
نجاح الرؤية التنموية متوقفٌ على معرفتنا الإحداثية التاريخية التي تساعد على التنسيق بين بنية المجتمع الاقتصادي، بنية المجتمع الحقوقي، وبنية المجتمع الثقافي كما يُفَصِّلها بجدارة المفكر الإيراني داريوش شايغان في كتابه “النفس المبتورة: هاجس الغرب في مجتمعاتنا”. إن فاعلية الجذر القديم لا تنعدم لمجرد التحوّل الرؤيوي، بل يلزم تحول انتقالي للعقل من الإيمان بالأسس الثابتة للرؤية الجوهرية إلى الإيمان بالمسار التاريخي لتطور الأشياء. بمعنى آخر، لا بد أن نميز مجالنا الخاص عن مجال الألوهة، كي لا تغدو الأخيرة ضحية أهوائنا، وننعتق من ثم من هيمنة الأسطورات الوجودية.
وإذا نجونا من هيمنة الإبداع الديكارتي (على الأقل من ناحية المنهج)، ولم نتعرّض لتأثير عصر الأنوار والانتقاد (على صعيد الأفكار)، فقد ظللنا موقوفين في سديم التضمينات والأمنيات الصمّاء والتأوهات المكبوتة، بيد أن الحداثة التي اجتاحت فضاءاتنا الحدسية والمعرفية، كما التقنية التي هرعنا إلى امتلاكها من دون النظر في مضامينها الوجودية لن تكتفي بتبديل “الخلية العذراء” التي كوناها عن أنفسنا، لكنها أيضاً ستكون سبباً في توليد الانكسارات والتشوهات في نفسيتنا. ولن يشفع لنا حينها جهلنا “بنسابة الأفكار المستوردة” فتلك ثغرة سيستغلها الوكلاء المحليون، لفرض ولايتهم أو تقنين حمائيتهم على مجتمعاتنا الساذجة والبريئة، وإذا شئت “الورعة التقية”. سنمتحن إمكانية هذه الادعاءات للتماسك، في ظل الاختلالات لاحقاً.
فيما كان روسّو يعتقد أن كل تطور للمجتمع هو مسار ارتهاني، ولن يتم التحرّر في مستوى التحول الوجداني، بل في مستوى تجدّد المجتمع ذاته، فإن الفلاسفة والمفكرين في عالمنا لا يدّخرون جهداً في محاولتهم لإخضاع الإرادة الجماعية لإرادة الفرد القائم على الفضيلة، والقمين على مصلحة الجماعة. لا يقتصر هذا المنطق الروسوي المغلوب على دائرة الثقافة، لكنه يَنْسرب سرّاً أو قسراً ليشمل دائرتي الاقتصاد والسياسة، مُحدثاً تصدّعات قد تهدّد بانهيار المجتمعات. هذه الانقطاعات أو التصدّعات سيتم تغطيتها بطريقة أشبه بالتصفيح الذي يشبه عملية استخدام قشرة طلاء رقيقة لإخفاء خشونة الأشياء، ما يعقب ذلك من فشل هو الكِلفة الحقيقة لهذا التصفيح.
فشل الثقافة في تحقيق العقلانية على مستوى البُنيات الوظيفية، والفاعلية الشخصية له صلة بما
يدفعنا إلى تجاهل الطبيعة التناسلية والسلالية للمفاهيم (شايغان، ص:39)، فالديمقراطية، كما يقول شايغان، هي ابنة الأنوار، والأنوار هي ذروة نتاج العقل الانتقادي الذي أبدع المفاهيم البنيوية، وحدد الخصائص الوظيفية في الاقتصاد والسياسة والمجتمع، كما أنّ لذلك كله صلة بالتحول المنظاري للرؤية، من كونها تأملية إلى كونها اختبارية لا تركن إلى السكون، خشية التعرّض للاختلالات المعرفية والجمالية والنفسية (انظر تجربتي أينشتاين وبيكاسو في الكتاب آرثر آي. ميلر “أينشتاين، بيكاسو: المكان والزمان والجمال الذي ينشر الفوضى”)، بل تتحفز للإفادة من الطاقة التي تكتنزها تلك اللحظات الحرجة. كل الانسجامات، كل المفاتن والمواربات التي تدوزن عادة إيقاع “نظرية التنمية المستدامة”، يجب فحصها لصالح تبني نموذج تفاعلي وسيط، لا يقنن لهيمنة النظام العالمي، كما لا يقنع بالنظام القِبْلي الذي تجاوزته الحداثة، فلم تعد تجدي الوصفة الرغائبية للتنمية، ولا تلكم الطوباوية التي تؤله العقلانية التكنولوجية، فالإنسان لم يعد مجرّد حامل سلبي لحمولاتٍ فكرية تائهة، بل أصبح ذاتاً واعية تقرّر في شوؤنها وتتحمّل نتائج خياراتها.
