطنية في السوق الخارجي فقد كانت الحكومة الصينية تتدخل وتدعم الشركات الوطنية بهدف الحماية وعدم التعرض لمخاطر اقتصادية في الخارج والاستفادة من كل عوامل الانتاج الرخيصة كالعمالة والأرض وكانت تعطي هذه الشركات إعفاءات ضريبية وجمركية وقد ساعدت هذه الإجراءات الشركات الوطنية على المنافسة في الاسواق العالمية٠
من الواضح جدا ان الطريقة التي تطورت بها الصين تبتعد كل البعد عن برنامج السيد وزير المالية و”سياسة الباب المفتوح” للاستثمارات والتمويل من البنك الدولي والصندوق دون رقيب او حسيب فالاقتصاد الصيني تدرج نحو اقتصاد السوق من خلال مراحل استغرقت سنوات بل عقودا طويلة وتحت سيطرة الدولة والحزب وفق خطط غاية في الدقة والرقابة وحتي الان تتدخل الدولة والحزب في كل التفاصيل الاقتصادية والاجتماعية وتدعم الدولة المستهلكين والمنتجين وفقراء الريف وتدعم الشركات الصينية وتمكنهم من المنافسة في السوق العالمي وتتدخل في سعر الصرف لصالح سياسات التجارة الدولية ودعم الصادرات ولا تقوم بتحريره كما نلاحظ ان الصين لم تلجاء الي قروض ومساعدات صندوق النقد الدولي لعلمهم التام ان شروط الاستدانة من تلك المؤسسات تتعارض مع برامجهم الهادفة الي النمو الاقتصادي وتحقيق العدالة الاجتماعية٠
التجربة المصرية في تعويم سعر الصرف
يقول الدكتور عمرو صالح، أستاذ الاقتصاد السياسي ومستشار البنك الدولي سابقا، إن ” تعويم الجنيه جاء من خلال قفزة قدرت بحولي 40 في المئة من السعر الرسمي. وكان أولى أن يتم التعويم تدريجيا في إطار تطبيق سياسة حرية الهوامش التي تتيح رفع السعر بنسبة 20 في المئة لا أكثر، ثم يخفض بنسبة 5 في المئة، ثم يرفع مرة أخرى لنسبة 15 في المئة، وهكذا تستمر حركة النسبة إلى أعلى تارة و إلى أسفل تارة أخرى، خلال فترة زمنية محددة حتى الوصول إلى السعر المنشود”.٠
ويبرر صالح رأيه بأن “هذه القفزة الكبيرة في سعر الصرف تضيف صدمة أخرى إلى سلسلة الصدمات التي واجهتها الأسواق المصرية. فقد سجلت ارتفاعات متوالية في أسعار السلع في فترة وجيزة، منها سعر حديد البناء الذي قد يؤدي الى زيادة أسعار عدد من السلع، بينها السيارات التي قد يرتفع سعرها بنسبة لا تقل عن 30 إلى 40 في المئة”٠
ويتفق معظم الاقتصاديين انه ليس من المعقول مثلاً تعويم دولة عملتها الوطنية وتركها لحركة السوق في غياب احتياطي كافي من النقد الأجنبي، تواجه به عمليات المضاربة التي تجعل سعر العملة عرضة للتذبذب الشديد ما بين الارتفاع والانخفاض،وهذا بدوره يخلق حالة من الفزع في حركة الاستثمار والاعمال٠
التجربة المصرية المفاجئة في تعويم العملة باتت مثالا لا يحتذى به حتى داخل دول المنطقة، ذلك لأن العالم كله شاهد التداعيات الخطيرة لهذه الخطوة التي أدت لحدوث قفزات متواصلة في الأسعار، لدرجة أن معدل التضخم بات الأعلى منذ 31 عاما، كما أدى التعويم المفاجئ للعملة إلى اختفاء الطبقة المتوسطة من المجتمع، وزيادة معدلات الفقر والبطالة، وتفاقم عجز الموازنة العامة وزيادة الاقتراض الخارجي والمحلي وركود الأسواق٠
