مقالات سياسية

هل هناك منطقة وسطي بين وزير المالية وقوي الحرية والتغيير؟

الدعم الجزئي وسعر الصرف المجزي.

ما زال وزير المالية يصر ويحاول كل السبل من اجل رفع الدعم عن السلع وتحرير سعر الصرف. وما تزال قوي الحرية والتغيير (او غالبية مكوناتها) ترفض، بحجة التجارب غير الموفقة لوصفة البنك الدولي في السودان وفي العديد من الدول الافريقية وغيرها.

الدليل علي اصرار الوزير “وبطريقة” غير مبررة، اتضح من الترويج لوجهة نظره، علي شاشة التلفزيون القومي، في محاولة لاستقطاب الرأي العام لرفع الدعم وصرف مبالغ مالية للاسر الفقيرة والخريجين العاطلين عن العمل!.
برغم اننا بصدد طرح رأي وسطي بين توجه الوزير وتوجه قحت (ليس من قبل المساومة) الا اننا في البداية نستهجن الترويج للراي بالطريقة التي اتبعتها وزارة المالية بالاعلان في التلفزيون، وليس بأسلوب الحوار العلمي والاقناع ولكن بنفس اُسلوب الترويج للمنتجات الاستهلاكية للأسف!! (الزبادي، المشروبات، الكريمات، والعلاج بالأعشاب …الخ).
من البديهي ان هذا اُسلوب غير موفق ولا يليق بمستوي شخص في مقام دكتور البدوي.
وبصرف النظر عن السلوك الجديد غير المقبول، وللحق، لم يفصح د. البدوي او يطالب بمجمل وصفة البنك الدولي حتي الان بصورة شاملة رغم ان توجهه النيوليبرالي لا يخفي علي احد. لذلك نحصر الحديث هنا علي الدعم السلعي وسعر الصرف. فقط

يعلم الكل بمن فيهم وزير المالية ان التعاون مع البنك الدولي لا يتوقف علي رفع الدعم اذا نظرنا الي تجربة اثيوبيا ومصر علي سبيل المثال، حيث ما زال دعم السلع يمارس بنِسَب متفاوتة. ، وما زال التعامل مع البنك مستمر علي قدم وساق.
نري ان لرفع الدعم “الجزئي” والذي طرحناه علي هامش مقال سابق، ما يبرره في الظروف الحالية في السودان، علماً بان معظم مصدر الدعم هو من الضراءب التي يتحملها في نهاية الامر المواطن البسيط ومتوسط الحال (ان كان هنالك متوسطي حال)! ونري ان بالدعم الجزئي يسترد المواطن جزء من ما قام بسداده لخزينة الدولة.
في هذا الصدد وكما هو معلوم ايضاً ان ما يسدده رجال الاعمال من جمارك ورسوم انتاج تحمل في النهاية علي أسعار السلع، وبذلك يكون المستهلك هو المصدر الفعلي لهذا الجزء المقدر من الدخل العام Public Revenue الذي يستخدم جزء منه لدعم السلع.

فيما يلي نتطرق لكيفية ومبررات الدعم الجزئ. الذي نقترحه ونجد له فوائد ومبررات.
١- المحروقات:
قد يكون من المناسب، ان تصرف كميات محددة من البنزين المدعوم للسيارات “الصغيرة” والدراجات البخارية والركشات عن طريق كبونات تصدرها السلطات المحلية، وتحدد الكميات بعد دراسة متوسط الاستهلاك اليومي لهذة المركبات ومن يريد شراء كميات إضافية من اصحابها، يقوم بشرائها بالسعر التجاري (غير المدعوم).
فيما يخص مركبات المواصلات العامة الداخلية في المدن، والبصات السفرية بين المدن؛ قد يكون ايضاً مناسباً ان يتم صرف كميات محددة من الجازولين المدعوم حسب متوسط الاستهلاك اليومي. ، ومن يريد كميات إضافية يقوم بشرائها بالسعر التجاري.
فيما يخص القطاع الزراعي، يقترح ان يوزع الجازولين ايضا بنظام البطاقات بكميات محددة، حسب متوسط الاستهلاك للاليات الزراعية وطلمبات الري بالتنسيق مع وزارة الزراعة، مع مراعاة اختلاف الاستهلاك في المواسم المختلفة.

