مقالات سياسية

هل كانت بارا عاصمة لمملكة العباسيين؟

محمد التجاني عمر قش

هنالك معلومة متداولة بين الناس، هذه الأيام، مفادها أن مدينة بارا كانت عاصمة لمملكة العباسيين أو الجعليين في واقع الأمر. وهذا زعم لا تسنده الوقائع، ولا يؤيده دليل من التاريخ أو المصادر المعتبرة. وسوف نحاول هنا مناقشة هذا الزعم وفقاً للنصوص والمصادر المتاحة؛ حتى نستجلي الحقيقة، ليس على سبيل الجدال والمحاجة بل من أجل التوثيق لبعض صفحات تاريخ شمال كردفان، الذي لم يكتب بعد، بل ظل يعتمد بدرجة كبيرة على الروايات الشفوية.

عموماً، سنعتمد في هذا الصدد على جملة نصوص وردت في عدد من المصادر المعتبرة التي تحدثت عن تاريخ شمال كردفان، منذ دخول الأفواج الأولى للعباسيين إلى هذه المنطقة؛ وذلك تفادياً للمغالطات والجدل الذي لا يفضي إلى حقيقة، حيث أن القصد هو توفير المعلومات الموثقة، تجنباً لتزوير التاريخ؛ لأن ذلك لا يخدم المصلحة العامة ولا المعرفة الإنسانية في شيء.

ولعلنا نبدأ بما ورد في كتاب “تاريخ وأصول العرب في السودان” لمؤلفه الفحل الفكي الطاهر، باعتباره أكثر من استفاض في سرد تاريخ العباسيين في كردفان، حيث يقول: “هاجم التتار بغداد عام 656 هجرية، فخرج الأمير إدريس إلى مصر ونزل ضيفاً على سلطانها. لم يقم الأمير إدريس في مصر أكثر من عامين؛ إذ أنه هاجر إلى السودان عام 658 هجرية، وعرف أن في الصحاري غرب النيل جماعة من بني قحطان وعرب فزارة من بني عدنان؛ فاستأجر الجمال ورحل جنوباً إلى أن نزل على العرب في الخيران “وهي دار حامد الآن وتشمل محليتي بارا وغرب بارا” فاستقبل بالسرور، وجعلوه إماماً وحكماً بعد أن علموا أنه من بني العباس، وأنقاد له العرب وصار بينهم سيداً مطاعاً. عاش الأمير إدريس تسع سنوات بالسودان، حتى توفي دفن بمقبرة يقال إنها بين بارا وخرسي الآن. ثم خلف من بعده إبراهيم جعل وسار سيرة طيبة حتى توفي ودفن مع والده. ثم وصل الأمر إلى الأمير سُرار، الذي حفر بئر سرار الواقعة بالقرب من جبل المليسة في منطقة المقنص بشرق دار حامد.”
هذا النص لا يشير إلى تأسيس مملكة عباسية في المنطقة الواقعة حول بارا، ولكن يفهم منه أن هؤلاء القوم عندما قدموا إلى تلك الديار وجدوا عرب فزارة، الذين يعرفون الآن بدار حامد، فأكرموا وفادتهم وأنزلوهم منزلة تليق بمكانتهم؛ حيث علموا أنهم ينتمون إلى آل رسول الله صلى الله عليه وسلم، بحكم العاطفة الدينية المعروفة لدى السودانيين تجاه آل بيت النبوة. كما أن من الظواهر المعروفة، في تاريخ السودان، ظاهرة القريب الحكيم، وهو شخص عربي له صفات معينة من بينها التقوى والتحضر، وقد يكون تعامل فزارة مع الأمير إدريس من هذا المنطلق. وبحسب هذا النص فإن كل الآثار التي خلفها العباسيون في تلك المنطقة هي تلك المقابر التي توجد بين بارا وخرسي، وبئر سرار التي سبقت الإشارة إليها أعلاه. ولو أن بني العباس قد أسسوا مملكة في منطقة الخيران لبنوا فيها القصور الشامخات في بارا، التي يزعم البعض أنها كانت مقراً أو عاصمة لملكهم، خاصة إذا علمنا أنهم خرجوا من بغداد حيث قصور الكرخ وغيرها من الدور والدواوين الحكومية التي عرفت بها عاصمة الخلافة في أوج ازدهارها.

