الشباب السوداني و”الثقة في الذات” ودور ذلك في التحريك المجتمعي

إن الحديث على تعزيز الثقة في النفس مهم للغاية حين يكون في إطار الاعداد لقيادات ذات طابع شعبي، مطلوب منها ان تسهم في تأسيس التغيير الايجابي على نطاق مجتمعي واسع. و انعدام الثقة، بالمقابل، يقلل من تأثير الشخص في محيطه الاجتماعي، و يقلل من قدرة الشخص في توظيف قدراته و إمكانياته لتحقيق الاهداف المرصودة.
لقد أصبح من المؤكد، أن تعزيز الثقة في الذات له دور كبير جداً في نجاح (العمل) و في فعالية (الاداء)، و كذلك له تأثير كبير على الاخرين، إذ تشجع (الثقة في النفس) الآخرين في التعامل، فهي تبث الطمأنينة لدى الاخرين.
و لكن الثقة في النفس، ليست مجرد رغبة، او أمر معزول عن التكوين الموضوعي و النفسي للشخص المعين. فمن المؤكد ان التجارب و الخبرات، و المعرفة، لها دور اساسي في تعزيز الثقة، (فالذي يقود دراجة بخارية لاول مرة لن يكون واثقاً من نفسه و من قدرته في قيادة الدراجة مثل الذي يقودها منذ سنوات)، و بجانب ذلك قد تأتي عوامل مؤثرة أخرى خارجية مثل البيئة المحيطة و الثقافة المجتمعية (فمثلا فريق الكرة الذي يلعب خارج ملعبه قد لا يشعر بالثقة في الذات كالذي يلعب وسط مشجعيه)، و هكذا نجد ان بناء الثقة في النفس هو أمر متعلق بتربية النفس على العديد من الامور، و كذلك العمل على تعزيزها و رفع كفاءتها بالمعارف و الخبرات و المهارات.
أهمية الثقة في الذات:
من مجمل ما ذكرنا من تفصيل بخصوص أهمية تعزيز الثقة في الذات، في بناء الشخصية، و على نحو أهم، الشخصية التي تعمل مع الجمهور بصفة قيادي، فاننا يمكن أن نخلص إلى أن الثقة في النفس هي طمانينة المرء لادائه، بالصورة التي ترضي الاخرين، إيمانه بقدراته وإمكاناته وأهدافه وقراراته حسب الظرف الذي هو فيه، دون مغالاة او إفراط بالقدر الذي يمكن تصنيفه خيلاء و تكبر و إعجاب بالذات. و الثقة بالنفس على قدر أهميتها للاشخاص الذين يقومون بمهام عامة في المجتمع، إلا أنها أمر مهم لكل شخص.
إن المجتمع الذي تقوده شخصيات خائفة و مترددة و غير واثقة من ذاتها، تسهم بصورة مباشرة في إصدار قرارات غير سليمة و غير مستوعبة لمتطلبات الحاضر. و بالتالي ، ومثلما أِشرنا إلى أهمية بناء الثقة في قيادة المجتمع و تحريكه نحو أهداف التنمية و الرفاه و العدالة الاجتماعية، فأن لبناء الثقة في الذات أهمية كبيرة في التخطيط التنموي، و ذلك لان التنمية عمادها الموارد البشرية التي تخطط و تنفذ و تراقب مشروعات التنمية الوطنية، و بالتالي يكون التخطيط لـ (بناء الثقة في الذات) هو (عملية تأهيل) لقيادات البلاد في الوقت الراهن و المستقبل.
في التحول الحادث في السودان منذ ديسمبر 2018، من المهم أن تكون القيادات التي تحفز الناس ضد الظلم و الطغيان و الحرب و الفساد، ملهمة من خلال ثقتها بنفسها، و معرفتها لوسائل استقراء تطلعات المواطنين و تحويلها الى حراك مجتمعي شامل يساعد في التغيير الاجتماعي و السياسي، و بالتالي يكون الناس مطمئنين، و على ثقة بقدرة تلك القيادات في ترجمة الشعارات و المبادئ الى خطة عمل طويلة تصل في النهاية الي ما يتمناه الناس.
بعض الصفات العامة للشخصية التي تتمتع بالثقة في الذات:
• تحمل مسؤولية اتخاذ المواقف و القرارات دون الشعور بالتردد والخوف
• إمتلاك قدر معقول من القدرات المعرفية و الخبرات، و الرؤية للمستقبل بصورة منطقية و مقبولة عقلياً
• القدرة على التأثير في الآخرين، و مخاطبة عقولهم، بالصورة التي تبعث فيهم الطمأنينة للافكار المطروحة
• القدرة على تحليل الواقع، و المعرفة بمآلات الاحداث بالصورة التي تجعله مطمئن لقرارته، و شجاع في تنفيذ القرارات
• قبول الآخر، وإن كان مختلفاً معه، مستعداً لقبول الانتقاد، و أن يكون موضوعياً في خصومه و مخالفيه في الراي
• و غير ذلك.
