مقالات سياسية

إشارات وتأملات وتناقضات فى فضاء بناء الدولة

د.بخيت أوبي

الافكار تنتج ثمارا يجنيها من لا يميلون بطبائعهم الى التدبر في جوهر الاشياء وانما تمظهراتها و تجلياتها على محيطهم المحسوس والملموس، حالما يرون النتائج و الثمرات متدلية من أشجارا الافكار التي تتمدد أغصانها وتأخذ حيزا بكل حرية فى عمق المعضلات، لتحولها إلى إنجازات تقف على اعتابها من يبحثون عن فرصة ونهزة للنفاذ والهدم وبل تغيير الجلود للتماهي مع الانتقالات العميقة المفحمة. ولا يرتاب ذى لب وبصيره أن الثورات العظيمة لا تصل إلى آمال الجموع الثائرة وغير المنظمة أول الامر، أن لم يضبطها الفكر المنظم الخلاق، الذى يمكن ترجمته في صفحات كتاب الواقع، إن صارت كلمات براقة متناثرة هنا وهناك، ووعود تسكن انفاس الغاضبين والمتلهفين للتغير الجذري، ولايتأتى ذلك إلا عن طريق فكر واضح وفلسفة شاملة، وجماهير واعية بالاهداف والمرامى والتحديات والفرص الكامنة، ومنظومة من القيم الجديدة التي يمكنها أن تلامس افاق التغيير المبتغى.

وإذ يجب أن تشتمل الفلسفة اركان بناء المجتمع، ووضع لبنات الدولة وفق مفهومات ذات دلالات قوية فى تجاوز الماضى، والانطلاق من أفق جديد يوحد الوجدان ويحشد الطاقات ويعمق الإيمان بالذات، لا البكاء على التأريخ واختلاق البطولات الموهمة، وصناعة الأمجاد الزائفة، ما يعنيه الإشارة الأولى كيف يمكننا بناء الدولة باستعمال ركام الأنقاض بتشكيلها فى قالب جديد تصلح ان تكون بداية فعلية وواقعية لبناء ما يحلم به جموع الشعب، وفى هذا السياق يحب الإشارة بصدق وشفافية الى ميزان ومقياس المنظومات السياسية والنخبوية، والمناطقية، المدنية والمسلحة، كم يساوي اوزانها فى اواسط جموع الشعب ما يلى ميزان الولاء والتأييد والمساندة، يمكن حسابها باستطلاع الرأى، ولا يكون أحدا مجانبا لميزان العقل والعدل إن قال إن النتيجة ستصدمنا جميعا، وما كان سيتبدى ظاهرا يدل إلى النفاق المستحكم والمستوطن بالإرادة الحرة فى مساحات النفوس المرهقة باليأس والاستسلام وقلة الحيلة.الاشارة الثانية هل قمنا ببناء فلسفة شاملة قومية ومتماسكة يمكننا أن نستخدمها إطارات مرجعيا لكافة ما يستجد من معضلات بداءً من الأخلاق والمصالحة مع الوطن وطي صفحات الماضي المرهقة والمستنزفة للطاقات، هل بنينا فلسفة لكل شئ ام لازلنا نستعير فلسفة نظرياتنا مما تساقط من قراطيس حكماء الإغريق والرومان والشرق القديم والغرب البعيد، لازالت العشوائية والاعتباط مسيطرًا على حيواتنا دولة ومجتمع وافردا.

إذ الاستدلال لا يحتاج إلى كثير اجتهاد لإيجاد البراهين من واقع الحياة، بداءا من الخلط بين العام والخاص، بين الدولة كمنظومة محكمة بالتشريعات والقوانين واللوائح والسياسات وما بين مزاج الفرد الدولة (دولة الفرد)، إذ لا يمكن التمييز من حيث الحد الفاصل بين الفرد ومؤسسة الدولة، بحيث تصير المؤسسة جزء من لوازم الفرد، وبالتالي تندحى المؤسسة فتبعث فردا يمشى على قدمين، ولايقف الأمر على ذلك بل تنفعل المؤسسة بصورة تلقائيةواوتوماتيكية تفاعلا طرديا مع كل ما يحمله الفرد من تصورات وعادا ت مدمرة منها التعصبات القبلية والمناطقية والجهوية، والتى تدمر بلا أدنى شك تلك المؤسسةوتأصل لها سمعة سالبة تسحب ثقة المواطن قبل الأجنبي، ولا يسلم من ذلك المنظمات السياسية والاجتماعية والاقتصادية من هذه الأمراض بالضرورة، فما زالت تحوم حول شخوصها بعيداًعن المجتمعات، ليس ترفا القول بأن مؤسساتنا فاشلة مجتمعا ودولة، بداءً من مؤسسات التنشئة الإجتماعية منها المدارس والمساجد وعادات وتقاليد المجتمع على الأقل في القرن الواحد والعشرين، يتعلم النشء القرأة والكتابة ودرجات النجاح اكثر من قيمة الصدق والأمانة والوطن، وفى المساجد ممارسة الطقوس وقرأة النصوص، اكثر من تطبيقها واقعا ملموسا يغير حياة الناس، وحفظ النصوص اكثر من فهم مضامينها والعمل بمقتاضاها، ومأساة المجتمع مما طاله من تصدعات على جدران علائقة بحيث يعينه عن رؤية الحق باطلا وتزيين الباطل حقا، فليس غريباً أن يقف مع الظالم ضد المظلوم بحكم الإنتماء لا غير ،حينئذ تنمحى القيم والأخلاق والمعتقدات وتنفعل نزوات التعصب فيضحى فى حكم ذلك سواء عاقلا ام جاهلا، قارئا ام جاهلا، حافظا للقران ام غير حافظ، بروفيسوراً ام شخصا عاديًا، حاكما أم محكومًا، درس في داخل البلاد ام فى خارجها، الكل سواء فى كل الارجاء والأصقاع، إذن أنها ظاهرة شاملة ومعقدة ومتوطنة تحتاج الى فلسفة شاملة للتغيير فى درب بناء الدولة.

