مقالات وآراء

 إستراتيجية تعظيم إنتاج خام الذهب وهدر الموارد الإقتصادية بالقطاع الريفي (1)

إتجاه الحكومة السابقة نحو إستغلال خام الذهب في تلك المرحلة يبرره تدهور الأوعية الإيرادية الكلية لدعم الإقتصاد القومي خاصة بعد ذهاب مصدر البترول لدولة الجنوب بجانب الصرف علي الحرب و تدهور الصادرات التي من شأنها دعم خزينة المالية العامة بالعملة الحرة.
فيما يتعلق بسياسة إنتاج الذهب في تلك الحقبة واجهت الحكومة معادلات صعبة لغياب الشفافية للتعامل مع المجتمعات التي يقع بمناطقها مربعات إنتاج خام الذهب .. عدم الشفافية من قبل الحكومة آنذاك تكمن في غياب تثبيت الضمانات التي تجنب مناطق إنتاج خام الذهب أي أضرار بيئية وفقدان العائد الإقتصادي لتعميرها, خاصة أن هناك شكوك كبيرة بدأت تساور المجتمعات بأن إنتاج الذهب عن طريق البرنامج الإنتاجي الضخم الذي تقوده الشركات الخاصة، له الكثير من المضار البيئية المحتملة و ذلك نتيجة لإستخدامها مواد كيميائية كالسينايد و الزئبق و غيرها، و التي تثبته الشواهد بأن لها أضرارا بيئية مباشرة قد تؤدي إلي قتل الإنسان أو الحيوان, كمادة السينايد مثلا، بجانب هدر موارد هذه المجتمعات دون الإستفادة منها إستفادة قصوي.
الضمانات التي يجب أن تتوفر قبل البدأ في أعمال التنقيب يجب أن تكون متزامنة مع عملية الإنتاج, مثل وضع المعايير و الضوابط العلمية أو إنتهاج الطرق الخالية من أي أضرار بيئية وضمانات أخري لا تقل أهمية عن الجوانب البيئية و هي بحث كيفية تنمية هذه المناطق بصورة حقيقية. لكن للأسف حتي هذه اللحظة لم تكن هناك أي ضمانات حقيقية وضعتها الحكومة السابقة لإقناع هذه المجتمعات ..
جزء من المناطق التي تتجه إليها الحكومة في تنفيذ إستراتيجية تعظيم إنتاج الذهب تقع في حزام جغرافي عريض يتمتع بثروة غابية و زراعية كبيرة و بها أمطار بكميات غزيرة تغذي المسطحات المائية المكشوفة و المياه الجوفية بكميات كبيرة من الماء, و طالما أن عمليات تنقيب الذهب تعتمد علي المعالجات الكيميائية قريبة من هذه البيئة, نتوقع إنفلات كميات قليلة أو كبيرة من مخلفات المعالجات الكيميائية لتختلط بالتربة و مع هطول الأمطار و مع جريان المياه تنداح و تختلط جزء من هذه المخلفات مع المياه علي سطح التربة لتستقر بالمسطحات المائية المكشوفة و الجزء الآخر يغوص في أعماق الأرض ليستقر أيضا في الأحواض المائية الجوفية, و البعض الآخر من مخلفات التعدين تختلط بالتربة، فضلا عن تصاعد الغازات السامة إلي السماء من عملية تنقية خام الذهب من الزئبق العالق بتعرضه علي الحرارة ..
إذن بإكتمال دورة التتابع البيئي تكون هناك تداعيات واسعة تطرأ علي الحياة فيتأثر الحيوان سواء كان من شربه للمياه السطحية أو الجوفية من الدوانكي أو أكله للعشب, و ما ينطبق علي الحيوان ينطبق علي الإنسان فهو أيضا يتأثر بهذه الدورة البيئية التتابعية فالتأثيرات قد تشمل حتي الإنتاج الزراعي، فإنه حتما لا يسلم من الآثار البيئية السالبة, فلا نستبعد أن يكون في المدي البعيد أن تخرج كثير من المنتجات الزراعية لهذه المناطق الممطرة من المواصفات الجيدة أو قد توصف بالتلوث الكيميائي ..
