ماذا بين الاطباء والقوات النظامية؟

بسم الله الرحمن الرحيم
من ضمن ما ابتلينا به في وطن الابتلاءات، فساد عقيدة القوات النظامية.
وهو ما اباح لها مصادرة مصير الوطن، ورهن مقدراته لمحض حقل تجارب خائبة، لم يجنِ منها الوطن سواء قبض الرياح. والحال انه بسبب هذه المصادرة تم توطين مركب الاستبداد/الفساد، الذي ادخلنا بدوره نفق الدورة (الدولة) المظلمة، من مصادرة تقود لفساد، وفساد يمهد لمصادرة.
ولم تستطع الثورات رغم اكلافها الباهظة، كسر هذه الدورة الشريرة، لانها تصطدم عند كل محاولة انفلات من قبضتها، بقمع تلك القوات النظامية التي تتهدد مصالحها الخاصة، الكامنة كما سلف في صلب عقيدتها الفاسدة، وهي الوصاية علي الوطن، وتاليا الاستفراد بتحديد خياراته، ولكن للاسف من دون مؤهلات، او حتي وعي بمتطلبات التاسيس لدولة عصرية.
اي هنالك خلل متوراث يطال وعي العسكر وهو الخلط بين مسؤولية الحماية والسيطرة! والحال ان هذا الخلط حول المؤسسة العسكرية الي مشروع انقلاب مفتوح علي الحياة السياسية، التي لا تمثل في وعي العسكر اكثر من حالة تشويش افندية، لا تضبط موجتها الا هندسة الحسم العسكرية. واسوأ ما في هذا الوعي الفاسد، انه استمرأ اعادة انتاج اخطاءه بالكربون، ولكن في كل مرة بصورة اكثر كارثية. وهو ما يبرر القول بكل صراحة، ان هذه المؤسسة بذاك الوعي وتلك المسيرة التاريخية، تشكل عبء علي الوطن وسوط عذاب علي مواطنيه.
ومع اندلاع ثورة الشباب تكشف كم الاهتراء المتغلغل داخل هذه القوات النظامية بمختلف تشكيلاتها ومسمياتها. واذا كانت الاجهزة الامنية، بسبب قلة حياءها وعهرها، اسفرت كعادتها عن وجهها الكالح منذ البداية، فهذا ما سهل التعاطي معها كعدو صريح. ولكن بقية المكونات العسكرية تسترت خلف قناع الحيادية والمهنية، انتظارا للحظة المناسبة، التي تمكنها من الحصول علي اكبر مكاسب، بعد انجلاء غبار الصراع الوجودي، بين الثوار وجهاز امن النظام الخاص.
والوقوف موقف المتفرج هذا، في ظروف انعدام فرص التكافؤ، بين قوي سلمية عزلاء، وقوي امنية مدججة ليس بالسلاح فقط ،ولكن قبل ذلك موقف عدائي يبيح لها استباحة كرامة الثوار ودمهم! هو عمليا تواطؤ ضد الثوار، سمح لقوي الامن الاستفراد بالثوار، ومن ثمَّ التمادي في اهدار حياتهم دون اكتراث او خوف. والحال كذلك، من يصدق ان تعذيب القرون الوسطي كان يتم داخل اوكار جهاز الامن، وان هذا الجهاز القمئ له قوي مدربة لاصطياد الثوار كالعصافير (بالمناسبة لماذا لا يفتح المحامون الديمقراطيون هذا الملف لمحاسة هؤلاء المجرمين؟ وإلا كيف نمنع حدوث هذه الفظائع مرة اخري؟).
المهم، وبما ان نظام الانقاذ في واحدة من اوجهه، هو نظام فرز بامتياز، فتاليا تشكل التراتبية التنظيمية واحدة من مقومات وجوده! لذلك اصبحت علاقات الولاء الشخصي، عوضا عن المؤسسية المزعومة، هي وسيلة الترقي ليس في التنظيم وحده، ولكن في مؤسسات واجهزة وهيئات الدولة ايضا.
وهذا الوضع افرز علاقات طبقية وامتيازات خاصة، داخل كل المؤسسات بما فيها مؤسسات القوات النظامية نفسها! وهذا ما انعكس بدوره علي المزايدة من جانب اصحاب المراكز القيادية لارضاء قادة النظام بكافة السبل. وليس مصادفة والحال هذه، ان يدفع المواطن العادي والمعارضة بصفة خاصة، الثمن الغالي كوسيلة لاثبات ذاك الولاء.
