أهم الأخبار والمقالات

مخاطر النزاعات العشائرية

إستيفن أمين أرنو

مخاطر النزاعات العشائرية في ظل أهلنة [1] الصراعات و سباق التسلح و انحياز السلطات

تمثل النزاعات الأخيرة بين المجتمعات المحلية في تلس وكسلا وكادقلي إختباراً حقيقياً لامكانية تحقيق سلام مجتمعي مستدام يفضي إلى بناء وطني متماسك. هناك تحذيراً مسستراً من مغبة الانزلاق في مستنقع النزاعات العشائرية والتي تعتبر اكثر تعقيدا خصوصا في دولٍ و مجتمعاتٍ هشة وعرضة للتمزق بسبب الحروب الأهلية و أهلنة (civilianization of conflict) النزاعات السياسية من خلال دفع العشائر في نزاعات ذو طابع سياسي.

و بالرغم من الخطوات والجهود المبذولة من قبل المسؤولين لاحتواء هذه الأحداث العنيفة ، إلا أن مسبباتها لا تزال موضع خلاف مما يتطلب قراءة صحيحة لمسبباتها و لوضع حلولاً جذرية تُحصن من تكرارها. فالتوجيهات الأخيرة من المدعي العام فيما يتعلق بإجراء نزع سلاح شامل خطوة مهمة لكن في غياب خطوات أخرى مماثلة سيصبح هذا الإجراء دون جدوى و ربما ينجح في علاج أعراض العنف العشائري بدون النجاح في استئصال جذوتها.

فبغض النظر عن تضارب مسببات هذه الصراعات بين ما إذا كانت لدوافع التنافس بين العشائر “في هذا المقال تستعمل مفردة قبائل وعشائر وطوائف” أو لدوافع اقتصادية على أساس اختلاف بين مصالح شخصان توسعت فيما بعد ليشمل المصالح العشائرية او لدوافع سياسية لعبت فيها أيادي خفية تسعى لكسب سياسي ؛ هذه الصراعات تظل مهدداً حقيقياً للطمأنينة والأمن الإنساني لها تأثيرها في الأمن القومي و لعمليات البناء القومي للدولة.

و في اطار السعي للدفع ببعض الحلول ارتكز الباحث النرويجي يوهان بروشيه (Johan Brosché, 2016) في تطوير نظريته للنزاع العشائري بدراسته للصراعات في دارفور وكسلا من خلال تحليله للدورالحكومي في الصراعات العشائرية. ويستند افتراضه بأن كلما كان النظام السياسي و القانوني متحيزًا بينما النخب المحلية منقسمة سيساهم هذا الوضع في تفاقم النزاعات الاهلية و يدفع المجتمعات لأخذ القانون في أيديهم لغياب الحوافز المساندة للتقاضي و المقاضاة. بعيداً عن موقفنا بالاتفاق او الاختلاف مع طرح بروشيه فإن بزوغ النزاعات الأهلية بطريقة متكررة تدل على غياب الحوافز لمعالجة القضايا محور النزاع بطرق سلمية؛ دون الركون للعنف و هذا يضع المعالجات المتاحة في دائرة الشك لعدم نجاعتها في استدامة الحلول. و تصبح الأحكام القانونية مفرغة من مضمونها و لا تستوفي أهدافها في المعاقبة و الردع مما يجعل مرتكب الجريمة لا يهاب تكلفة ارتكابه الجريمة. وهذا يشجع الجناة بدلا عن ردعهم و يعطي الضحايا سبباً لعدم جدوى المقاضاة حيث تستشعر هي الأخرى بغياب الإنصاف و ضعف العدالة الجزائية والتي تُعتبر منحازة ضدها.

فعلى المستوى العالمي و خصوصاً في افريقيا تمثل النزاعات الاهلية تحديًا كبيراً للدولة بينما لا تحظى باهتمام كبير في دوائر السياسة على المستويين الوطني والدولي. في الفترة من 1989-2014م احصي المراقبون سبع نزاعات عشائرية بافريقيا، أخطرها بالسودان، نيجيريا و افريقيا الوسطى. هذا الوضع دفع الباحثين في هذا المجال للاشارة لخطورة هذا النوع الناشئ من الصراع و الدفع بأجندته ليصبح جزءاً من مهام بعثات حفظ السلام الدولية.