كل ماسبق ذكره ملخص لاراء اقتصاديين ومستثمرين وباحثيين عن التجربة المصرية والتي علي مايبدو لاتسير علي مايرام اطلاقا٠
ويتسال البعض عن كيفية نجاح سياسة التعويم في مصر او علي الاقل ساعدت في الاستقرار النسبي لسعر الصرف٠الاجابة علي هذا السؤال تتلخص في الاتي:
اولا/طبيعة وحجم الاقتصاد المصري تختلف عن الاقتصاد السوداني تماما فالاقتصاد المصري مندمج بشكل كبير في دورة الاقتصاد الدولي ويمثل قطاع السياحة وقناة السويس وتحويلات المغتربين مصادر اساسية للعملة الصعبة وتملك مصر رصيدا معقولا من الاحتياطي النقدي بلغ اسواء مستوي له السنة الماضية قبل التعويم 3 مليار دولار اما الان بلغ ال48 مليار دولار٠وحسب نظرية صندوق النقد لنجاح التعويم يجب ان يتوفر للبنك المركزي قدر محترم من الاحتياطي الاجنبي للتدخل عند الضرورة القصوي٠
ثانيا/ تحرير سعر الصرف في مصر ياتي في اطار استكمال إصلاح منظومة الدعم وترشيد الإنفاق الحكومي، وتنفيذ أحد أهم اشتراطات صندوق النقد الدولي، حتى يتسنى للحكومة المصرية الحصول على ثقة الصندوق وموافقته على القرض الذي أعلن عنه أخيراً بقيمة 12 مليار دولار.عكس السودان فتنفيذ سياسات الصندوق لاتوعد باي قروض ولامنح بل بيع كلام والجري وراء تحرير شهادة حسن الاداء والتي بدورها قد تساعد في جذب المانحين والمستثمرين٠وهنا يجدر الاشارة ان الاستثمار الاجنبي لن يقترب من السودان اطلاقا في ظل وضع اسم السودان في لائحة دول دعم الارهاب كمايعاني السودان من ضعفه التصنيف الائتماني (السودان في وضع الغير مصنف وهذا يعني خطورة التعامل والاستثمار معه اسوة بالصومال وافغانستان وبوروندي والجدير بالذكر ان مصر واثيوبيا يتمتعان بدرجة B)
ثالثا/مصر كانت مضطرة ومجبرة في الدخول في هذا البرنامج الثلاثي مع الصندوق وهو برنامج تقشفي قاسي يشمل سحب الدعم وتقليل الانفاق العام وخفض عجز الميزانية والخصخصة وتشجيع الاستثمار وزيادة الضرائب والجمارك وخفض الدين العام٠وقطعا حكومة السيسي او اي حكومة عاقلة لاتحبذ هذا البرنامج ذو التكلفة السياسية العالية٠
ولكن كانت حكومة السيسي في وضع حرج بعد ان صرفت مبلغ 8 مليار دولارعلي مشروع قناة السويس مما ادي لنقص حاد في الاحتياطي النقدي الاجنبي كما لم تتمكن القناة الجديدة من تحقيق عوائدها المتوقعة وايضا قلت تحويلات المغتربين والعائد من السياحة لظروف الحالة الامنية ونضب معين الاموال الخليجية لظروف حرب اليمن وشكل كل ذلك المزيد من الضغط علي حكومة السيسي للانصياع التام لشروط الصندوق واللجوء للتعويم الكامل٠
في تقرير صادر من وزارة المالية بتاريخ مارس 2020 تحت عنوان “ازمة الاقتصاد السوداني: تشخيص الازمة ومقاربة الحلول” يهدف الي الترويج الي برنامج وزير المالية ونلاحظ في هذا التقرير الكثير من التضليل والتشويش والمعلومات المغلوطة بغرض تضليل الرأي العام نلاحظ ذلك في الاتي:
