أخبار السودان

في ذكرى سقوط البشير ملامح من ثورات الشعب السوداني

ثلاثُ ثوراتٍ سامقاتٍ زاهيات ، صنعها الشعب السوداني عبر كفاحه الطويل والمستنير ضد الطغيان.
ثورات أدهشت العالم وزلزلت عرش الظالم ، وأعطت للناس أملا في القادم من أيام.
فكانت أكتوبر ١٩٦٤م أولى الثورات وباكورة الهبات الشعبية ، وكان الإحتفاء بها عظيماً وكبيراً ، إحتفاء أشبه بفرحة المولود الأول ، فأكتوبر كانت أول عهد هذا الشعب بالإنعتاق من نير الدكتاتورية العسكرية ، التي جثمت على ظهره لأكثر من (٦) سنوات.
صحيح أن شعبنا قد خاض قبل أكتوبر معركة النضال ضد المستعمر البريطاني ، والتي سطّر خلالها أجمل السطور وأروع الفصول ، إلا أنه لم يهنىء كثيرا باستقلاله ، عندما إختطف العسكر بقيادة الرئيس الراحل إبراهيم عبود السلطة وأحالوا البلاد من الحكم الديمقراطي النيابي إلى الحكم العسكري الشمولي.
وكما لم يهنأ الشعب بالديمقراطية ، لم يتهنىء العسكر كذلك بالحكم ، فماهي إلا سنوات تعد على أصابع اليد الواحدة حتى جاءت ثورة أكتوبر المجيدة ، وخرج الناس زرافات ووحدانا إلى الشوارع ، وإنتظم الطلاب في مظاهرات حاشدة ، إستشهد فيها طالب جامعة الخرطوم أحمد القرشي ، وكان مقتله بمثابة المسمار الذي دُقّ على نعش النظام العسكري ، ثم جاء صباح يوم الحادي والعشرين من اكتوبر ١٩٦٤م ، وجاء معه النصر والظفر.
” كان أكتوبر في أمتنا منذ الأزل ، كان خلف الصبر يحيى ، صامداً منتصراً ، حتى إذا الصبح أطل ، أشعل التاريخ ناراً وأشتعل – الشاعر محمد المكي إبراهيم “.
ولكن فرحة هذا الشعب لم تكتمل ، فمرة أخرى قفز العسكر على قطار السلطة ، ونحروا الديمقراطية نحر الإبل ، ومكث النميري غير بعيد عن كرسي السلطة ، الذي سيجلس عليه لأكثر من (١٦) عاماً ، ليسقط بعدها كما سقط سلفه عبود بأمر الشعب وتوفيق الرب.
فخرج طلاب المدارس والجامعات إلى الشوارع مطالبين بإسقاط النظام ، وقررت عدد من النقابات المهنية تكوين جسم موحد يتولى بالإشتراك مع الأحزاب السياسية عملية التصعيد الثوري ضد نظام نميري ، فجاء تكوين التجمع النقابي والذي تشكل من المحامين والمهندسين والأطباء وغيرهم.
وكانت ثورة السادس من أبريل ١٩٨٥م ، التي إستعادت الديمقراطية من جديد ، وخرج الناس للشوارع مبشرين ومستبشرين بزوال الطاغية وعودة الحرية ، يحدوهم الأمل في غد مشرق وجميل.
لكن الديمقراطية أبت أن تلبث فينا إلا يسيرا ، حتى جاء يوم الثلاثين من يونيو ١٩٨٩م المشؤوم ، يا لحظ هذا الشعب الصابر ، ما أن يفرح ويبتهج لسقوط ديكتاتور حتى يبتليه الله بدكتاتور أخر ، يذيقه من العذاب صنوفا وألوانا ، حاله كحال اليتيم الذي فقد أباه فتربى في كنف أمه وقبل أن يشتد عوده ويقوى ، ماتت أمه.
لكن الدرس الذي علمنا إياه هذا الشعب المُعَلِّم المُلهِم – من واقع تجاربه السابقة مع الشمولية – أنه مهما عظمت قوة الطاغية وبطشه ، فإن الشعب قادر على إزاحته وإسقاطه ، فالشعب – إذا توحد – بإمكانه زلزلة الجبال وتحقيق المحال ، يقول الشاعر التونسي أبو القاسم الشابي:-

” إذا الشعب يوماً أراد الحياة فلا بد أن يستجيب القدر ، ولابد لليل أن ينجلى ولابد للقيد أن ينكسر “.
تلك هي سنة الله في الذين خلوا من قبل ، وسنة الله في هذا الشعب ، لكن هذا الدرس على بساطته فشل في إستيعابه رموز النظام البائد ، الذين تمادوا في ظلمهم وبطشهم ، ظآنين بالشعب ظن السوء ، إعتقدوا أنه خضع لهم وإستسلم لقيادهم.