وهل يعقل أن تقوم مملكة عباسية في هذه المنطقة دون أن تبني ولا مسجد واحد؟ كما أن الذاكرة الشعبية لم تحفظ أي أثر علمي للعباسيين في منطقة الخيران، مع العلم أن هؤلاء النفر قدموا من بغداد التي كانت في ذلك الوقت عاصمة الثقافة والفكر والأدب في الدولة الإسلامية. أما بئر سرار التي تنسب إلى سرار أحد أحفاد الأمير إدريس بن قيس، فمن الطبيعي أن توجد بئر للشرب وسقيا الأنعام؛ لأن العباسيين، بحسب النص أعلاه، قد سعوا الماشية أثناء إقامتهم مع عرب فزارة. ومن جانب آخر فإن وجود المقابر، بين بارا وخرسي، لا يدل على أن العباسيين قد أسسوا مملكة، سيما وأن هنالك مقابر إسلامية كثيرة في مناطق متفرقة من السودان، في الشرق والشمال، لكن لم يزعم أحد أن ثمة ممالك إسلامية أو عربية قد أسست حيث توجد تلك المقابر، علاوة على ذلك فإن مجموعة بذلك العد، من الطبيعي أن يتوفى بعض أفرادها، في أثناء رحلتهم التي أشرنا إليها، وهذا ما يفسر وجود ما يسمى بمقابر الأشراف بالقرب من بارا.

وربما يستفاد من استخدام كلمات مثل أمير وملك غيرها من الألقاب بحكم ما كان من أمر العباسيين في سالف أزمانهم، أو ربما يكونوا قد حافظوا على نوع من النظام الداخلي، أو الترتيب الخاص، أو ما يشبه المشيخة، بين المجموعة نفسها، حتى يضمن لهم التماسك، الأمر الذي يستدعي المحافظة على تداول تلك الألقاب. ومن جانب آخر ليس هنالك أثر ثقافي للعباسيين على سكان المنطقة الأصليين لا من حيث التراث، ولا اللهجة؛ إذ أن المنطقة ظلت على طبيعتها شبه البدوية، كما أن الأمير إدريس نفسه قد تبدى وصار يتحرك وفقاً لحياة البادية من حيث الحل والترحال. وليس هنالك أي أثر إداري، تحتفظ به الذاكرة الشعبية، يمكن أن ينسب إلى بني العباس، مثلما هو الحال بالنسبة للسلطنات الأخرى التي بسطت نفوذها على هذا الإقليم لاحقاً مثل سلطنة الفور والمسبعات؛ إذ نجد على سبيل المثال صكوك تمليك الأراضي الممنوحة لبعض الجماعات من لدن السلطات الحاكمة.

ولم ترد إي إشارة إلى مملكة عباسية في كتابات الرحالة الذين زاروا السودان الغربي والأوسط وذكروا تفاصيل كثيرة جداً عن الكيانات السياسية التي عرفتها تلك المناطق عبر مختلف العصور. يقول الدكتور قيصر موسى الزين في كتابه ” فترة انتشار الإسلام والسلطنات” ما نصه: “أما ما يعرف الآن بشمال كردفان، فإن غياب مملكة واضحة البناء السياسي في هذا الإقليم ساهم في ضعف تسجيل الوقائع؛ ولذلك نجد معظم ما ورد عن هذه المنطقة يأتي ضمن سياق الصلات مع سلطنتي الفور والفونج”.

وهذا دليل آخر على عدم قيام مملكة عباسية في هذا الجزء من السودان، سيما وأن المصادر تشير إلى عدم استقرار العباسيين بشكل دائم في منطقة الخيران بل ظلوا في سير مستمر باتجاه الشرق حتى عبروا النيل الأبيض، حيث توجد لهم مقابر الآن في جبل العرشكول. وليست هنالك أدنى إشارة إلى سقوط مملكة العباسيين في أي من المصادر التاريخية التي تحدثت عن كردفان، مع قلتها وشحها، لأن تلك المملكة لم تنشأ أصلاً. والإنسان العربي لا يقبل أن يحكمه غريب إلا إذا تغلب عليه ملك بقوة السلاح، وهذا ما لم يفعله العباسيون في تلك المنطقة، بل دخلوها مرحباً بهم، وخرجوا منها بسلام.
وفي موضع آخر من ذات الكتاب يقول الدكتور قيصر:” وفي عهد ولاية عمال الفور، شهدت كردفان، ” المنطقة السهلية، أي شمال كردفان” لأول مرة نظاماً سلطانياً كامل الترتيب، حيث كانت العادة في تلك المنطقة سيادة النظام العشائري، حيث تحتفظ كل قبيلة بكيانها المستقل وتعيش في دارها الرعوية معتمدة على العرف القبلي لتحقيق النظام والأمن داخلها ومع غيرها من القبائل. ويمكن القول إن كردفان، وخاصة شمالها، قد ظلت في فترة السلطنات بدون كينونة سياسية واضحة وكانت أقرب إلى منطقة الفراغ السياسي، تتصارع أو تتعايش فيها القبائل المحلية والمهاجرة المستوطنة، وتتعرض لهجمات الفور والفونج من وقت لآخر”.

