
مقدمة
النظم الشمولية تسعى لإحكام سيطرتها بشكل يصعب معه التفريق بين الطبقة الحاكمة و بين مؤسسات الدولة (الشرطة مثلاً) و مؤسسات المجتمع (مثلاً النقابات) التي يفترض أن تكون محايدة في الخدمات التي تقدمها للمواطنيين و في الإنتساب إليها كعمال أو مهنيين الخ…، حيث توظف سائر المؤسسات في خدمة السلطة الحاكمة، كما يحرص رموز السلطة على السيطرة على المواقع التنفيذية للدولة بأنفسهم والتغلغل في بنيتها بصناعة تنظيمات خاصة موالية لهم، مع الوقت تصير هذه الشبكات هي عمق الدولة والمهيمن عليها و هو ما عرفه السودانيون و بإعتراف الإنقاذيين أنفسهم باسم التمكين. في كل تغيير ثوري نحو الديمقراطية في السودان كانت النقابات في الصفوف الأولى، حيث لعبت جبهة الهيئات و التجمع النقابي و تجمع المهنيين دوراً بارزاً في انتفاضات أكتوبر 1964م و أبريل 1985م و ثورة ديسمبر 2018م على التوالي، فالحركة النقابية في هذا البلد ضاربة في القدم وشديدة التأثير. لذلك و عقب كل إنقلاب عسكري كانت النقابات أول ضحاياه حلاً أو تجميداً، شأنها شأن الأحزاب. انتبهت الإنقاذ إلى خطورة النقابات عليها فعمدت إلى حلها بل و صادرت أموالها قبل أن توحدها تحت راية الاتحاد العام لنقابات عمال السودان لتهيمن عليها. تفكيك التمكين ليس مسؤولية الحكومة وحدها بل هناك أدوار وطنية تقوم بها النقابات (اضغط للمزيد في المقال السابق) و بالتالي كلما أُسرِع في تشكيلها قٌطِع الطريق على الثورة المضادة أو الإنقلاب و ساهمت في تثبيت الفترة الإنتقالية.
ما زالت عملية إعادة بناء نقابة الصيادلة تراوح مكانها و كما هو متوقع لم تتمكن اللجنة التسييرية المشتركة (مكونة من ممثلين لتجمع الصيادلة المهنيين و لجنة الصيادلة المركزية و التجمع الصيدلي و نقابة 1989) لإعادة بناء نقابة الصيادلة من الإلتزام بجدول العمل الذي قدمته لأسباب موضوعية. في هذا المقال نُحلل الأسباب التي أدت إلى هذا التأخير في تشكيل نقابة الصيادلة و من ثم نقدم مقترحات لتدارك هذا الأمر. يحلل الكاتب الأسباب التي أدت إلى تأخير تشكيل النقابة إلى تاريخية، ظرفية، أو تنفيذية.