والنظام بدوره (الدائرة الضيقة المتحكمة التي آلت في النهاية لسلطة الفرد) لم يألوا جهدا في بذل الامتيازات المجانية، كمنح الرتب بطريقة فوضوية للموالين! وكان من نتائج ذلك ان تم ابتذال الولاء بطريقة فاضحة، واصبحنا نشاهد الدقون وزبيبة الصلاة والسبح والجلالات الدينية وغيرها من رموز ومظاهر التدين الشكلي تغزو المؤسسات النظامية دون حياء.
وعموما هذه التراتبية/الطبقية نفسها انسحبت علي العلاقة بين المكونات النظامية، وفيها احتل جهاز الامن مركز الصدارة (الابن المدلل) لدرجة اصبح فيها دولة داخل الدولة، وهو ما دفع دكتور حيدر ابراهيم لصك مصطلح الامنوقراطية، كدلالة علي طبيعة السلطة الحاكمة، او الجهة المتحكمة في توجه الدولة. ومؤكد ان التكريس لهكذا نموذج حكم، يعكس شيئا واحدا، ان الخوف هو القوة الفعلية الحاكمة للدولة، قبل ان يتنزل في شكل قمع وارهاب علي المحكومبن.
وعليه يمكن اجراء تعديل علي التعريف الي الخوفوقراطية، وهو ما يتمظهر في الاعلان عن قوة الدولة وهيبتها بمنسابة ومن دونها. وهو عين ما نشاهده في الاسراف في اظهار المظاهر العسكرية في كل فضاء الدولة.
ابتداء من شارع الحي وانتهاء بالقصر الجمهوري، ومن لغة التخاطب اليومي وصولا للغة الخطاب الرسمي. والخلاصة، هذا الطوفان العسكري شكل ثقافة استعلاء واستحواز شاملة، ما زالت تعشش في اذهان العسكر. وكما هو معلوم او كلازمة لكل فعل تمكين (عطاء من لا يملك لمن لا يستحق) فهو يفرض سلوك، يقوم علي المزايدة والمداهنة امام الاقوياء، والافراط في الظلم والتعدي علي الضعفاء ونهب الموارد العامة.
اي هي علاقة محكومة بالخوف والشره من ناحية، ومن ناحية اخري رهينة الحقد علي اصحاب الحقوق من الموهبين والاكفاء الذين يقدمون خدمات جليلة للمجتمع، والذين يُذَّكِرونهم بحقيقة سطوتهم علي املاك غيرهم! وعلي راس هؤلاء يبرز الاطباء، خاصة وان مهنة الطب تتطلب التميُّز الاكاديمي وتستدعي التواصل الانساني، وهي ذات الاشياء التي يفتقدها معظم من يلتحق بالقوات النظامية، سواء علي مستوي تواضعهم الاكاديمي او عُقدهم تجاه المجتمع المدني.
اي كأن الاطباء هم المعادل الموضوعي لاحساس الخيبة الذي يلف العسكر ومن لف لفهم من عاطلي المواهب والقدرات! وبصورة اوضح هم يصادرون الامتيازات والمكانة المستحقة للاطباء بصفة خاصة، وغيرهم من اصحاب المهن المدنية بصفة عامة. واحتمال هنا تحديدا، تكمن حالة التطرف في العداء والاستفزاز، لهذا القطاع من قبل افراد القوات النظامية، ومن خلفهم من يمنحونهم الحصانة والحماية علي هذه التجاوزات.
وما زاد الطين بلة هو الموقف المشرف لصغار الاطباء بصفة خاصة ايام الثورة، لدرجة اعتبارهم راس الحربة بل وخط الدفاع الاول في نجاح الثورة، وكيف ننسي وقفاتهم واضراباتهم وتقدمهم الصفوف، والحضور في ساحة الاعتصام ليس كثوار فقط، ولكن ايضا كرسل عناية طبية، رغم ما واجهوه من غدر الانذال الامنجية وقوانين طوارئ البشير الارهابية ومهازل قضاته الجبناء. لدرجة يمكن القول معها ان موقف الاطباء الثوار ومن خلفهم لجنة الاطباء المركزية، رد الثقة لمهنة الطب التي طالها التشويه كغيرها من المهن، خصوصا بعد ان انحرفت علي يد كثير من الاطباء الجشعين، نحو التراكم الراسمالي، علي حساب فقراء المجتمع! كاستجابة بئيسة لسياسة الفوضي المسمي سياسة تحرير اقتصادية، التي ابتدعها الكيزان لاحتكار الثروة لصالح اقلية الاسلامويين و الانتهازيين المتواطئين معهم. المهم، كل ما سلف قد لا يثير الدهشة، ولكن ان تستمر ذات النفسيات المريضة للقوات النظامية وعقدها المتأصلة، بالتعبير عن نفسها جهارا نهارا، بعد الثورة وبوتيرة اعلي، ودون خشية من عقاب او احساس بادني درجات الخجل! بل وفي ظروف كل العالم يعتبر الاطباء والعاملين في الوسط الصحي، خط الدفاع الاول، بل الحاكم الفعلي الذي يضع الخطط ويوجه الدولة زمن الاوبئة (حرب العلم والعلماء وليس الاسلحة والجنرالات). فهذا ما يجب الا يسمح له ان يمر مرور الكرام. ليس من قبل الاطباء وحدهم ولكن من كافة اطياف المهن المدنية. فانجاز مثل هكذا تضامن يشكل اول مدماك في بناء الدولة المدنية، وهدم الدولة العسكرية.