وإذا كنا ننشد الاستدامة، فيجب ألا نستورد، وألا نسعى مطلقاً إلى تطبيق نموذج تنموي جاهز غالباً ما يتعارض مع مقدّرات بلادنا الطبيعية والحيوية. إن الاستعمال الالتباسي المتداول لمصطلح الاستدامة قد أفرغ التنمية من مضمونها الوجداني الثقافي والحقوقي، وجعلها مجرّد غنائية تردّدها ببغاءات المنظمات الإقليمية والدولية الذين يلقبون بالتكنوقراط. إن الارتهانات ونزع الطابع الأخلاقي والإنساني عن نماذج التنمية قد لا يعيق فقط إمكانية دول العالم الثالث للانطلاق، إنما أيضاً قد يتسبب في إحداث كوارث بيئية واجتماعية.
عجز الدولة عن تطوير قدراتها التكنولوجية بتوفير البنية التحتية، وتوسيع حجم السوق المحلية، ضمان الأمن القانوني والاستقرار السياسي قد حرمها فرصة جذب الاستثمار الأجنبي اللازم لرفع الإنتاجية الزراعية أو الصناعية. وقد يبدو المنطق دائريا، فالعجز عن جذب الاستثمار هو الذي أقعد الدولة عن القيام بدورها في توفير فرصة حقيقية تتجاوز “خرافة التنمية” التي تمثلت في قبول مبدأ التعافي الإعجازي (أزوالدو دي ريفيرو، خرافة التنمية، ص، 152). في غياب الإرادة السياسية للإصلاح وضعف السياسية الإدارية، قد تستحيل الرؤية الاستراتيجية للتنمية المستدامة 2030 إلى مثيلتها من “أهداف الألفية” التي أضحت بمثابة وثائق أدبية دست في أضابير الخبراء العالميين والوطنيين. وقد كانت الشراكة (الغائبة حينها) كفيلة بتفعيل قنوات الشفافية والمحاسبية وتقنين سبل التواصلية/ التداولية بين الدولة والقطاع الخاص والمجتمع المدني. بيد أن محاولة النظام الاقتصادي العالمي لاستمالة النخب الاقتصادية المحلية، مستخدمة أساليب ناعمة وأخرى خشنة قد حرم بلدانا كثيرة نامية من فرصة استشراف وضع اجتماعي وسياسي ينتج أقصى حد من الانبثاقات والإبداعات، ويفرض أدنى حد من الضغوط.
وإذ ظلت مجهودات المجتمع المدني تفتقد التنسيق، فإنها حتماً ستواجه التهميش، الأمر الذي سيعزلها عن المنابر السياسية والحوارات الثقافية والدورة الاقتصادية. وبالتالي سيفقد المجتمع المدني (العالمي والمحلي) أدوات مهمةٍ ومهاراتٍ كان سيكتسبها لغرس ثقافة الحوكمة، تحديث وتطوير نظم التخطيط الاستراتيجي المبني على النتائج، وتأطير سبل التواصل مع العالم الخارجي. لطالما بقي الأمل بالله والإيمان بمستقبل أفضل للبشرية يمثلان الجبهة الخلفية والعمق الوجداني الحقيقي لقدرة شعوب العالم على الصمود والاستمرار في مقاومة عقيدة “الفوضى الخلاقة”، فإن المعول يبقي على تخرج نخبة كوزموبوليتانية مدركة، واعية، وعازمة على خوض المعترك السياسي التنموي مدنيا وسلميا، إذ المعركة تدور رحاها في الذهن، وذلك من خلال الاعتماد على التدافع الحيوي الذي لا يهمل التجليات الفكرية والروحية، كما لا يغمط التجربة العلمية، العملية والواقعية، دورها في جبر وحدة المصير الإنساني، وتحقيق غايته من الازدهار والنماء.
الوليد آدم مادبو
العربي الجديد
“….إن الاستعمال الالتباسي المتداول لمصطلح الاستدامة قد أفرغ التنمية من مضمونها الوجداني الثقافي والحقوقي، وجعلها مجرّد غنائية تردّدها ببغاءات المنظمات الإقليمية والدولية الذين يلقبون بالتكنوقراط. إن الارتهانات ونزع الطابع الأخلاقي والإنساني عن نماذج التنمية قد لا يعيق فقط إمكانية دول العالم الثالث للانطلاق، إنما أيضاً قد يتسبب في إحداث كوارث بيئية واجتماعية…”
بالله هل ممكن نصدق دا كلام واحد نزل بى تقلو يشكر في وزير المالية وخططو .. وهو “الببغاء” بتاع البنك الدولي …
غايتو نحنا في محنة مع مثقفاتية “سرجي مرجي” الليلة طبيب وبكرة تمرجي ….
يا أمة محمد الفاهم حاجة ينورنا،،، إلهي ينور دروبكم..