” قالوا تخاذل وإندثر، ومضى وليس له أثر ، قالوا تملّكه الحذر ، ورأى السلامة في التمنّي وإستكان إلى الخدر ، قالوا سهى قالوا لهى من قالها ؟، اليوم جاءهم الخبر ، كالفجر كالبوق المدوي في ركاب المنتصر ، الشعب ليس بغافل مهما تمالك أو صبر ، الشعب إن رام المحال له مضى وبه ظفر ، الشعب يعرف كيف يملي ما يريد على القدر – الشاعر مرسي صالح سراج “.
فكان الموعد هذه المرة مع ثورة ديسمبر المجيدة ٢٠١٨م ، والتي كانت بحق وحقيقة أبهى الثورات السودانية وأجملها على الإطلاق ، شهد لها بذلك القاصي والداني ، والأعداء قبل الأصدقاء.
وحدت ثورة ديسمبر الشعب السوداني بمختلف سحناتهم وأعراقهم وأحزابهم وأديانهم وقبائلهم كما لم تفعل أي ثورة من قبل ، فلقد علمنا هذا الشعب العظيم أنه في المواعيد الكبرى والمنعطفات التاريخية يلتف الجميع حول الوطن كما يلتف السوار بالمعصم ، وتأتلف القلوب وتلتقي العقول وتتشابك الأيدي وتنصرف النوايا نحو هدف واحد ألا وهو رفعة هذا الوطن الغالي.

” لي عداه بسوي النكاية ، وإن هزمت بلملم قوايا ، غير سلامتك ما عندي غاية ، إن شاء الله تسلم وطني العزيز – الشاعر يوسف مصطفى التني “.
خاض شعبنا غمار ثورة ديسمبر المجيدة بعزيمة لا تلين وإرادة لا تنكسر ، شباب يفيض حماسة ووطنية ، ينتظر بفارق الصبر بيانات تجمع المهنيين لتلهب حماسته وتزيده قوة على قوته ، وفي تمام الواحدة ظهراً بتوقيت الثورة تجده على الموعد ، ثابتاً كالجبال ، عنيداً كما الأبطال.
حشود وجموع هادرة ، ومدن تسابق بعضها في الخروج إلى الشارع ، وما أن تُقمع مظاهرة حتى تقوم أخرى ، وما أن يرتقي شهيد ، حتى يلحقه آخر.

” الوحش يقتل ثائراً و الأرض تنبت ألف ثائر ، يا كبرياء الجرح لو متنا لحاربت المقابر – الشاعر الفلسطيني محمود درويش “.
مواكب لا تعرف الرجوع ولا الخنوع ، في ملحمة بطولية نادرة ، قدم خلالها شعبنا العظيم الغالي والنفيس ولم يبخل ، عشرات القتلى ومئات الجرحى والمصابين ، فيما إكتظت السجون بالمعتقلين ، وإحتشدت الشوارع بالآلاف من المتظاهرين ، إجتمعوا كلهم على شعار واحد: ( تسقط بس ).
السقوط ولا شئ غير السقوط ، وكان أن تحقق لهم ذلك يوم السادس من أبريل ٢٠١٩م ، عندما إقتحمت جحافل الثوار والكنداكات حرم القيادة العامة للقوات المسلحة ، ليدشنوا بعدها مرحلة الإعتصام المفتوح حتى زوال النظام.
فإنهار النظام وسقط الطاغية ، وحُقَّ له أن يسقط ، فالشعوب تبقى ، والطغاة إلى زوال ، يقول المولى عز وجل في كتابه الكريم:-
{ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً ۖ وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ }.

معاذ زكريا المحامي

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..