هذا النص يوضح بما لا يدع مجالاً للشك أن منطقة شمال كردفان لم تشهد، في كل تاريخها، قيام كيان سياسي مستقل أبداً، بل ظلت منطقة صراع بين سلطنات الفور، بما فيهم المسبعات، وسلطنة الفونج، مما يستبعد معه قيام مملكة عباسية في هذا المنطقة في أي وقت من الأوقات، ناهيك من أن تـكون عاصمتها في بارا. وتشير بعض المصادر إلى نشأة بارا باعتبارها “واحدة من المدن القديمة في السودان، ويرجع تاريخها إلى القرن الثامن الميلادي، وكانت تشكل جزءاً من مملكة المسبعات، وقد شهدت أحداثاً تاريخية مهمة بسبب وقوعها في وسط السودان في الطريق الذي يربط غرب السودان بسودان وادي النيل مما أدى إلى احتدام صراع بين سلاطين الفور ومملكة الفونج في الشمال والشرق للسيطرة عليها”. ومرة أخرى ليست هنالك أي إشارة إلى أن هذه المدينة قد كانت في سابق عهدها عاصمة لمملكة عباسية.

وفي كتابه الموسوم “تاريخ كردفان، من خلال مشيخة الغديات”، يقول الدكتور محمد بابكر أحمد بابكر: “تشير الكتابات التاريخية إلى أن القبائل العربية، العدنانية وغير العدنانية، قد تجمعت حول إبراهيم جعل؛ نظراً لكرمه ونسبه، ولمحبتها لبيت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وجعلت منه زعيماً روحياً لها، دون أن تستطيع تلك القبائل تكوين كيانات سياسية أو إدارية لها، بل أثمرت مجهوداتها في تكوين تحالفات قبلية محدودة”.

ومرة أخرى ليست هنالك إشارة لمملكة عباسية بيد أن الغديات أنفسهم ينتسبون، حسب بعض الروايات، إلى المجموعة الجعلية التي تضم مجموعات قبلية ذات أنساب متقاربة، منهم على سبيل المثال لا الحصر الميرفاب والجوامعة والبديرية والغديات والبطاحين وغيرهم كثر. علماً بأن الغديات قد أنشأوا مشيختهم في المنطقة الواقعة إلى الجنوب الشرقي من الأبيض، فيما يعرف في دار الغديات، الذين أصبحوا فيما بعد ممثل الفونج في المنطقة، ولم يدعوا تأسيس كيان سياسي مستقل. وأما المحاولة للربط بين اسم كردفان وكردم الفوار، فإنها لا تعدو كونها فذلكة تاريخية؛ لأن أصل مسمى كردفان يظل مختلفاً عليه بين كثير من مصادر تاريخ المنطقة.

ولو أن العباسيين قد أسسوا مملكة في منطقة الخيران، أو في شمال كردفان، لورد ذكرها ضمن الممالك والمشيخات الإسلامية والعربية التي ظهرت في مناطق مختلفة من السودان الأوسط والشرقي، مثل مشيخة العبدلاب ومشيخة خشم البحر، ومشيخة المريس ومملكة الدفار، ومملكة العُمَري في منطقة وادي العلاقي. وكل هذه الكيانات أشار إليها المؤرخون وذكروها في مؤلفاتهم وأوردوا عنها تفاصيل وافية، ولكن لم يرد ذكر لأي مملكة في شمال كردفان. ” تاريخ السودان لنعوم شقير”.

ولا بد من الإشارة في هذا السياق إلى ما أورده البرفسور يوسف فضل حسن في عرضه لكتاب الجوابرة في السودان من تأليف الأستاذ الأنصاري عبد الله معروف حيث يقول: وعما أورده المؤلف من أن مؤسس الحلف العربي، الشيخ إبراهيم جعل، قد تخير بارا لتكون مقراً لنشاطه؛ نظراً لبعدها النسبي عن رئاسة مملكة النوبة، فنرد عليه بقولنا كما يلي: كانت بئر سرار هي أول منطقة تكونت فيها زعامة للجعليين برئاسة جدهم سرار، حسب بعض الروايات. ولكن القول بأن إبراهيم جعل هو مؤسس الحلف العربي الذي أطاح بسوبا، فلا تسعفني الذاكرة في الوقوف عليه في أي من المظان التاريخية وهو قول يحتاج إلى مراجعة قبل الاعتماد عليه”. وهذا نص صريح وواضح من رجل خبير بتاريخ السودان، ولا يحتاج لأدنى تعليق أو شرح إضافي.