اولا/يحاول التقرير ان يلخص كل أسباب الازمة الاقتصادية في مسالة دعم السلع الاساسية وتحرير سعر الصرف في تبسيط مخل للغاية يتجاهل تحليل الازمة بشكل أعمق وشامل
ثانيا/ يحاول السيد وزيرالمالية ربط سحب الدعم خاصة عن المحروقات بتنفيذ برنامج اعادة هيكلة الاجور والمرتبات كذلك بند العطالة والذي بموجبه يمنح الشباب الباحثين عن العمل مبلغ 2000 جنيه للفرد وفِي هذا الربط المخل يحاول السيد الوزير ان يستخدم اُسلوب الترغيب والترهيب بهذه المشروطية الغريبة٠
ثالثا/ نلاحظ التناقض والمعلومات الغير صحيحة عندما يشير الي ان التضخم قد انخفض في نهاية العام 2018 نتيجة لتطبيق سياسة تحرير سعر الصرف بواسطة حكومة النظام المباد وهذا يتنافي مع الواقع حيث شهد ذلك العام ارتفاعا غير مسبق في مستوي التضخم بل حدث
“Overshooting” لمعدلات التضخم اذا بلغ مستوي التضخم 72.94%
في تلك الفترة تحديدا حسب احصائيات بروفيسورستيف هانك استاذ الاقتصاد في جامعة جون هوبكنزوهو شي متوقع عند تطبيق هذه السياسة
خاصة في المدي القصير والمتوسط٠راجع اللنك
وحتي اذا حدث تراجع مؤقت لمعدلات التضخم فغالبا مايكون لأسباب اخري ثانوية وفِي حالة السودان شهدت تلك الفترة ازمة في السيولة وازمة ثقة في النظام المصرفي قد يكون سببا قويا في احجام الجمهور في التعامل النقدي والشراء مما دفع بمعدلات التضخم للانخفاض المؤقت٠
رابعا/في هذا التقرير بتحدث الوزير عن ادخال 80% من السكان في نظام الدعم النقدي المباشر (حوالي 32 مليون مواطن سوداني) في اقل من عام حسب خارطة الطريق التي اعلنها الوزير لوحده !!! انه الخيال بعينه كيف يتم تنفيذ ذلك(وكم يكلف ذلك) هذا كلام غير واقعي إطلاقا في الغالب يهدف الوزير بالتخلص من الدعم السلعي المباشر واستبداله بوعود خيالية غير قابلة للتنفيذ٠
خامسا/ يتحدث التقرير عن توفير مبالغ طائلة عند سحب الدعم واخترع برامج جديدة يمكن ان تمول من فائض سحب الدعم برامج مثل زيادة الإنفاق علي التعليم والصحة التدريب ورفع الإنتاجية تحديث الخدمة المدنية وتوفير وظائف جديدة اضافة الي زيادة احتياطي الموازنة ورغم اهمية كل تلك البرامج ولكنها اقل اهمية من دعم السلع الاساسية كما نلاحظ انه لم يتم ذكر بند العطالة وهذا يؤكد ان كل مايقال عبارة عن بيع كلام وتضليل. في النهاية يهدف وزير المالية التخلص من دعم السلع الاساسية ليس بهدف سد عجز الموازنة بدليل انه يتحدث عن استخدام ما يتم توفيره من سحب الدعم في برامج اخري ولكن بهدف التخلص من اهم بند وهو دعم السلع الاساسية لما يتمتع به من اهميه وحساسية سياسية كذلك استجابة لشروط وروشتة صندوق النقد الدولي٠
سادسا/يتحدث السيد وزير المالية عن عدم رفع سعر الدولار الجمركي ويذكر تحديدا انه يسبب التضخم وحسب اتفاقه مع اللجنة الاقتصاية لقوي الحرية والتغيير ان لا يتم رفع سعر الدولار الجمركي في ميزانية 2020