المبررات للدعم الجزئي للمحروقات:
– يعتمد عدد كبير من المواطنين ذوي الدخل المحدود (معظمهم موظفون وليس أغنياء كما ورد في اعلان وزارة المالية الغير موفق)، علي استخدام العربات الصغيرة في الذهاب الي ومن أماكن العمل.
– يعتمد عدد كبير من المواطنين ذوي الدخول المحدودة والطلاب والمعالين علي التنقل بواسطة الحافلات والبصات والدراجات البخارية والركشات.
لذلك ولضمان تمكن ذوي الدخول المحدودة، خاصة الموظفين والعمال والطلاب، من التنقل بتكلفة مناسبة لإمكانيتهم المادية، والمتدنية يوميا بسبب تفاقم وتاءر التضخم، يكون من المناسب اعتماد الدعم الجزئي للبنزين والجازولين.

– تحديد الكميات المسموح بها بالسعر المدعوم يرشد الاستهلاك وبالتالي يُحد من الكميات المستوردة والمدعومة ويحد من التهريب. كذلك يُحد تحديد الكميات من الاختناقات المرورية واستهلاك قطع الغيار والإطارات.

– القطاع الزراعي هو القطاع الاول والاهم حاليا من منظور توفير الغذاء.
ومن الضروري دعمه لضمان توفير الغذاء بأسعار مقدور عليها. نذكر هنا بان نسبة 60% من السكان يعيشون تحت خط الفقر حسب ما صرح به وزير المالية نفسه.

– ضرورة المحافظة علي قدرة السلع الزراعية (الذرة، السمسم، الكركدي، الصمغ الخ…) علي المنافسة في الاسواق الخارجية.؛ايضا تبرر الدعم الجزئي الجازولين

معلوم ان الانخفاض الأخير في الأسعار العالمية للنفط سينعكس علي تكلفة المحروقات في السودان. لكن في نفس الوقت، سوف تتاثر التكلفة محسوبة بالعملة المحلية، بالتدهور الحاد لقيمة الجنية في الفترة القصيرة الماضية، لذلك من اللازم اتخاذ إجراءات عاجلة لوقف هذا التدهور والحد من استهلاك المحروقات. من بين هذة الإجراءات يقترح:

– العمل علي إقامة شركات قابضة لتسويق سلع الصادر الاساسية (الصمغ، السمسم، الذرة، القطن، الكركدي، والذهب) بالتعاون مع القطاع الخاص. وفيما يخص صادر الماشية يجب النظر في اعادة انشاء موءسسة تسويق الماشية واللحوم.
بلا شك ذلك سيساعد في الحصول علي عائدات الصادر عبر النظام المصرفي، وسيرفع من قدرات الدولة علي تمويل والواردات التي تشمل المحروقات، دون اللجوء الي شراء النقد الأجنبي من مصادر اخري.
– الحد من استيراد السيارات الخاصة وتخفيض الرسوم الجمركية لحافلات نقل الركاب ذات السعة الكبيرة.
– التوسع في نظام النقل الجماعي لموظفي القطاعين العام والخاص والقوات النظامية بدلا من التسهيلات المقدمة لحيازة واستخدام السيارات الخاصة.
– العمل علي الحد من الاختناقات المرورية والتي تهدر كميات كبيرة من المحروقات. في هذا الامر، قد يكون من المناسب، اعتماد مواعيد عمل متفاوتة للمرافق المختلفة لتفادي التكدس في ساعت الذروة.
– الاستفادة من تجارب الدول الاخري (نيجريا مثلاً) في الحد من استهلاك الوقود واختناقات السير، حيث يسمح لمرور السيارات التي تحمل لوحات بأرقام فردية في يوم وفي اليوم التالي للأرقام الزوجية. (قد يكون مناسباً في البداية، ادخال هذة التجربة في يومي الجمعة والسبت).