إكتساب الثقة في الذات:
هل يتم تعليم بناء الثقة؟ بالنظر للصفات العامة للشخصية المتمتعة بالثقة في الذات، يكون من السهل إدراك بأن الثقة في الذات يتم إكتسابها و تعلمها. لقد اصبحت المدارس تقوم بتعليم تلك المسائل للاطفال منذ نعومة أظافرهم، و بالتالي أصبت مسالة بناء الثقة في الذات جزء من المكونات المطلوبة في بناء الشخصية للمستقبل، و بالتالي أصبح من المهم اتباع منهج تعليمي في المدارس و المعاهد و الجامعات، و في الاندية الاجتماعية و الرياضية، و كذلك في وسائل الاعلام، يعزز الثقة في النفس.
يجب أن نفهم بناء الثقة بصورة أكثر شمولية، و بصورة تعكس تأثير (بناء الثقة في الذات)، على المجتمع او المحيط الاجتماعي، بل على مستقبل الدولة كلها. و لأهمية هذا الجانب في إحداث تغييرات في بنية المجتمع و مفاهيميه و قيمه، نجد العديد من الاساليب و المناهج التي تساعد في تعزيز الثقة في النفس، و من المهم في ذلك ان نستوعب، أن بناء الثقة في النفس ليست مسألة شخصية محضة، بل مهمة رسمية، بحيث يتم تضمينها في الخطط الوطنية للتنمية في الدولة. و نستفيد من هذا القول، أن بناء الثقة يجب ان يُضمن في الخطط القومية للتنمية في البلاد، لانها مسألة قومية بامتياز.
المنهج العلمي وأثره في إكتساب الثقة بالذات:
هذا أمر يكثر فيه الحديث، إلا أن ملخصه، أن الشخص الذي لا يعرف مآلات الاحداث، و يندهش لحدوثها، فأنها يكون خائفاً و متردداً في اتخاذ قرار بشأنها. لذا فان التخطيط العلمي و الممنهج، و اتباع منهج الرصد و المراقبة أثناء الاداء و التنفيذ، يجعل من الشخص ينظر لتطورات الاحداث من منهج علمي، من خلال تحليل علاقات العناصر ببعضها البعض، و تأثيرها على الاحداث.
و بالتالي فان الشخصيات التي تتمتع بعقل علمي في التحليل هي أكثر الشخصيات تمتعاً بالثقة في الذات. أما الشخصيات التي تعتمد بشكل أساسي على منهج غيبي، لا علمي فانها تكون رهينة توقعات غير محددة، و ذلك كمن يذهب للمشعوذ لمعرفة طبيعة البنت التي يريدها زوجة له، او غير ذلك من الامثلة المشابهة التي تنم عن إفتقار الشخص للثقة في الذات.
موجهات عامة لتدعيم الثقة في الذات:
هذه الموجهات، بقصد رفع القدرات الشعبية للشابات و الشباب، الذين يتطلعون لقيادة مجتمعاتهم نحو تغيير إيجابي، و يؤسس لمستقبل يتطابق مع تطلعاتهم. و بالتالي قد تكون تلك الشخصيات المستهدفة، تتمتع بالثقة في الذات، و واثقة من قدراتها و إمكاناتها، في مجال معين من مجالات الحياة، و لكن ليس من بينها القدرة في تحريك و قيادة المواطنين على مستوى المجتمع المحلي او المجتمع بصفة عامة. بالتالي، هناك عدد من المتطلبات العامة، و التي قد لا نستطيع حصرها في هذه الورقة، و لكن تلك المتطلبات لها علاقة بإستقراء افكار المواطنين، و إختيار طريقة التواصل معهم، من خلال الوسائل التي يجيدها الشخص، إذن قد يحتاج الشخص الى نوعية جديدة من الكفاءات، لبناء الثقة في النفس للعمل في مجال مختلف او غير مألوف بالنسبة اليه.
أولا: من المهم ادراك المهارات و القدرات و الخبرات الذاتية التي لها صله بالتواصل مع المواطنين، و بالتالي تحديد الشواغر، تلك التي تحتاج لاستكمال. في هذا الجانب من المهم معرفة القدرات الشخصية، و معرفة كيفية توظيفها في سياق العمل العام. و من المهم إدراك ان كل القدرات الشخصية مهما إختلفت، تصلح لان تستخدم في سياق العمل العام مع المواطنين. فقد يدرك الشخص بأنه لدية قدرات ذات طابع تخطيطي، او إعلامي و تحفيزي، و قد تكون لديه قدرات ذات طابع إبداعي و هكذا، مثل هذا الادراك يساعد الشخص في تحديد مهامه الاجتماعية بما يتناسب مع قدراته، و بالتالي يضطلع بمهام في محيطه الاجتماعي بقدر عالي من الثقة بالذات.