من بين المهتمين نجد جانا كاروس (Jana Karuse, 2019) التي بنت حجتها بدراسة الآثار الكارثية للصراعات الأهلية بجنوب السودان و دانيال طوربجرسون (Daniel Torbjörnsson, 2016) الذي درس العنف الأهلي بجمهورية الكونغو الديمقراطية و دارفور و اهمهم جميعاً يوهان بروشيه (2016Johan Brosché ) الذي أطر لنظرية النزاع الأهلي في دراسة مستفيضة بكسلا و دارفور و جونقلي قبل انفصال جنوب السودان.

جميعهم اكدوا توسع النزاعات الأهلية عندما تبني ركائزها على الهويات الوصفية مثل العرق أو القبيلة أو العشيرة أو الطائفة الدينية و يمكنها أن تتطور على اساس الفوارق الاقتصادية و البيئية وأنماط سبل كسب العيش مثل النزاعات بين المزارعين والرعاة واعنفها هي النزاعات على السيادة والهيمنة على المحيط المحلي. وتعتبر النزاعات حول الهيمنة و السيطرة من اعنف النزاعات الاهلية ولها اثر كبير بجنوب كردفان و دارفور. ومن المؤسف ان تعزيز الفوارق العشائرية لها أهداف سياسية تؤطر و تخلق أقليات متناثرة لترسيخ الحكم الاستبدادي دون تكلفة.

و كما سرد محمود محمداني في كتابه “المواطن و الرعية” (Citizen and Subject) عن كيف حكم الانجليز مستعمرات واسعة و مأهولة من خلال تكريس القبلية، فان النظام العشائري له تاثير بالغ في تجريد المجتمعات المحلية من الوحدة الاندماجية. فاصبح السكان المحليين قبائل متناحرة و رعايا خاضعين لنظامهم العرفي الذي لا يراعي الحقوق المدنية و جعلوا كل السلطات الحكومية في يد الشيخ/ السلطان او المك الذي اصبح يمثل الحكومة فاصبح قاضياً و حاكماً و جابياً للضرائب و سجان و قائداً لجيش البزينجر (مليشيا في مفهومنا المعاصر) بينما ظل المواطن الاوروبي خاضعاً لنظام الحكم المدني الذي يخضع للمواثيق الدولية مثل حقوق الانسان و السلطات المتفرقة و المتخصصة.

فبالنظر إلى واقعنا المعاش فان النزاعات الاهلية قديمة و لكنها تطورت في الفترات الحديثة. على سبيل المثال تطورت حدة الصراعات الأهلية في فترة الرئيس الأسبق جعفر نميري حيث سلح بعض القبائل لتحمي مراعيها بجنوب السودان و بعدها تطور مفهوم المراحيل في فترة الديمقراطية الثالثة حيث شهد السودان تسليح اهلي غير مسبوق بكردفان و دارفور. و في فترة النظام البائد ارتبط تسليح القبائل بسياسة الأرض المحروقة في جنوب السودان و جبال النوبة و دارفور وأصبح تسليح وتأجيج الصراعات الأهلية جزء من استراتيجية أهلنة (civilianization of conflict) الحرب و جزءا من مكافحة التمرد (counter-insurgency) لتتخذ اشكالاً مختلفة من بينها نفير السلام و السلام من الداخل. في الحقيقة لقد أورث النظام السابق جبهة اجتماعية ملتهبة و هشة و مجتمعات متناحرة و متنافسة ولها إمكانيات ووسائل للعنف اسوة لما تمتلكه الدولة من عتاد و تنظيم عسكري. لقد ارتقت مجموعات الحماية العشائرية (vigilante groups) لتصبح منظومات شبه عسكرية خارج الدولة و القانون. ربما هذا الوضع دفع بالجنرال صلاح عبد الخالق عضو المجلس العسكري الانتقالي للتحذير المتكرر بأن للسودان عدة مجموعات مسلحة خارج نظام الدولة من مليشيات و أخرى و اعتبرها تهديدا أمنياً خطيراً[2]. على الرغم من أنه لم يوضح ويشرح لماذا اصبح الوضع كما هو و من هو المسؤول من تعدد المجموعات التي تهيمن على وسائل العنف.

