الثورة السودانية على مفترق طرق
جلبير الأشقر
ترجمة: د. الشفيع خضر
مرّت سنة على سقوط عمر البشير.في ٦ أبريل من العام الماضي، تجمّعت حشود ضخمة أمام مقرّ القيادة العامة للقوات المسلحة السودانية،في يوم ذكرىالإطاحةسنة ١٩٨٥ بدكتاتور عسكري آخر،هو جعفر النميري،بعدحكم دامخمسة عشر عاماً. في اليوم التالي، شلّالسودان إضرابٌ عام، وفي ١١ أبريل، جرى عزل البشير بعد ٣٠ سنة من رئاسة كارثية.
بدأت الانتفاضة الشعبية السودانية يوم١٩ ديسمبر ٢٠١٨، احتجاجاً على رفع سعر الخبز بقرار من حكومة عازمة على تطبيقالإرشادات النيوليبرالية القاضية بتعويم خزينة الدولة على حسابالفقراء. ولم تنفكّالاحتجاجات تتصاعد من حيث الحجم والجذريةوصولاً إلى الاعتصام أمام مقرّ القيادة العامة في ٦ أبريل. وقد كان الهدف الصريح من الاعتصامدفع القوات المسلحة إلى الإطاحة بقائدها الأعلى. فقد تذكّر الأكبر سناً أو الأكثر تعليماً بين السودانيين أن الضباط الذين أطاحوا بالنميري في عام ١٩٨٥لميحتفظوا بالسلطة سوى عام واحد قبل تسليمها إلى حكومة مدنية منتخبة. لكنّ جميع السودانيين تقريباً تذكّروا المشاهد المثيرة لاعتصامسنة ٢٠١١في ميدان التحرير في القاهرة، في قلبالانتفاضة الشعبية التي دفعت الضباط المصريين إلى الإطاحة بزميلهم، الرئيس حسني مبارك، بعد أن بقي هو أيضاً٣٠ عاماً في منصبه.
والحال أن المتظاهرين في الخرطوم وسائر مدن وأنحاء السودان كانوا قد استوعبوادروس التجربة المصرية، مثلما استوعبها المتظاهرون في الجزائر الذين حذوا حذوهم في فبراير ٢٠١٩،ثم أفلحوا قبلهم في دفعالقوات المسلحةإلى إقالةالرئيس في ٢ أبريل.وقد شجّع نجاحهم الانتفاضة السودانية على مطالبة العسكر بأن يستوحوا من نظرائهم الجزائريين، بالرغم من أناضطهادالعسكر للسكانكان على درجة أعلى بكثير في السودان. بيدأن الجزائريين والسودانيين سواءًأدركواتماماً أن الوصاية العسكرية على السلطة السياسية هيحجر الزاوية في ذلك “النظام” الذي “يريد الشعب إسقاطه” وفق أشهر هتافات الانتفاضات الإقليمية.
ذلك أن الجميع رأى أن التغييرات التي جرت في قمّة الدولة المصرية بدون أن تمسّ أساس النظام – وهو أساس تشترك فيهمصر مع السودان والجزائر بوصفها دول المنطقة الثلاث التي يشكّل فيها الجيش المؤسسة السياسية الأساسية –تلك التغييرات أفضت بعد ثلاث سنوات إلى عودة الدكتاتورية بصورة أشرس. فلم ينخدع الحراك الشعبي هذه المرّة، لا في الجزائر ولا في السودان، بل استمرّ في التصاعد بعد الإطاحة بالرئيس مطالباً بحكومة مدنية كاملة الصلاحيات. وهذا ما يفسّر الفرق الكبير بين ردود الفعل المهلّلة بالعسكر إثرإقالتهم لمبارك في مصر في عام ٢٠١١، عندما كانت جماعة الإخوان المسلمين هي القوة المنظَّمة الرئيسية داخل الحراك الشعبي، وبينانعدام الثقة والتمرّد اللذين أبدتهماالحركة الشعبية في السودان،وقد كان لها من ينطق باسمهاخلافاً لحالة الجزائر. فقد بدأ البيان الذي صدر عن “قوات إعلان الحرية والتغيير”يوم ١١ أبريل ٢٠١٩، إثر الإطاحة بالبشير، على النحوالتالي: “نفّذت سلطات النظام انقلاباً عسكرياً تعيد به انتاج ذات الوجوه والمؤسسات التي ثار شعبنا العظيم عليها”.