علي كل دعنا أن نضع في الحسبان ما أشرنا إليه هو نوع من الآراء النظرية, فهل متخذي القرار لإعمال إستراتيجية تعظيم الذهب أعطوا نفسهم مساحة لتحليل المضار و المآلات البيئية المتوقعة؟ و هل نحن مستعدون للتضحية بتعريض مساحات زراعية واسعة تحت دائرة التلوث البيئي المحتمل؟ ..
نضع مثل هذه التساؤلات لأننا نشعر بأن هناك تسارع دون إمعان النظر حول هذه المآلات سواء كان خيالية أو واقعية أو ربما محاذير, و لنا تجربة إنتاج البترول في غرب كردفان حيث كانت هناك إهتمامات بما ينتج من خام البترول و تمويل خزينة الدولة و إهمال مواقع الإنتاج الأصلية, لا توجد أي حوافز حقيقية موازية لتجنب المجتمعات المحلية أي مضار بيئية جراء إستخراج البترول أو حتي شكل التعويضات التي قامت بها شركات البترول لم تبن علي منهج علمي إستراتيجي مدروس حيث بنيت علي الإستقطابات العشائرية الجزئية فكانت النتيجة عشوائية في التعامل مع إستخدام الأرض لإنتاج البترول دون مراعات للتوازن البيئي الذي يضع في الحسبان و جود الإنسان و ما يتطلبه من العيش الكريم ..
مؤكد هناك آثار بيئية سالبة وقعت بغرب كردفان مسكوت عنها لم تحلل علميا حتي تتضح الرؤية ..
عليه حتي لا نهدر إستراتيجيا مواردنا التي تمثل المستقبل الحقيقي لشعوبنا الريفية علينا أن نأسس إستراتيجياتنا علي هدي من العلمية و الموضوعية و التريث !! ..
نواصل. (2)
بإشارتنا لتجربة إنتاج البترول و إلي أي مدي كان الإهتمام بمد خزينة الدولة بالعملة الحرة حيث قفزت إيرادات البترول لتصل 50% تقريبا و لم ينشأ مشروعا واحدا إستراتيجيا لإمتصاص الآثار البيئية السالبة لإنتاج البترول في تلك الرقعة الجغرافية في المقابل إتجهت الحكومة السابقة لإنتاج خام الذهب و فيه الكثير من الإحتمالات البيئية السالبة و التي تحتاج إلي تحليل و هي مسئولية الجهات القائمة علي المهمة علي رأسها وزارة المعادن ..
وزارة المعادن بعيدة تماما عن دراسة الواقع البيئي الذي تمارس فيه عملية التنقيب عن الذهب و كيفية تعامل الإنسان مع هذه الظاهرة عشوائيا من أجل الخروج من دائرة الفقر. من ناحية موضوعية دراسة الواقع البيئي يجب أن تكون قبل أن تبني أي إستراتيجية تتعلق بإنتاج الذهب لتلازم ذلك مع خطورة سلامة البيئة.
وزارة المعادن مع هيئة البيئة القومية يجب أن يكونان أكثر حرصا علي الحفاظ علي البيئة حتي و لو إنتهج المجتمع هذا النهج العشوائي في البحث عن الذهب (المثل يقول: الأعمي في مسئولية المفتح ..
أو الجاهل في ذمة العالم) .. أيهما أفضل للإنسان أن يموت فقيرا و لكنه معافي في بدنه ومعافي في عقله و بيئته مصانة بعيدة من التلوث, أو يموت و هو يئن من الأمراض الخبيثة أو ربما صرف ما حصده من الذهب في علاج نفسه و أفراد أسرته و قد دمرت البيئته التي تعتبر مخزون للعيش لصالح الأجيال القادمة ..