ومن غير ذلك، ما معني الدولة المدنية التي نبحث عنها، بل وشقت حلق الثوار بمطلبها العادل؟! وصحيح ان الثورة فعل تصحيح ووضع للامور في نصابها، وتاليا تضع حد لتغول القوات النظامية علي مجالات وموارد ليس في وارد اختصاصاتها، وكذلك حد للحصانات المجانية والتمرغ في امتيازات الدولة دون وجه حق. ولهذه الاسباب تَكِنْ القوات النظامية عداء للثورة وتتربص بها الدوائر، غض النظر عن الوعود المجانية بالوقوف مع الثورة.
ولكن ما تجهله القوات النظامية، ان الثورة ليست فعل تحرر للمدنيين فقط، ولكنها ايضا فعل تطهير للمخطئين والظالمين من القوات النظامية، بعد دفع استحقاق التطهر، لمن يريد ان يلتزم جادة الطريق، ويصحح علاقته بالوطن وكافة المواطنين. ومؤكد ان هنالك اقلية داخل القوات النظامية (اغلبها من صغار الضباط)، ترفض تغول قواتها علي كافة الانشطة في البلاد، لما يسببه ذلك من اساءة لدورها وتعطيل لمهام غيرها، وتاليا ترغب في تحجيم هذا الدور عند الحد الطبيعي المعلوم في الدول الحديثة. ولكن للاسف يبدو ان هؤلاء غير انهم اقلية، إلا انهم كذلك مستهدفون بالفصل والابعاد من الخدمة.
وعموما، تصحيح تجاوزات القوات النظامية، لن يتم بالطبطبة والوعود المعسولة للاطباء او الثوار، ولا كذلك بتغليظ العقوبات (الوهمية) التي تفرض علي المخطئين من افراد القوات النظامية.
ولكن السبيل الوحيد لمعالجة هذه الازمة المزمنة بصورة جذرية، هو تغيير العقيدة الفاسدة التي تشوه وعي القوات النظامية، كوصية علي البلاد، والانفتاح علي ثقافة مغايرة تضعها عند حجمها، كشريك ضمن شركاء البلاد المختلفين، لكل دوره وحقوقه، في دولة المواطنة الديمقراطية، التي تعوض تضحيات الثوار، وتضع حد للابتلاءات. لكل ذلك اعزاءنا في القوات النظامية (مترامية الاطراف). ما تحسونه من كره واحتقار من قبل المواطنين، هو نتيجة حتمية لطريقة تعاملكم الاستعلائية الاستغلالية الفظة. وعندما يتغير ذلك، مؤكد ستتغير تلك النظرة.
ودونكم موقف صغار الضباط ايام الاعتصام، الم يتوجوا ابطالا في تاريخ الوطن الحديث؟ وعلي ذلك قس. مدخل للخروج طلب خاص الي حكومة حمدوك واعضاء لجنة ازالة التمكين طالما هنالك فرص تعيين تتاح عقب ازالة التمكين، لماذا لا يكون هنالك تمييز ايجابي واولوية لتعيين الضباط الصغار المفصولين من الخدمة العسكرية وكذلك اخوان الشهداء واقرباءهم، كل حسب مؤهلاته وطبيعة المهنة وحاجة المؤسسة؟ وبعد ذلك تنطبق عليهم كل شروط الخدمة العامة من غير تمييز لهم او لغيرهم. وهذا بالطبع ليس تعويضا لهم، لان ما قدموه ليس هنالك ما يعادله ليعوضه، ولكن رد الجميل لاناس نبلاء، وذلك اضعف الايمان.
وكل رمضان والجميع بخير
عبدالله مكاوي
[email protected]