فعدا الدروس المستفادة من مصر، لعبت أشكال التنظيم دوراً حاسماً في الحفاظ على جذريةالحراك السوداني. والكل يعلم الدور الذي قام به”تجمّع المهنيين السودانيين” و”قوى إعلان الحرية والتغيير”. نشأالتجمّع على مراحل خلال العقد الأول من هذا القرنعن نضالات متتالية خاضتها فئات مهنية شتّى:أطباء، صحفيون، محامون، بيطريون، مهندسون،معلمون وأساتذة جامعيون.وقد تأسس رسمياً في أكتوبر ٢٠١٦، عندما تبنّى أطباء وصحفيون ومحامون ميثاقاً، دون الحصول على ترخيص من السلطة. إنتجمّع المهنيين تعبير عن الطبقة الوسطىوالمتعلمة،في رأي عمّار الباقر، عضو مجلسه، مع أنه يقرّ بأن شمل معلّمي المدارس في الطبقة الوسطىليس بالدقيق. وقد يُقال الشيء ذاته عنقسم هام من الصحفيين.
هذا وعلى غرار جميع البلدان الخارجة من سنوات طوال منالدكتاتورية وسيطرة الدولة على النقابات، يشهد السودان منذ العام الماضي إعادة هيكلة واسعة النطاق للحركة العمالية ورابطات المزارعين. ويضغط اليسار من أجل تغيير في التشريع يستبدل نقابات المنشآت التي فرضها نظام البشير بنقابات مهنية.كما أن هناك تبايناً بين أنصار التعدّدية النقابية وأولئك الذين يريدون الحفاظ على وحدة الحركة النقابية مع جعلها مسؤولة ديمقراطياً أمام جمعيات عامة. على أي حال، فقد أصيبت الطبقة العاملة بالضمور في ظل نظام البشير بسبب التراجع العظيم في الصناعة لصالح اقتصاد ريعي قائم على استخراج الموارد الطبيعية (النفطحتى انفصال جنوب السودان في عام 2011، الذهب ومعادن وخامات أخرى)، وأيضاً بسبب تفكيك القطاع العام وتعهيد قسم من خدماته إلى القطاع الخاص، وكلّهاأمور أدّت إلى توسّع كبير في القطاع غير الرسمي.
هذا وقد تميّزتجمّع المهنيين بسرعة بقدرته علىمركزةأصداء شتى النضالات من خلال الإنترنتووسائل التواصل الاجتماعي، الأمر الذيجعله الممثّل الرسمي للنضالات المتكاثرةمنذ ديسمبر ٢٠١٨ ولتجدّد النشاط النقابي العمّالي.وقد قطعت القيادة العسكرية الإنترنت في يونيو ٢٠١٩، عندما حاولت إنهاء الاحتجاجات بالقوة، لكنّها اضطرّت إلى إعادته في يوليو بعد إخفاق المحاولة.في هذه الأثناء كان نشطاء الشتات السوداني قد أمّنوا مواصلةالدور الإعلامي الذي يقوم بهتجمّع المهنيين.
من خلال تشكيل ائتلافالحرية والتغيير، الذي أعلِن عنه في أول يناير ٢٠١٩، تحالف تجمّع المهنيين مع مجموعة واسعة من الائتلافات السياسية ومنظمات المجتمع المدني المعارضة لنظام البشير، من الليبراليين العلمانيين أو الإسلاميين المعتدلين، مثل حزب المؤتمر السوداني وحزب الأمة القوميالذي يقوده الصادق المهدي، إلى الشيوعيين والقوميين العرب والقوى الإقليمية.
تأسفعشة الكارب، وهي وجه نسوي وجمعياتي نموذجي من “الطبقة الوسطىوالمتعلمة” التي يمثلها تجمّع المهنيين، تأسفلانضمام التجمّع الى الائتلاف على قدم المساواة مع الأعضاءالآخرين، إذ كانت تفضّل ان يستمر التجمّع في دور منسّقالجمعيات والنقاباتبموازاة قوى الحرية والتغيير، لأن ذلك كان سيمنحه وزناً أكبر في تسيير الأحداث. علاوة على ذلك، وهذا هو ربّما الأهم، فإن موازين القوى بين الانتماءات السياسية المختلفة داخل تجمّع المهنيين، حيث لا يتمّ التمثيل على أساس سياسي، ليست هيذاتها داخل ائتلاف الحرية والتغيير، حيث يغلبوزن التقاليد على التجديد الناتج عن الانتفاضة.