أولاً ألأسباب التاريخية:
تاريخياً في السودان إختلط العمل الحزبي بالعمل النقابي بنمط متكرر (اضغط للمزيد في المقال السابق ) بمعنى المنافسة الحزبية للسيطرة على النقابات، و بغض النظر عن شرعية هذه المنافسة أو عدمها فمن الممكن أن تكون هناك محاولات حزبية أو من مجموعة أفراد للسيطرة على هذا المنبر النقابي. يُعزِز من واقعية هذا الإفتراض أنه قد صدرت من قبل بيانات في هذا الإتجاه. أصدرت شبكة الصحفيين السودانيين و لجنة الصيادلة المركزية (أحد الأجسام الممثلة في اللجنة التسييرية المشتركة) بيانين بتاريخ 18 أكتوبر 2019م و 20 أكتوبر 2019م على التوالي. يحذر بيان لجنة الصحفيين من أن الكثير من الأجسام الثورية تتعرض لمحاولات الإختطاف، أو أن تختزل أجسامها ومكوناتها في مجموعة صغيرة تضيق في كل مرة فتنتج شخصية الفرد. أما بيان لجنة الصيادلة فقد تناول التجاوزات في آلية اتخاذ القرار بمجلس تجمع المهنيين. مع التقدير لهذه الأجسام (تجمع الصيادلة المهنيين و لجنة الصيادلة المركزية الجسمين الممثلين للصيادلة في تجمع المهنيين) و دورها في الثورة إلا أن هذا لا يعني أن تحتكر القرار و تنفرد به لا سيما و هناك الكثير من الصيادلة الذين شاركوا في الثورة و غير منضوين تحت أي من هذه الأجسام و بغض النظر عن المشاركة أو عدمها في الثورة فالنقابة ليست حكراً لفرد أو مجموعة أفراد لتنفرد بالقرار. كان على اللجنة التسييرية أن تخطط بطريقة أكثر نجاعة لتحصل على أكبر مشاركة و إجماع ممكن عليها و على مسودة الدستور الذي تعمل عليه و ليس أن تنغلق على نفسها و تقدم مسودة دستور ثم تسأل الصيادلة عن رأيهم فيه. هذا الإنغلاق من اللجنة التسييرية أدى إلى ظهور أصوات صيدلانية تنادي بالمشاركة كما ظهر في الندوة التي نظمها عدد من الصيادلة في يوم الجمعة 21/02/2020م.
حسناً فعلت اللجنة باختيار ممثلين للقطاعات المهنية للمهنة في مرحلة سابقة لهذه الندوة رغم التحفظ على طريقة تقسيم الصيادلة إلى قطاعات مهنية و أرى أنه معيب و غير عملي و أناقش ذلك في الأسباب الظرفية و التنفيذية. بالفعل تم إختيار عدد من الصيادلة كممثلين للقطاعات المهنية لينضموا للجنة التسييرية، ثم طالب بعضهم بانسحاب أعضاء اللجنة التسييرية الممثلين (لتجمع الصيادلة المهنيين و لجنة الصيادلة المركزية و التجمع الصيدلي و نقابة 1989) بإعتبار أن مهمتهم إنتهت بإختيار ممثلي القطاعات، و عندما لم تتم الاستجابة لدعوة الانسحاب هذه علق بعض ممثلي القطاعات عضويتهم أو استقالوا. أعتقد أن مطالبة اللجنة التسييرية بالانسحاب لم يوافق الصواب حيث أن جسمين من هذه الأجسام موجودة في تجمع المهنيين و بالتالي تتولى التنسيق بين الصيادلة و تجمع المهنيين فإذا انسحبوا يفقد الصيادلة حلقة وصل مهمة بينهم و تجمع المهنيين أم هل سيتم إختيار أشخاص جدد ليكونوا صوت الصيادلة في تجمع المهنيين و تكون خبرة القدامى قد فقدت. بحكم الظروف الحالية لم تنته وظيفة تجمع المهنيين بعد رغم التحفظات الكثيرة عليه من داخله و خارجه و الاستقالات من بعض عضويته لذلك من الأفضل أن تستمر اللجنة التسييرية مع إضافة أعضاء إضافيين على حسب التقسيم الجغرافي الذي أقترحه في الأسباب التنفيذية.
الأسباب الظرفية:
تقوم النقابات على الأهداف التالية: أ/ تطوير مهنة النقابة المعينة، ب/ تطوير مصالح أعضاء النقابة، ج/ تعزيز و حفظ المصلحة العامة. في هذه المرحلة الحرجة من تاريخ السودان أعتقد أنه من الأوفق أن نرتب أهداف النقابة بحيث تكون الأولوية للمصلحة العامة لأسباب وطنية كما ورد في المقال الأول (اضغط للمزيد في المقال السابق ). لذلك فإن تقسيم الصيادلة إلى قطاعات مهنية (الصيادلة العاملين بصيدليات المجتمع، القطاع العام، التصنيع ، و المستوردين) قد يقلل من أو يعيق الإجماع و التوافق نسبة لوجود تضارب مصالح متوقع بين هذه القطاعات (مثلاً الخلافات التي حدثت بين صيدلية خاصة و إدارة الصيدلة مؤخراً).
