
بسم الله الرحمن الرحيم
خطأً كنا نمني أنفسنا بعدم تفشي الجائحة .وأشفق كثيراً اليوم على كل من يكرر طلبات الالتزام بتوجيهات وزارة الصحة كلما انتقلنا إلى مرحلة أخرى من تطور المرض.لأنه يستند على ظن خاطئ بأن الوعي بالجائحة ضعيف. لكن أجزم أن الوعي بالجائحة كامل لكل المجتمع وبما ينبغي اتباعه. وأدلل على ذلك بحادثة بسيطة. ففي سوق نيالا ،سقط (شخص غريب ) ميتاً .فنفر منه الكل. وانتظرت الجثة معزولة لساعات وتوقف السوق حتى أخذت بالإسعاف .وساعات أخرى حتى دفنت. فهل هذا سلوك جاهلين بالمرض؟
ولك أن تقارن هذا بواقعة حدثت بالخرطوم. حيث تجمع اهل الحي عند مجيئ الإسعاف لأخذ مريض بالكرونا ، بلا أي تحوطات .وكان كما التشييع !!فهل هؤلاء جهلة أم في الأمر شئ آخر ؟ بالقطع ليسوا بجهلة. وستدرك السبب في اختلاف التعامل مع الحالتين. فذلك (غريب) والآخر (جار).وفي واقعة أخرى نشرت في مواقع التواصل الاجتماعي صورة لنسوة يجلسن على الأرض في مركز العزل ، لزيارة (جار) لهم مريض !!؟ عفواً ، لا تظن أن في الأمر خبل .فكما أسلفت ، فالكل مدرك. فعند التزامي بلبس الكمامة كقليلين غيري تحوطاً في مدينتنا. ،يصيح حتى شفع الورنيش وغاسلي العربات عند مروري( كرونا كبوووس) !!!.
والسؤال : إذن ما الذي في الأمر حتى وصلنا إلى هذه المرحلة ؟ سنحتاج إلى المرور على مفاهيم علمية. كدت أن أسمي الأمر ب(رهاب التغيُر) لكن دعونا ندلف إلى مفهوم شائع في الفيزياء يسمى ( القصور الذاتي) . ويعني مقاومة جسم ما للتغير نتيجة قوة عوامل ثباته.انتقل هذا المفهوم للعلوم الاجتماعية. فأصبح يعني مقاومة مجتمع ما للتغير.
وهي محمودة في المجتمعات المتطورة والمرفهة كما في الدول الاسكندنافية ، وسالبة ومهلكة كما في وضعنا الراهن.وهذا ما نعاني منه ببساطة وبكل أسف.وراجع معي عزيزي القارئ كل سيناريوهات مقاومتنا. من عدم تقبلنا لأي رؤية مختلفة ابتداءاً من قضية العالقين، ووضعنا مطالب مثالية أمام حكومة بلا إمكانات بعد دخولهم تحت الضغط المجتمعي والإعلامي .وتبريرنا لهروبهم من مراكز العزل وعدم عزلهم لأنفسهم وإعطاء أرقام هاتف مضللة، ورفضنا بعد دخول المرض بواسطتهم لفكرة حظر التجوال ، ولجوئنا إلى مبرر الأزمات المختلفة لتصوير استحالته. وتهريب البشر واستغلالهم برفع الأسعار ،واستغلال الأمر سياسياً ضد بعضنا البعض . كل ذلك وغيره ونحن كمن يربع يديه ويطلب من جهة أخرى التصرف بالنيابة عنا!!وغير ذلك مما كان يدمي قلوب النشطاء والواعين من السلوك.كل ذلك في تقديري وفقاً لهذه الرؤية ، كان مقاومة لتغيير ما بأنفسنا .وصدق جل من قائل ( إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم). وهذا وضع لا أبالك كارثي. فهل نسكت عليه ونستسلم ؟ بالقطع لا.لكن علينا أن ندرك في البداية ، أن مثل هذه المجتمعات ، لا تتغير إلا بوجود مؤثر خارجي.وقد مررنا بتجربة مماثلة مع الأسف. فدولتنا الحديثة ، ما تكونت إلا بدخول الاستعمار للأسف. فهل نتمنى لو أن القوات الأممية قد ساعدتنا على ذلك ؟ لا بكل تأكيد. ولكن ليكون الحل منا وبأيدينا. يجب أن نحلل عوامل مقاومتنا لنفكفكها.واعذروني على الإطالة لأن الأمر يتطلب ذلك.فما هي هذه العوامل ؟ الإجابة على ذلك في غاية الصعوبة لتداخلها وتعددها وإسنادها لبعضها البعض. ولكن لا مناص .دعونا نحاول تصنيفها وهي:
1/ عوامل دينية:
يتضح ذلك من المثال الذي سقناه عن سلوك الناس عند إصابة الجار. فنحن نبالغ حد الهلاك للأسف ، وبدون مراعاة لأي ظروف . في التمسك بقيم دينية حثتنا بالحديث النبوي مثلاً بالتوصية بالجار وحق المسلم على المسلم حتى ولو أدى إلى الإضرار بالمجتمع وتغيرت الأولويات. ونستسلم في انتظار الفتوى!!.وأصبحت القيم مجرد عادات نحرص عليها. ونفاق بغيض. فقارن معي استجابة السعوديين لإيقاف الصلوات في الحرمين ،برفضنا ترك صلاة التراويح التي يفضل أداؤها في البيت . فهل كفر أهل الحرمين وتمسكنا بديننا !!؟ هذا يقودنا إلى مقاربة أخرى في العلاقة بين الديني والسلطوي عندما نعرضه منفصلاً .فنحن لسنا متدينون عن غيرنا لكن مجتمعنا مصاب بالقصور الذاتي ونقاوم التغيير بكل ما أوتينا من قوة.