ذلك أن الانقسام المزدوج بين الأجيال وبين الرجال والنساء ظاهرٌ بقوة في مجال العمل السياسي والاجتماعي في السودان، حيث يشكو الشباب والنساء، وبالتالي الشابات على وجهالخصوص، من الهيمنة الأبوية (البطريركية) في الحياة السياسية والحزبية. ويرى الشباب والنساءدورهم ودورهنّفي ممارسة رقابة ديمقراطية نقدية على العملية السياسية التي تُشرف عليها الأحزاب التقليدية من جانبالمعارضة، والحقيقة أن للفئتينفي السودانوزناً سياسياًعظيماً.
وقد أظهرت”ثورة ديسمبر”(كما تُعرف الانتفاضةفي السودان)إلى أي مدى تتيح تقنيات الاتصالات الجديدة، لاسيما وسائل التواصل الاجتماعي،تعزيز نفوذ القواعد الاجتماعية والسياسية.ونجد مثالاً ساطعاً على ذلك في موجة الاحتجاجات التي أثارها تشكيل وفد”قوى إعلان الحرية والتغيير”للتفاوض مع العسكرإثر خلع البشير، إذ اضطرّ الائتلاف إلى إصدار اعتذار عن تعيينه امرأة واحدة فقط في الوفد،بالرغم من أن النساء شكّلنالأغلبية في الحراك الشعبي.
وتمثّل النساءَ في الحراك،في المقام الأول،”المجموعات النسوية المدنية والسياسية” (منسم)،وهي ائتلاف تكوّنبمناسبة الانتفاضة ويجمع المنظمات النسائية المرتبطة بقوى المعارضة السياسية(وبينها “الاتحاد النسائي السوداني”العريقوالهام، المقرّب من الحزب الشيوعي السوداني) وجمعيات شتى.ويزيد وزن هذه الأطراف مجتمعة عن مجموع أوزانها على حدة، بمعنى أن الدينامية الناجمةعناجتماع نساء مختلف التشكيلات السياسية والجمعيات يدفع باتجاه مطالبة نسوية أقوى مما كان يمكن أن تعبّر عنه النساء داخل كل حزبعلى انفراد.وقد استطاعت منسم، ومعها “مبادرة لا لقهر النساء”، التي تأسست في عام 2009 والمنتمية أيضاً إلى ائتلاف الحرية والتغيير، أنتحصلا على أن تُخصّص للنساء٤٠ بالمئة من المقاعد في المجلس التشريعي،الذي لم يجرِ تشكيله حتى الآن.ومع ذلك، فقد امتعضت النسويات من أن تكون أربع نساء فقط بين أعضاء مجلس الوزراء الذين عيّنهمائتلاف الحرية والتغيير وعددهم ١٨ (أما حقيبتا الدفاعوالداخلية فمخصّصتان للعسكر)، ويطالبنَ بالمساواة على كافة المستويات.
هذا وحيث التفت أغلب المراقبين الخارجيين إلى هذه السمات من “ثورة ديسمبر”،ثمةطرف آخر في الدينامية السارية لم يلقَ سوى اهتمام نادر خارج السودان، ألاوهو “لجان المقاومة”.هذا على الرغم من أن هذه اللجان تشكّل رأس حربة العملية الجارية ومهمازها النقدي،القوة المنظَّمة للشبيبة الثائرة من الجنسين التي كانت في قلب الانتفاضة وأكثر عناصرها جذرية والتي تُديم الضغط الثوري.لقد حرّكت”ثورة ديسمبر” الشبيبةمثلما فعلتكافةالانتفاضاتوالثورات (والحقيقة أن تعبير “ثورة شبابية”، وهوكليشيه زخرت به وسائل الإعلام منذ عام ٢٠١١، هو من بابالإطناب). لكنّ المستجدّ في الحركات التي شهدتها المنطقة منذ “الربيع العربي”،شأنها في ذلك شأن كافةتحرّكات الشبيبة على الصعيد العالمي،إنما هوالدرجة الأعلى من التنظيم الذاتي التي تتيحها تقنيات الاتصالات الحديثة.