ثانياً: لطالما أن المعرفة، تحفز و تعزز الثقة في النفس، من المهم أن يعمل الشخص على تدريب نفسه على تحليل المجتمع ( تحليل المجتمع من زاوية ثقافته، و الظروف و العناصر المؤثرة على حياته، و إتجاهاته و تطلعاته المستقبلية .. الخ). لان معرفة المجتمع المحيط ترفع من مستويات الثقة في النفس، لا سيما حين يختار الشخص ان يتكلم بالانابة عن هذا المجتمع. إن أكثر الشخصيات ثقةً في قراراتها العامة، هي تلك التي تعرف المجتمع و إتجاهاته.
ثالثاً: من المهم أن ينمي الشخص قدراته في قبول الاخر، و إحترام الافكار الاخرى. ان الشخصية التي لديها مهارات قبول المجتمع بكل تصنيفاته، تستطيع ان تتعايش مع تكوينات المجتمع الموجودة، فبالتالي ينخرط بخطوات ثابتة في مؤسسات المجتمع، دون خوف او تردد، سواء كانت تلك المؤسسات سياسية او ثقافية او اجتماعية او رياضية او غير ذلك.
رابعاً: إن الشخصية التي تعمل في مجال العام، تحتاج لمتطلبات عديدة لبناء الثقة في الذات، فالعمل العام متحرك و متقلب، فيتطلب المهارات و الكفاءات و الخبرات و المعرفة تلبي ذلك التطور و عدم الثابت في واقع العمل. و هكذا لا تقف حدود المهارات و المعارف المطلوبة، عند حدود معينة، بل يجب تنميتها و تطويرها بشكل متواصل، حتى تستجيب لمتطلبات الحراك. لذا من المهم لتعزيز بناء الثقة ان يعمد الشخص المتفاعل مع مجتمعه، ان يواظب على مواكبة التطورات والمستجدات. هذا يعني القراءة المستمرة، وتلقي الدورات، وتعلم أشياء جديدة باستمرار.
محددات/ معيقات بناء الثقة في الذات:
هناك العديد من المحددات و المعيقات التي تقف ضد نمو ( الثقة في الذات) في افراد مجتمع معين، تلك المعيقات قد تختلف من مجتمع الى آخر، و لكن من ملاحظاتي، أجد ان أكثر المعيقات وضوحاً ما يلي:
• غياب الديمقراطية: ان المجتمعات التي تتعايش مع الدكتاتورية و انتهاكات حقوق الانسان، يكون افرادها أقل ثقة في نفسهم بسبب القمع و الارهاب. و من الثابت في علم النفس التربوي، ان الاطفال الذين يتعرضون للضرب، يكونون أقل ثقة في أنفسهم و يشعرون بالخوف و التردد في حياتهم.
• الثقافة المجتمعية: ان الثقافة التي تتضمن قيم اللامساواة و الاضطهاد، تشكل بيئة مناسبة لاذدواجية الشخصية. في مثل هذه المجتمعات، قد تكون للشخصية قيم و ثقافة متجاوزة المجتمع بصورة إيجابية، بسبب التعليم او انتشار الثقافة، إلا ان الاشخاص في ذلك المجتمع يمتثلون للقيم المجتمعية و التي قد تكون قيم متعارضة مع القيم الانسانية السوية. هذا الامر يسبب الخوف في افراد المجتمع، لا سيما في المجتمعات الأقل نمواً و التي تسود فيها قيم مجتمعية متوارثة من حياة القبائل و الطوائف.
• منهجية الدولة في التخطيط الاجتماعي: قد تتخذ الدولة خطة/ منهج للتطوير الاجتماعي في الدولة، و يقوم ذلك المنهج على أساس فكري/ ديني مقتبس من ما هو سائد في القيم الاجتماعية السائدة. فالتجربة تحدثنا ان السياسات الحكومية في السودان خلال فترة الحكم الدكتاتوري (1989 – 2019) قد عمدت على تنميط المجتمع و تغذيته بالعديد من المفاهيم، التي إتخذت شكل قوانين و سياسات، تعمل على إضطهاد الاشخاص بسبب دياناتهم، او قبائلهم، او سحناتهم او غير ذلك. فكان ذلك سبب مباشر في ضعف الثقة في الذات عند الناس بسبب القهر المؤسسي المنتشر في كافة مؤسسات المجتمع.
خاتمة:
هذه الورقة حاولت ان تستلهم إحتياجات شباب السودان في المرحلة الراهنة و المستقبلية، لاستيعاب افضل الظروف لقيادة بلدهم نحو فضاءات التقدم. و قد تم تأسيس هذه الورقة و تقسيمها بشكل أساسي لتعين ابناءنا و بناتنا، في البيوت و في الاحياء و في مدارسهم و جامعاتهم، لرسم خيارات معقولة لوطنهم، ناتجة من عقل منفتح و نفس واثقة، فيما تفعل و ما تريد الوصول اليه، و متحررة من كل المؤثرات السلبية التي قد يكون مصدرها المجتمع ، او مؤسسات الدولة.
كل ما تم تسطيره في هذه الورقة، هو مجرد افكار خاصة، أظن انها لن تكتمل بالصورة المطلوبة إلا من خلال الحوار حولها مع هذا الجيل الجديد للسودان.
د. سامي عبد الحليم سعيد