ما يتوارد إلى الألباب من تأملات فى الأفق المدلهم بالغيوم والعواصف ترسم صورة و لوحة غير واضحة المعالم يخيل لمن ينثال أفكارهم على هذا الأفق المتشابك والمعقد، بحيث يصعب عليهم اجمعين مرامى واتجاهات وزوايا واتجاهات الأقلام التى تبكي على الصفحات حبرا ونقط يحسبونها انتصارات، أو ما يطلقه الساسة من كلمات تترامى وتتراكم وتنفعل في النفوس محركات عقدها المتراكمة، تضحى قصورا جليا وقصرا للنظر وانكفاءا على الاوهام لا تقوى على بناء وطن ممزق تناولته ايادى الهدم من كل حدب وصوب حتى صارت أشخاصا يمشون ويتكلمون، إذ أن الأمر والثورة تحتاج إلى رؤية ثاقبة تجمع الشتات، وتحشد الطاقات، وتضيف قيما جديدة، تتجاوز بها كل التصورات والقوالب القديمة التى عجزت عن تطوير نفسها ناهيك عن المجتمع والدولة، إذ نحتاج الى فلسفة جديدة ومتجددة تطلق طاقات الشباب المعطلة أو المتعطلة، فى نهضة شاملة اجتماعية واقتصادية وفكرية وثقافية يجتمع على صياغتها العلماء من أبناء هذه البلاد من واقع المجتمعات، ونقاط ضعفها ومواضع خللها، ومن واقع المؤسسات وأوجه قصورها، ومواطن مثبتاتها، إذ أن الكثير من القيم التى نستند إليها ربما لا تتناسب مع شروط بناء دولة حديثة، يخرج كلنا من قمقمه، وبعضنا من اوهامه، وعديدنا من طقوسه الخاصة.
ربما فى خاتمة ما تم الأشارة اليه آنفا من قول غير منسدل أو مسترسل لا بدّ من الإشارة لبعض الثنائيات المتنافسة:

– دولة المؤسسات ام الفرد الدولة (دولة الفرد)؟
– القوانين والسياسات ام المزاجات والأهواء؟
– حكم القانون ام حكم العرف؟
– قانون الدولة أم قانون القبيلة؟
– رجل الدولة أم زعيم العشيرة؟
– دولة الأحزاب والطوائف ام دولة التكنوقراط؟
-حكم الأغلبية ام سطوة الاقلية؟
– التغيير الجذري ام تغيير القشور؟
– الديمقراطية المكانية ام الديمقراطية المظهرية؟
– التغيير الكلى أم التغيير الجزئي؟
– المصالحة مع الوطن ام المصالحة مع أصحاب الإمتيازات؟
– تمكين مؤسسات القطاع العام ام تمكين مؤسسات القطاع الخاص؟
– سياسة الانفتاح على العالم أم سياسة الانغلاق التام؟
– بناء الدولة أم التفكيك؟
– الاندماج الشامل ام اندحاء الأحزاب والحركات؟
– الفلسفة الشاملة ام سرقة الثورة والثورة المضادة؟
– الاستفادة من الثروات أم الإستعمار الجديد؟
– الصراع النخبوي على السلطة وانهيار الدولة أم التعاون والتكامل؟

انتصار الوطن ام انتصار الأشخاص وبيع البلاد؟
التمييز الداخلى أم الإستعمار الخارجى؟
ثنائيات يجب الإجابة عليها بصدق فى طريق تشكل معالم الدولة.

‫2 تعليقات

  1. رعاك الله دكتور بخيت !
    أنا ( بالحيل ) أنتمي لوطن عظيم !
    الحمد لله أنه ما يزال في قومي من يسْتَبصِر و يبَصِّر !
    وطن ما فتئ أولي الرَّشاد فيه ينهضون بمهمة التنوير و إرسال الفكر كرة و كرتين رغم أن الساحة تتسيدها العرجاء و النطيحة و المتردية ! ساحة ملأي بالنشيج و السلع البوار !
    سيدي دكتور بخيت :
    اضم صوتي إليّ صوتك الفخيم مناديا : ان هلموا نعود إليّ منصة التاسيس الأولي مستلهمين مبادئها ( حرية سلام عدالة ) و مستصحبين تضحيات المسيرة السابقة و مستلهمين دروسها في صياغة مشروعنا الفكري الوطني !
    سادتي : القضايا السياسية التي ننغمس في تلافيفها الان دونما فكاك هي مجرد تمظهرات لقضايا فكرية !
    ختاما :
    هذا مقال جدير بالاحتفاء و لقد أعاد لي بعض تفاؤل فقدته و كثير من الأمل .
    شكرًا دكتور بخيت .
    وودت لو انك أرفقت عنوان بريدك الإليكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..