فمنذسنين عديدةوخبراء إدارة الأعمال يشرحون أن هذه التقنيات لا بدّ من أن تؤدي إلى حلول تنظيمالشبكات الأفقي محلّالتنظيم الهرَمي المركزي.وهذا ينطبق بالأحرى على التنظيم الثوري.فقد جاءت الثورة التكنولوجية في الوقت المناسب تمامًا لتسهيلالانتقال الجماعي إلى الفعل الثوريلدى جيل شديد الحساسيةإزاء الشكل الحزبي المركزي (والذكوري) الذي أشرف على كوارث اليسار في القرن العشرين. وهذا أصحّ بعد فيجزء من العالم بلغت فيه عيوب ذلك الشكل الحزبي أوجّها.
في كل ساحات”الربيع العربي” في عام ٢٠١١،كما في ساحات “الربيع الثاني” الذي دشّنه السودان، استطاع ملايين الشباب أن يحشدوا قواهمبواسطة التنظيمالذاتي بشبكات مستقلة عن الأحزاب السياسية.وقد حلّ تعبير جديد محلّ مركزيةالماضي، هو تعبير “التنسيقية” (بمعنى لجنة التنسيق) الذي كان شائعاً جداً في المرحلة الأولى من الانتفاضة السورية،مثلماهو اليوم في السودان، حيث تربط تنسيقيات محلية بين”لجان المقاومة”داخل الأحياء فيشبكة واسعة على نطاق البلد.
لقد نمت هذه الظاهرة بقوة،مستفيدة من شلل جهاز القمع أثناء أولى أشهر الانتفاضة، ومن توطيد الحريات الجديدة المكتسبة مذّاك،لاسيمابعد إحباط المحاولة القمعية في يونيو الماضي.وقد تشكّلت “لجان المقاومة” في أحياء المدن الكبرى كما في المناطق الريفية، وجمعت أعداداًكبيرة، معظمها من الشباب وغير المنتمين إلى تنظيمات سياسية.فعلى سبيل المثال،هناك ما يقارب ٨٠ لجنة فيشمال الخرطوم (بحري)،تضمّكلّ منها مئات الأعضاء.وقد أنشأت هذه اللجان القاعديةتنسيقيات محلّية، وهيترفض أي نمط من المركزية إذ تحرص كل لجنة على استقلالية قرارها.هذا هو السبب في أناللجان فوّضتإلى ائتلاف الحرية والتغيير حقالنطقباسم الحركة الشعبية التي شكّلت هي بسرعة رأس حربتها. وفي الوقت ذاته، ترى اللجان أن مهمتها تكمن في ممارسة راقبة صارمة على الأحزاب السياسية التي باتت منخرطة في مرحلة انتقالية حرجة تعتمد على تسوية مع العسكر.
فضلاً عن دورها السياسي، ملأت”لجان المقاومة” الفراغ الذي خلّفه انهيار “اللجان الشعبية” بالغة الفسادالتي أنشأها نظام البشير، والتي جمعت بين الخدمات البلدية ومراقبة السكان.وقد استبدلتها بتأسيس”لجان خدمات” تقوم بتنظيم جملة خدمات محلّية، وعلى الأخصّ التوزيع العادل للسلع التي تعاني من النقص كالخبز والوقود. وعندما حاول وزير الحكمالاتحادي الجديد،في نوفمبر الماضي،ضبط”لجان المقاومة” بإعادة تسميتها “لجان التغيير والخدمات” ووضعها تحت إشراف ائتلاف الحرية والتغيير،تعرّض لردّ حادّ.وقد صدربيان عن٤٠تنسيقية ولجنة مقاومة ندّدبالوزير وبالائتلاف على حد سواء، محذّراً الطرفين من أي محاولة لتقويض استقلالية اللجان ودورها في “مقاومة” قوات النظام القديم،وفيالرقابة علىالعملية السياسية الجارية.
وبقدر ما تشكّل “لجان المقاومة” رأس حربة الدينامية الثورية التي بدأت في ديسمبر ٢٠١٨، يشكّل ترويضها أو القضاء عليها ممرّاً إلزامياًلإيقاف الدينامية المذكورة أو طمرها في تسوية مع قوى النظام القديم.هذه التسوية هي ما يسميه السودانيون “الهبوط الناعم” لثورتهم. أماالبديلعنه، فهوإما مواصلةالرحلة إلى الغاية المنشودة في نظر بعضهم أو تحطّم الطائرة في نظر بعضهم الآخر.فمنذ اتفاق ١٧ يوليو ٢٠١٩ الذي أبرمهائتلاف الحرية والتغيير مع العسكر والذي أرسىازدواجيةللسلطة بين القوات المسلحة والحركة الشعبية،تقف”ثورة ديسمبر”على مفترق طرق بين هذه الاحتمالات الثلاثة.