فنرى أن هذا الوضع الذي تطور تحت بصر الدولة افرز واقعاً خطيراً بدارفور وكردفان حيث السلاح متاح على نطاق واسع ليؤكد انعدام ثقة المواطن في القطاع الأمني. و ما يجعل الجماعات الرعوية تؤمن ثروتها و مراعيها بنفسها إنما هو دليل لعدم ثقتها في الدولة لتوفير الامن لها و لثروتها. وينطبق الأمر على المزارعين و أي جهات أخرى تبحث عن وسائل بديلة لتأمين مصادر كسب عيشها.

بعيدا من شعور بعض القطاعات بعدم الأمان و إدراكهم لغياب الدور الرسمي في حمايتهم تظل مسألة التحيز الحكومي في تعاملها مع العنف والنزاعات الأهلية أكبر عقبة لاستدامة التسويات التقليدية. فـغياب القوانين الرادعة و سياسات مكافحة التمرد الجائرة ادت الى أهلنة الصراعات (civilianization of conflict) بتسليح الحكومة بعض المجتمعات لمجابهة التمرد مما جعل المجموعات المتمردة تستغل الانحياز الحكومي للتعبئة والتجنيد. من الأمور المؤسفة في النزاعات الاهلية و التي غالباً ما تجد تأجيجاً اضافياً بمناطق النزاع في أنها اكتسبت شرعية في بيئة فوضوية. فاصبح الامر سباق للتسلح بين العشائر و القوميات فمن لم يجد دعماً حكوميا لرفد ترسانته لصد اعدائه المحليين اصبح حليفاً للحركات المسلحة و هكذا اصبح العرق و القومية المحلية معياراً للتحالفات بين مليشيات تدور في فلك الحكومة ومجموعات منحازة للمتمردين.

من وجهة نظري انه ليس بالسهل أن يستأصل النزاعات الأهلية الحالية و المستترة دون حل المليشيات العشائرية و الحليفة لمجموعات الكفاح المسلح و القوات المسلحة و سن قوانين رادعة دون تمييز او اعتبارات. في غياب العدالة الناجزة والتساوي أمام القانون لن تثق المجتمعات ولا ترى حافزاً للإمتناع عن أخذ القانون بأيديهم. ينبغي النظر إلى المجتمعات المتورطة في العنف على قدم المساواة من خلال معاقبة من أثاروا العنف.

بمراقبة العنف العشائري في تلس وكادقلي يتضح جلياً حجم التسليح و انه من الصعب أن تمتلك هذه المجتمعات هذا الكم الهائل من الأسلحة الحديثة دون إسناد من جهات رسمية.هذا يجعل الخطط والبرامج الرامية للنزع الشامل للاسلحة خطوة اساسية تستحق الثناء ، ولكن في غياب آليات شاملة أخرى هذه البرامج لا يمكنها أن تستأصل النزاعات ذو الطابع العشائري. فالمعلوم لن هذه النزاعات مرتبطة بنظام الجكم و مفاهيم الدولة العادلة و الغير منحازة علي اطار الفوارق الاجتماعية و الاقتصادية.

لوضع حلولاً مجدية فلا بد للدولة أن تخاطب هذه الصراعات باصلاح نظام الحكم وسن قوانين تنهي السياسات المجحفة السابقة و التي تكرس للانقسام المجتمعي مثل أهلنة النزاعات من خلال التسليح الانتقائي تحت حجج مكافحة التمرد و خلق ما يسمي بالقوات الصديقة. ايضاً هناك ممارسات تؤجج التوترات و لا بد من وقفها مثل وقف أجندة التوسع الإستيطاني في دارفور وجنوب كردفان مع إصلاح شامل لقطاع الأمن الحالي للحصول على سياسة جديدة للدفاع تُبني على احتكار الدولة لوسائل العنف حيث لا يكون هناك مسوغ لرفد المجتمعات بالسلاح خارج المنظومة الأمنية. هذا من جانبه سيحسم إجراءات مجحفة مثل تجريم بعض المجتمعات و اتهامهم بالتمرد بينما تقبل الدولة بتسليح آخرين لأنهم حلفائها.