٢- الخبز:
من الموءكد ان الغالبية العظمي من مستهلكي الخبز هم من ذوي الدخول المحدودة او بالاحري، من الفقراء (60% ) من السكان. لذلك يمكن القول بان من يستحقون الخبز المدعوم هم هذة النسبة اضافة الي ذوي الدخول المحدودة لترتفع النسبة الي تقدير اعلي بكثير. وفي الحقيقة، النسبة التي أشار لها وزير المالية (60%) تحتاج الي تدقيق. علي كل حال يجب اعتماد دعم جزءي ايضاً للخبز علي ان يتم اعتماد بطاقات صرف حسب عدد أفراد الاسرة. ويمكن استثناء سكان الاحياء التي يسكنها ميسوري الحال (احياء الدرجة الاولي) من إصدار هكذا بطاقات . في هذة الاحياء يمكن حصول السكان للخبز بالسعر التجاري (غير المدعوم). مع مراعاة الحالات الاستثنائية،( المعاشيين مثلاً).

٣- الكهرباء:-
فيما يخص هذة السلعة، يقترح ان يتم اعتماد نسبة محددة للإمداد الكهربائي المدعوم وما يفوق ذلك يسدد بالسعر غير المدعوم. ويبدان ذلك هو المعمول به حالياً، لحد ما.

سعر الصرف:-

اعتماد الدعم الجزئي يجب ان تصاحبه حزمة من السياسات المتعلقة بالعمل علي بناء احتياطي نقدي بالعملات الحرة. ذلك يتاتي في الظروف الحالية باعتماد سعر الصرف الفعلي وليس السعر النظري المعتمد حالياً بواسطة البنك المركزي في التعامل مع تحويلات المغتربين والصادرات. مثل هذا الإجراء صعد احتياطي النقد الأجنبي في مصر مثلاً؛ من 13 الي46 مليار دولار خلال خمسة أعوام فقط.
اضافة الي ذلك يجب وقف الاستيراد بدون تحويل قيمة (Nill Value) بعد ارتفاع حصيلة صادر الذهب وسلع الصادر الاخري،.
بلا شك ذلك سيقلص عملية شراء العملات الحرة من المغتربين في الخارج ومن ثم يوءذي الي استقرار سعر الصرف.
بلا شك، ان حصر معالجة الموازنة الداخلية في موضوع الدعم وسعر الصرف فحسب، لا يفضي الي تحقيق التوازن المنشود. هنالك ضرورة لبلورة واعتماد سياسة اقتصادية مترابطة ومنسجمة تشمل كل القطاعات وتراعي التداخل بينها inter sectoral relations وتفادي اعتماد السياسات المفككة المعزولة عن بعضها البعض. يجب نظم سلسلة سياسات اقتصادية تأخذ في الاعتبار الترابط بين السياسات النقدية والمالية والتجارية والزراعية والصناعية….الخ. بمعني اخر بدون وضع برنامج متكامل لمجمل السياسات الاقتصادية الرامية الي الوصول للاهداف الشاملة Global Objectives لمعالجة الأزمة الاقتصادية، لن نصل الي اي تقدم يذكر في الموازنة الداخلية او ميزان المدفوعات. والملاحظ الان، ان الوزارات الاقتصادية، تعمل بمعزل عن بعضها البعض، الشيء الذي يقلل من فاعلية القرارات المتخذة والي تضاربها في بعض الحالات. بدون شك وزير الملية علي دراية واسعة بذلك.