قديما قالوا الصحة تاج في رؤوس الأصحاء .. و لكن الفقر قد يعمي الإنسان من هذه الحقائق يفضل أن ينتهج أي نهج يوصله للغني بغض النظر عن النتائج . هذا بالضبط ما نشاهده اليوم في مواقع الذهب المختلفة بالسودان بدأ الإنسان بتدمير البيئة بحثا عن الذهب, فنجد عشرات الكيلومترات تم حفرها و آلاف الأشجار المعمرة قطعت و لم تكن هناك أي معالجة لإعادة ما تم تدميره بل المسألة في تنامي مستمر (فالبحث عن الذهب أذهب عقل المجتمع و صار يدمر بيئته التي عاشت عليها الأجيال السابقة آلاف السنين فقط للخروج من دائرة الفقر) ..
أليس من حقنا أن نفكر جيدا في هذا الأمر ؟ هذا سؤال نوجهه لوزارة المعادن .. كثير من الدول في هذا العصر إقتصادها يقوم علي موارد متعددة و هي في تصاعد لتحقيق معدلات نمو إقتصادي معتبرة تنعكس إيجابا علي رفاهية المجتمع دون أن يكون الذهب هو المورد الأساسي .. و حتي الدول التي إنتهجت مهنة التنقيب عن الذهب ليكون مصدر من مصادر دخلها القومي كانت حريصة علي وضع إجراءات السلامة البيئية و بل الآن هناك دول قطعت شوطا في إستخدام طرق مأمونة لإستخلاص الذهب دون إحداث أضرار بيئية لكل مكونات البيئة ..
هل وزارة المعادن بحثت و إجتهدت للوصول لهذه الطرق المأمونة أو وضعت إجراءات سلامة مقنعة للدخول في إنتاج خام الذهب؟. نعتقد أن هناك عدم و ضوح لسياسة الوزارة في هذا الجانب و بل هناك غموض و عدم شفافية في تثبيت الضمانات الشاملة للمضي قدما في إنتاج خام الذهب, بدءا بضمانات السلامة البيئية و إنتهاءا بشكل التعويضات المجتمعية الإستراتيجية التي تحقق المكاسب للمجتمع ككل و ليس المكاسب العشائرية أو الفردية كما تم في مواقع البترول في غرب كردفان الذي أشرنا إليها سابقا. المواقع المستهدفة بالتوسع في إنتاج خام الذهب هي من أكثر المناطق فقرا و تخلفا في البنيات التنموية سواء في الطرق أو الخدمات التنموية الأخري من صحة و تعليم و خدمات الكهرباء و المياه النقية.
ما ذا فعلت وزارة المعادن تجاه هذه القضايا, هل لديها خطة معلومة لتنمية هذه المناطق كمبدأ خذ و هات كما يقولون. و حتي لا تكون القضية ميتة و خراب ديار لا بد أن تفكر الوزارة جيدا في الأمر. نقول هذا لأن كثير من المجتمعات المستهدفة بالبرنامج أنها قطعت العزم بأنها لا تتعامل مع هذه الشركات و بالتالي نتوقع أن يكون الأمن المجتمعي بعيد المنال لهذه الشركات و حتي لو تدخلت الحكومة سيكون الأمر أكثر تعقيدا.
ما نشاهده الآن في تالودي و الليري و كالوقي، مجتمعات هذه المناطق وقفت معارضة بشدة للشركات المتواجدة بهذه المواقع، و ليس غريبا في الأمر فإن ما تم سحبة من خام الذهب في هذه المناطق خلال الفترة من 2009م و حتي 2019م يقارب المائة طن من الذهب و في المقابل تنعدم التنمية تماما في هذه المناطق. من المسئول هل الشركات أو الحكومة؟ و ما تقوم به المجتمعات بهذه المناطق من وقوف في وجه هذه الشركات هل يسنده المنطق؟ ..
عليه نأمل أن يعاد النظر في صياغة إستراتيجية إنتاج الذهب و بل كل المعادن بحيث يكون تنفيذها في صالح المجتمعات التحتية كأولوية ثم تحقيق مكاسب الإقتصاد القومي كأولوية ثانية.
آدم جاروط خميس
محاضر و محلل إستراتيجي

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..