وقد أثار الاتفاق المذكور انقساماًفي صفوف قوى الحرية والتغيير، بين الأحزاب الليبرالية والإصلاحية من جهة، والحزب الشيوعيمن الجهة الأخرى،الذيتنصّل منه تحت ضغط الشباب المتجذّر في قاعدته.أما الشفيع خضر سعيد،الذي كان من الأعضاء البارزين في الحزب الشيوعي السوداني حتىفصله في عام ٢٠١٦ بتهمة العصيان،فتفاؤله بشأن نجاح العملية الجارية محدود.ويعتقد الناس أن له تأثيراً هاماً على رئيس وزراء الحكومة الانتقالية، عبد الله حمدوك، نائب الأمين التنفيذي السابق للجنة الاقتصادية لأفريقيافي الأمم المتحدة، والعضو السابق في الحزب الشيوعي هو أيضاً.
يعتمد مستقبل العملية الثورية السودانية على مسألتين جوهريتين، هما السياسة الاقتصادية وانتقال السلطة إلى المدنيين.فعلى غرار الحكومات التي نجمت عن “الربيع العربي” في تونس ومصر، حاولت حكومة السودان الانتقالية حتى الآن أن تتبعالإرشادات النيوليبرالية عينها التي تسبّبتبسقوط عمر البشير.فقد أعلن وزير الاقتصاد والمالية إبراهيم البدوي،الذي عملكخبير اقتصادي لدى البنك الدولي لسنوات طوالقبل أن يترأس مراكز بحوث في دبي ثم القاهرة، أعلن في ديسمبر الماضي أن دعم أسعار الوقود سيتم إلغاؤه تدريجياً خلال عام ٢٠٢٠. وقد أقنعته قوى الحرية والتغييربالتراجععن إعلانه في وجهالاحتجاجات الشعبية التي أثارها، بلاضطرّ إلى أن يُطمئن الناس بخصوصاستمرار دعم أسعار سلع أساسية أخرى، منها سعر الخبز.
إن الوضع الاقتصادي السوداني في تدهور سريع:التضخّم خارج عن السيطرة، والجنيه السوداني لا يساوي في السوق السوداء سوى نصف سعره الرسمي، ونسبة بطالة الشباب تناهز الثلث،ناهيكم من العدد الكبير جداًللذين يسعون وراء لقمةالعيش في القطاع غير الرسمي أو في النشاطات غير المستقرة (السودان هو أيضاً مصاب بعدوى أوبر). وكل هذه الأمور تزداد سوءاً بسبب جائحة فيروس كورونا التي شلّت السودان مثلما شلّت سائر بلاد العالم.وعلى الرغم من أن الحكومة الانتقالية لم تتباطأ في اتخاذ الإجراءات الضرورية تصدّياً لانتشار الوباء،فإنه لا مناص من تباطؤ اقتصادي حاد.
هذاوكما في تونس ومصر،يبدو أن الحكومة السودانية تنتظر أن يأتيها الخلاصمن صدقات الدول الغنية ورعاية دعائم النظام الاقتصادي العالمي التي اتخذت واشنطن مقرّاً لها.وقد كانالأمل في إحياء المساعدة الأمريكية هو الحجة التي تحجّجبها الفريق أول عبد الفتاح البرهان، رئيس المجلس العسكري الانتقالي السابق ورئيس مجلس السيادةالحالي، تبريراًللقائه برئيس الوزراء الإسرائيلي،بنيامين نتنياهو،في أوغندا في فبراير الماضي.غير أن هذا اللقاء أثار موجة انتقادات عارمة في السودان.فقبل أن تغيّر الأزمة الصحّية العالمية كل المعطيات،كانت الجذرية الاجتماعية للحراك السوداني تحدّ كثيراً من احتمالات المساعدة الاقتصادية الدولية.ومن المستحيل التكهّن الآن بما إذا كانت تلك الجذرية ستنجو من وباء كانت إحدى نتائجه تجميد حركات الاحتجاج في شتى أنحاء العالم، من هونغ كونغ إلى شيلي مروراً بالجزائر وفرنسا.