عموماً، هنالك شبه إجماع بين معظم المؤرخين والباحثين، وكذلك الروايات الشفوية، أن شمال كردفان   لم تشهد قيام أي كيان سياسي فيما عدا دولة المسبعات، وحتى هذه لم تكن سلطنة مستقرة أو مستقلة إذ كانت الحرب سجالاً بينها وبين سلطنة الفور من الغرب في أحيان كثيرة، وبينها وبين سلطنة سنار أو الفونج ومشيخة الغديات في أحيان أخرى! ولم يرد ذكر لأي كيان للعباسيين في كافة المراجع التي تحدثت عن شمال كردفان قديماً وحديثاً. وكل هذه النصوص تدل على أن بارا لم تكن عاصمة لمملكة العباسيين في شمال كردفان؛ خاصة إذا علمنا أن بارا إنما ازدهرت بعد وصول بعض المجموعات إليها من منطقة دنقلا في شمال السودان فجلبوا معهم أدوات زراعية وخبرات في هذا المجال مما حول بارا من مجرد واحة كانت تستخدم فقط كمورد للمياه إلى واحد من أهم المدن والمراكز التجارية في شمال كردفان، ومقراً للحكام سواء عندما كانت خاضعة لسلطان دارفور أو في العهد التركي حتى أصبحت مقراً لمجلس ريفي دار حامد في الآونة الأخيرة، ولم تكن في أي وقت من الأوقات عاصمة لمملكة عباسية أو غيرها، وكنا نتمنى أن تكون بارا في الواقع عاصمة لمملكة، أياً كانت، لكن لا يوجد دليل واحد من الآثار أو الروايات ليعضض هذا الزعم. وإذا كان العباسيون قد أسسوا مملكة في شمال كردفان لأشار إليها ماكمايكل في كتابه عن قبائل شمال كردفان ووسطها؛ خاصة وأن المؤلف قد أورد في مقدمة كتابه معلومات عن سائر الكيانات والمجموعات التي أثرت على سير الأحداث في شمال كردفان منذ سقوط مملكة كوش وحتى العهد التركي والحكم الثنائي في السودان، لكنه لم يشير إلى وجود عباسي من قريب ولا من بعيد.

المراجع:
1.      الفحل الفكي الطاهر، تاريخ وأصول العرب في السودان.
2.      الدكتور محمد بابكر أحمد بابكر، تاريخ كردفان، من خلال مشيخة الغديات
3.      البرفسور يوسف فضل حسن، عرضه كتاب “الجوابرة في السودان” من تأليف الأستاذ الأنصاري عبد الله معروف
4.      ماكمايكل، قبائل شمال كردفان ووسطها، ترجمة محمد التجاني عمر قش
5.      نعوم شقير، تاريخ السودان، تحقيق الدكتور محمد إبراهيم أبو سليم

محمد التجاني عمر قش
[email protected]

‫3 تعليقات

  1. ولا يوجد عرب بالسودان لا عباسيين و لا غيرهم….انت ما بشوف صورتك في المرآة……يا ناس اوعوا…… .يا ناس اوعوا……..يا ناس اوعوا……..يا ناس اوعوا……الا الرشايدة

  2. ((كما أن الأمير إدريس نفسه قد تبدى وصار يتحرك وفقاً لحياة البادية من حيث الحل والترحال.))!
    يقول أبو فراس الحمداني في قصيدة عصي الدمع: بدوت وأهلي حاضرون لأن دارا لست من أهلها قفر:
    فالصحيح يا قش أن تقول الأمير إدريس نفسه قد بدو بفتح الباء وضم الدال وفتح الواو.

  3. السودان ليس به عباسين على الاطلاق والجعلين والشواقه ناتج تمازج النوبين والارمن والشركس وجيش حملات الدفتردار والشلوخ دليل على …………. ناس مرضانه دى المرض الاصاب عمر البشكير ” عمر ابوشلاليف دى عباس من وين ” مثلا لسره المهدى هل دنقلاويه وتعتبر نفسها اشراف ” الجعلين من ابراهيم جعل ” هو اسود مثل ابوجعران البدردق روث ابهائم ” وفى الحقيقه جل مكوك الجعلين هم سود ومن بيوت سودا البشره دليل على سودنتهم ” وقتنعين ام الشركس هم الذين يريدون ان يغيروا التاريخ قال باره قال باره

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..