لدينا قناعة بأنه و في غياب الدولة العادلة التي تراعي المواطنة المتساوية والتي تقوم على تكافؤ الفرص واتاحة الفرص العادلة في استخدام الموارد لن ينجح سحب السلاح في تحقيق السلام المجتمعي. هناك تجارب مماثلة توفر ادلة عن كيف تمكنت مجتمعات منزوعة السلاح من اختلاق وسائل أخرى لإعادة التسلح وبعدها استمر العنف العشائري بطرق اكثر ضراوة لغياب آليات أخرى تسعى لاستئصال العنف[3].

ختاماً نتمني ان تكون اعمال العنف العشائرية التي شهدتها البلاد هذا الشهر يمثل تبصيراً للقائمين بالأمر لدفعهم لرسم سياسات ناجعة و طويلة المدى تحقن الدماء و تجنب البلاد الانزلاغ في آتون العنف العشائري على نطاق اوسع. اعتقد جازماً بمقدرة الحكومة الإنتقالية و شركائها في القطاع الأمني من تجاوز هذا التحدي و الاتفاق علي نهج شامل يضع في الاعتبار جوانب الحكم لاستعادة الدولة العادلة وإنهاء الممارسات الضارة لرتق النسيج المجتمعي لتحقيق سلام مستدام بعيداً عن اهلنة الصراعات و النزاعات. فحينها سيشعر الراعي و المزارع بالأمان و سيكون الأمن مسؤولية متبادلة و بعيدة عن الصراعات القائمة و سيصبح الجميع معتمدون على الدولة لتعزيز مصالحهم دون الركون إلى انحياز الدولة لهم و تسليحهم. هنا سيعم الشعور بعدم تحيز الانظمة وعندها سيودع السودان الاوضاع الامنية المقلقة من عنف عشائري والتي ربما قد تؤدي إلى أزمة وطنية واسعة النطاق.

إستيفن أمين أرنو
[email protected]

————–
[1] مصطلح اهلنة يوازي مصطلح civilianization خلافاً لمصطلح حرب أهلية و نظيرتها بالانجليزيةwar civil
[2] “قابل للإنفجار في أي لحظة” مسؤول سوداني يتحدث بوجود 8 جيوش
[3] دراسة بحثية للكاتب باللغة الإنجليزية تحت الطبع بعنوان ” سباق التسلح العشائري و الحضور الغائب للدولة: نحو مفاهيم جديدة لادارة العنف العشائري بولاية البحيرات في جنوب السودان”

‫2 تعليقات

  1. هناك بون شاسع في فهم الصراع القبلي في السودان بين الناس، اشوف أنه المثقفين من النوبة وابناء دارفور لديهم فهم اعمق حتى من المركز عن حقيقة الصراعات والتفلت الامني في المنطقة فهمهم متقدم جدا،

    شوفوا فهم الزول ده كيف والله عنده فهم ومنطق عميق لشكل الصراع في تلك المناطق.
    https://www.youtube.com/watch?v=gzwk6mE4Ouo

  2. اخي العزيز لا يوجد طعام ولا دواء كيف يستخدم جوعى ومرضى السلاح. مشكلتنا اننا لانتبع العقل .نحتاج لخبراء اهلين وليس مجندين لخدمة أنظمة خارجية لان النظام ساهم في خلق ما تراه او سيكون مصيرنا مثل أوروبا هل نحن اوربين نحن أفارقة شمسنا حارقة وجوعى ومرضى نحمي في اهلنا ونطعمهم ونعالجهم وندفنهم هل أفريقيا أوروبا.

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..