مما تقدم يبدوا ان هناك منطقة وسطي بين مقترحات وزير المالية وتوجهات قحت. هذة النطقة الوسطي هي ما تم طرحه من اعتماد دعم جزءي للمحروقات والخبز والكهرباء، لتفادي الصدمة غير المُحتملة التي سيحدثها التضخم المتفاقم أصلاً، والأثر السلبي علي تنافسية السلع الزراعية في حالة اعتماد رفع كامل للدعم، حتي اذا كان ذلك خلال عام او اكثر. كذلك يوجد مبرر في ظروف فراغ الخزينة العامة من العملات الحرة، لاعتماد او بالاحري الاعتراف بسعر الصرف الفعلي (المعمول به في الواقع) من اجل استقطاب تحويلات المغتربين وتشجيع الصادرات بالقنوات الرسمية وبالتالي خلق احتياطي النقد الأجنبي المنشود. يجب الا ينظر الي ذلك بانه تخفيض لقيمة الجنيه، لان سعر الصرف المعلن عنه في البنك المركزي غير فاعل في ارض الواقع ويقف حجر عثرة امام تحويلات المغتربين وامام الصادرات عبر القنوات الرسمية.

ختاماً لا نجد حجة او واقعية لما طرحه السيد وزير المالية حول تقديم دعم نقدي للاسر الفقيرة او الخريجين العاطلين عن العمل وذلك للآتي:
– لا توجد بيانات يعتمد عليها عن الأسر الفقيرة في غياب مسوحات. ميزانية الاسرة والتعداد السكاني.
– عدم توفر وسائل فعالة لتوزيع الدعم النقدي في ظروف ضعف الشمول المالي. والفقراء أصلاً ليس لهم حسابات بنكية بما في ذلك فقراء المدن.
– الخريجين العاطلين عن العمل بعضهم متحدر من أسر لا تحتاج الي دعم مالي (خاصة الألفين جنيه المقترحة) والتي تقل عن 7 دولارات حالياً! هنا يتبادر الي ذهننا سوءال؛ هل المقصود هو دعم مالي للعاطلين عن العمل (هناك اعداد اكبر للعاطلين غير الخريجين)، ام المقصود هو سبق تاريخي للسيد الوزير، له ابعاد اخري بعد انقضاء الفترة الانتقالية؟! وناسف للشك في القصد. !
– اذا كان الحد الأدني للاجور المقترح في الميزانية الجديدة مقدر بنحو 3000 جنيه اي ما يعدل ثمن 5 كيلوجرامات من اللحم، كم سيقدم كدعم مالي للاسر؟ واذا اعتمدنا نفس المبلغ لدعم الأسر الفقيرة (7 مليون أسرة) فإننا سوف نحتاج الي 21 مليار جنيه لهذا الدعم اذا استثنينا التكلفة الإدارية لتوصيل المبلغ. والسؤال هنا هل يساعد ذلك في الموازنة الداخلية؟ وهل سيكفي مبلغ الدعم النقدي لتغطية الزيادة في الأسعار بعد رفع الدعم. لا يبدو ان هذا المقترح سيكون قابلاً للتطبيق او ممكناً في ظل الارتفاع الجنوني للاسعار و الموجود أصلاً قبل رفع الدعم.
من جانب اخر، اذا أراد وزير المالية تحسين ظروف الخريجين العاطلين عن العمل فمن الاجدي ان يعمل علي الأقل عليي توظيف كل خريجي التخصصات الطبية العاطلين عن العمل خاصة في ظروف الأزمة الصحية الحالية والمتفاقمة بانتشار فيروس الكرونة.

اللهم الزم وزير مالية الفترة الانتقالية وقوي الحرية والتغيير المثابرة، الصبر علي تفهم “واقع” السودان الاقتصادي والاجتماعي والتوصل الي ما فيه خير البلاد والعباد.

لا تنسو تغيير العملة!!!

الحسن النذير
[email protected]

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..