تنكر وزير المالية لذلك ونجده حسب خارطة الطريق المعلنة في التقرير يحدد الاتي:
اولا/مارس-ابريل 2020 تحرير سعر البنزين تحرير سعر الصرف للقطاع الخاص (وشرع بالفعل في تنفيذ ذلك رغم الاتفاق مع اللجنة الاقتصاية لقوي الحرية والتغيير)٠
ثانيا/ابريل 2020 انفاذ نظام التسعير التقاطي للكهرباء واعتماد بيع الجازولين التجاري٠
ثالثا/اغسطس 2020 بدء التحرير المتدرج لسعر الدولار الجمركي٠
كلمة اخيرة
نود ان نشير هنا ان السيد وزير المالية مازال يمارس العناد ويمضي في تنفيذ سياسات التحرير الاقتصادي بالكامل رغم المعارضة القوية من اللجنة الاقتصادية لقوي الحرية والتغيير ويستعين السيد الوزير ويعزز اصراره علي المضي قدما في هذا الطريق الوعر والذي يتعارض مع مصالح جماهير الثورة ويهدد مصير الثورة ويعطل مسيرتها بالاستعانة بعناصر دولة التمكين في وزارة المالية وبنك السودان وجماعات الطفيليين في مايسمي باتحاد اصحاب العمل والغرفة التجارية وغيرهم من سدنة النظام البائد.
ورغم تقديم الكثير من الخطط والبرامج البديلة والتي تلتزم الخط الوطني والمخرج السليم قدمت من قبل اللجنة الاقتصادية لقوي الحرية والتغيير ومن مجموعة من الاقتصاديين الوطنيين ومن الأكاديميين ومن مجموعات من المواطنين الحادبين علي مصلحة هذا الوطن الا ان السيد وزير المالية ضرب كل هذه الجهود المقدرة بعرض الحائط وواصل اصراره العنيد علي السير في طريق الصندوق والبنك الدولي مدعموعا من سدنة دولة التمكيين الفاسدة وقديما قالوا من جرب المجرب حاقته الندامة٠
د. محمد محمود الطيب
واشنطون
مارس 2020
REFERENCES
[1] ) Esteban Pérez Caldentey, The Concept and Evolution of the Developmental State, International Journal of Political Economy, Vol. 37, No. 3, Fall 2008, pp. 27-53.
Exchange Rate Arrangements and Economic Performance in Developing Countries.” World Economic Outlook
كلامك درر ي دكتور…. فعلا المجنون من يتبع نفس الخطوات كل مره ويامل ف الحصول ع نتائج مختلفه…
سياسة د. البدوي قفزة في الظلام و كما تعلم لا يملك أي data لانو أصلا البلد في مرحلة “شبه دولة” و تدار بواسطة عصابات مافيا. د. البدوي خطر علي الأمن القومي. و لن يقبل الشعب السوداني بسياسات البدوي, اخطر ما فيها هو شرعنة ما نهبه الحرامية,
مهما لف و دوّر فهو فاسد و لمدة 6 شهور يتفرج لتسوء الاحوال ليتمكن من لي دراع الشعب لفرض سياسته ببندقية الدعم السريع لاحقا. لا خير فيه اطلاقا للشعب السوداني. و الوعي بخطورة البدوي مهم جدا, فهو خليط بين حمدي و المتعافي و مامون حميدة و من نفس الفصيلة.
و لا نعفي حمدوك المختبئ وراء البدوي من المسئولية, حمدوك هو غطاء البدوي. فانحسار شعبية حمدوك المتزايدة بسبب عجز و خطل سياسات البدوي.
علي هدا المنوال حمدوك في طريقه الي خارج الوزارة فقط مسألة زمن.