2/عوامل سياسية:
لا أعني استغلال القصور سياسياً بين الفرقاء كما نلاحظ الآن.ولكن تبيان كيف اختلط السياسي مع الاجتماعي بالديني لدى ساستنا وأثر ذلك في قصورنا الذاتي. فقد عرف عن الزعم الراحل الأزهري ، أنه كان يشارك في كل الاجتماعيات ، وروج لذلك استحساناً. وعزى الراحل عمر نور الدائم بطائرة الإغاثة في زعيم قبلي بعد الانتفاضة .هذا ما قاد لدى الإنقاذ. إلى التمسك بذلك والتشديد عليه للمسئولين السياسيين عند تعيينهم. كنوع من التغلغل في المجتمع .وهكذا ،فلئن كان نشاط الأزهري كزعيم ينحصر في العاصمة. فقد صار ذلك سلوكاً يشمل رئيس الجمهورية والولاة والوزراء المركزيين والولائيين والمعتمدين فبالغوا حتى قال صديق لنا لمعتمد قابلة في (دافنتين) أمعتمد أنت أم حانوتي !!؟
وهل سيتوقف الإداريون دون أن يكونوا على دين ملوكهم. فالوقود وقود الحكومة . وألقوا بالعبء على الآخرين. وأصبح ذلك دليلاً على الأهمية الاجتماعية. فالكل يذكر عند وفاة سياسي في الجزيرة محسوب على النظام . كيف حمل أهل المتوفى على رئيس الجمهورية بمرارة في عدم حضوره لتقديم واجب العزاء رغم حضور نائبه الأول فيما أذكر !!وهكذا رسخت صورة المشاركة في الاجتماعيات كضرورة لا يمكن تغييرها. وحسبك صور تجمع الناس فيها وعدم تقبل تركها رغم الجائحة. يحدث ذلك في الأفراح والأتراح.ويجدر بنا التطرق إلى المقارنة بيننا والسعودية وأثر السياسة في ذلك. فطاعة السعوديين مرتبطة بتبعية ما هو ديني إلى ما هو سلطوي. أما واقعنا فمتذبذب التبعية فالسياسي بعد الاستقلال كان تابعاً للديني الطائفي. وعند الشموليات يصبح الديني منقاداً للسياسي. ولقد توهمنا تداخل العاملين لدى الإنقاذ .0 فالفقهاء ساسة. لكن ثبت عدم تغير المعادلة . فتبعت الحركة الدينية الدكتاتور حيث يمم. وقد أنهت الثورة هذه المعادلة بالعودة إلى تململات الحداثيين من سطوة الديني من لدن الأزهري والصادق المهدي(وقتها).وكل تفاصيل الصراع بعد الثورة . محصورة هنا. كسجال القراي مع غيره.ومظاهرات أنصار النظام السابق.
3 عوامل إجتماعية:
كما أسلفنا ، فمن الصعب فصل كل العوامل عن بعضها. وهكذا صار كل ما سبق ، مدعاة لسيطرة البعض على المجتمعات الصغيرة بالتمسك والنشاط بها. وسوف تجد حراس ذلك في أنصاف المتعلمين يزجرون به كل الرموز الأخرى.ويعلون من شأن أنفسهم بالحفاظ علي ذلك. وقد أدى هذا التداخل إلى أوضاع غريبة ،فجنازة رمز عادي ، ستكون أكبر من جنازة السلطان قابوس مثلاً !!؟ فكيف لنا تصور تنازل مجتمع ببساطة عما يراه حيوياً إلى هذا الحد ؟ وهل أدركتم سادتي حجم القصور الذاتي لمجتمعنا ؟
بعد هذا التناول الطويل يبقى السؤال ؟ وما الفكاك ؟ سنوجز لأنه ممكن ومتاح وخطواته.
1/ عوامل تتعلق بالأفراد . فموت احدهم في الحي وعدم دفنه بمشاركة واسعة ، لا شك يغير من التفاعل ولكنه بطئ. ونرجو أن يظل كذلك لأن زيادة سرعته تعني زيادة الوفيات.
2/ دور منظمات المجتمع المدني ولجان المقاومة والتغيير . ونلفت إلى سكوت الناس بعد نشاطهم الذي سحب حجج الأزمات. لكن المثال الأنصع طراً. هو التزام مربعات الجير في التباعد عند برنامج من المنتج إلى المستهلك. ما يعني اتيان كل النشطاء بلا استثناء بمبادرات في هذا الصدد. وهي مسئولية دينية وأخلاقية تقع على الجميع.
3/الدور الحكومي . وهنا مربط الفرس. ويبدأ بصرف من لا يخشى الفاقة على الكادر الصحي بمجمله والمرافق لإبعادها عن الحاجة لشباك تذاكر الزائرين!! عندها تستطيع الكوادر الصحية ، التدخل بإجراءات حاسمة لمنع الزيارات إلا لأقرباء الدرجة الأولى.وهم قادرون على ذلك.ليس الآن فقط ولكن حتى في الظروف العادية . فعالم ما بعد الجائحة ، يختلف عما قبله. إضافة على عدم وجود جنازات لدفن الموتى.
وهذا قليل مما قد يقترحه آخرون لمقاومة رهاب التغير وقصورنا الذاتي.
معمر حسن محمد نور
[email protected]