فضلاً عن الاقتصاد،فإن المشكلة الأخرى التيتهدّد مستقبل التسويةالجارية في السودان أكثر صعوبة بعد: إنها مشكلة القوات المسلحة.وتقع القوى الليبرالية والإصلاحية بين فكّي كمّاشة، بين القاعدة الشعبية المتجذّرة التي تطالب بنقل كامل السلطة إلى المدنيين، بما في ذلك وضع القوات المسلّحة تحت إشراف المؤسسات المنتخبة،وبين تعلّق العسكر باستقلاليتهم، إن لم يكنبالإشراف الذي طالما مارسوه على المؤسسات المدنية.ويعتقد الصادق المهدي أنه يستطيع التوفيق بين هذينالقطبين المتعارضين من خلال إطالة أمد المرحلة الانتقالية.هذا الزعيم الديني والسياسي البالغ من العمر ٨٥ عاماً هو المدافع الرئيسي عن “الهبوط الناعم”، وهو يؤمن بالحلول الوسطى في مختلف المجالات.فيما يتعلق بمسألة العلمانية على سبيل المثال،لا يستبعد الجمع بين الشريعة الإسلامية وقانون أحوال مدني اختياري للأفراد.غير أن توخّي المساومة في شأن وضع القوات المسلحة يقتضي الرهان على حسن نواياها.
كثيرون هم الذينيعتمدون في هذه المراهنة على الخلاف المزعوم بين الجيش النظامي الذي يمثّله الفريق أول عبد الفتاح البرهان، من جهة، وقوات الدعم السريع،أي القوات غير النظامية بالأصلوالمتورّطة في الإبادة الجماعية في دارفور، التيأصبحت جزءاً من القوات المسلّحة الرسميةبقيادةالفريق أول محمد حمدان دقلو، المعروف باسم حميدتي، نائب رئيس المجلس العسكريالانتقاليالسابقونائب رئيس مجلس السيادةالحالي.وقد أتت محاولة الاغتيال التي تعرّض لها عبدالله حمدوك في ٩ مارس الماضي، وقبلها في يناير تمرّد قسم من قوات الأمن يحنّ إلى نظام البشير،لتذكّر بتنوّع القوى المحلّية المضادة للثورة والتي لا تقتصر على فصيلي القوات المسلّحة المدعومين من الحلف الثلاثي الإقليمي المكوّن من المملكة السعودية والإمارات المتحدة ومصر.
هذاولم يبادرالحراك الثوريإلى نشاط سياسي منظَّم موجّه إلىقاعدة القوات المسلحة، على الرغم من أن التآخي بين أفراد الجيش والحركة الشعبية كان عاملاً حاسماً في قرار القيادة العسكرية التخلّص من البشير، وكذلك في قرارها وقف الحملة القمعية في يونيو الماضي.إلا أن العمل السياسي الشعبي الذي استهدف القوات المسلحة منذ بداية الانتفاضة، عاد مؤخرًا إلى الظهور بقوة.كان ذلك في فبراير،عندما أدّت الإحالة إلى التقاعد القسري لضباط شباب رفضوا استخدام العنف ضد المتظاهرين إلى موجة عارمة منالاحتجاجات،أفضت إلى اشتباكات مع قوات القمع.
فإنعزيمتهم بالذات هيأعظم ورقة بيدالثوار في السودان.وقد عبّر عن هذه العزيمة خير تعبير كشة عبد السلام، رئيس “منظمة أسر الشهداء” اذي استشهد ابنه في بداية الانتفاضة.فعندما قيل له أن العسكر لن يترددوا في القتل دفاعاً عن امتيازاتهم، أجاب على الفور:”همّمستعدّينيقتلواونحن مستعدين نموت”.
—————————
* جلبير الأشقر، أستاذ في معهد الدراسات الشرقية والأفريقية في جامعة لندن، له مؤلفات عديدة منها “الشعب يريد: بحث جذري في الانتفاضة العربية” و”انتكاسة الانتفاضة العربية: أعراض مرَضية”. ويستند هذا المقال إلى مقال صدر في مطلع هذا الشهر في مجلة “لوموند ديبلوماتيك” الصادرة بلغات عديدة.ويشكر الكاتب كل من أنور عوض ومصطفى خميس وخديجة الدويحي ومحمد عبد القيوم وطلال عفيفي، الذين يدين لهم بنجاح زيارته البحثية للسودان في شهر فبراير الماضي. كما يشكر جميع اللواتي والذينالتقىبهم ولم يستطع الاستشهاد بهم لكثرة عددهم.