الأسباب التنفيذية:
في يوم الجمعة 21/02/2020م نظم عدد من الصيادلة ندوة بهذا الخصوص و في حضور بعض أعضاء اللجنة التسييرية. في هذه الندوة قال عدد من الصيادلة جاءوا من ولايات مختلفة أنهم لم يشركوا في التمثيل في إجتماعات القطاعات حيث أنه شمل فقط الصيادلة في ولاية الخرطوم. في موقع اللجنة التسييرية على فيسبوك هناك بوستات أن اللجنة التسييرية أو أعضاء منها طافوا على الولايات للحصر و لكن هناك ردود من بعض الصيادلة في بعض الولايات أن ذلك لم يحدث(3). ثم بعد ذلك في نفس الموقع صرحت اللجنة التسيرية بإنها في إجتماعها بتاريخ 8 مارس وضعت خطة زمانية للطواف الي ولايات السودان المختلفة على أن يبدأ الطواف في الأسبوع الأخير من شهر مارس و تنتهي في الأسبوع الأول من شهر أبريل، ثم قررت اللجنة التسييرية في إجتماعها بتاريخ 21 مارس تأجيل تدشين الطواف نسبة للظرف الصحى الذي تمر به البلاد المتمثل في جائحة فيروس كورونا المستجد وما ترتب عليه من إجراءات و ضوابط صحية للوقاية على أن تتم موافاة الصيادلة بالمستجدات عبر صفحة اللجنة التسييرية على فيس بوك.
كذلك جادل بعض الصيادلة ممن عاصروا نقابة الديمقراطية الثالثة أن هذا التقسيم يسهل الحصر و هذا أمر غير منطقي لإختلاف الظروف عن ما كان عليه الحال بعد انتفاضة أبريل 1985م حيث كان عدد الصيادلة لا يتجاوز 600 في كل السودان و معظمهم من خريجي جامعة واحدة (الخرطوم) مما قد يكون قد سهل الأمور في السابق. حالياً تجاوز عدد الصيادلة 20000 و هو عدد كبير نسبياً. جادل البعض أن هذا التقسيم بغرض مرحلة الحصر فقط و لكن حتى في الحصر من الصعب مثلا أن تحصر الصيادلة العاملين بصيدليات المجتمع و عددهم الكبير عبر السودان عبرزملائهم أو زميلاتهن فهذا أمر غير عملي. يعتقد كاتب المقال أن التقسيم إلى مناطقي أسهل و أسرع مثلا من السهل على صيادلة ولاية البحر الأحمر أو الجزيرة حصر أنفسهم و اختيار ممثليهم لعضوية اللجنة التسييرية، و إذا كانت الولاية كبيرة يمكن الإنتقال الى مستوى أدنى هو المحليات.
خاتمة:
الأجدى في المراحل السياسية الإنتقالية الوصول الى أقصى توافق ممكن بين مكونات المجتمع. التقسيم إلى قطاعات مهنية صيدلانية يعارض المصلحة العامة و من أهداف النقابة أن تحفظ المصلحة العامة. علينا أن نقرأ التاريخ لنتعلم محاولات السيطرة على منابر النقابات من أفراد أو مجموعة أفراد أو أحزاب بغض النظر عن الدوافع لا تخدم المصلحة العامة و ستبطئ تشكيل النقابة لأنها ستواجه بتشكيلات مضادة و تحولها لمواقع لتصفية الخلافات الشخصية و الحزبية. البناء من القواعد هو الطريق الصحيح و يضمن أكبر مستوى من التوافق و هو أسرع و أسهل و نكون فارقنا ثقافة إنقاذية تمكينية و هي البناء الذي يبدأ من قيادة تبحث عن قواعد تابعة. طريقة الحصر المناطقي أسهل و أسرع و تتيح مشاركة أوسع للقواعد.
محمد خالد الحاج
[email protected]