أخبار السودان

الهيكلة ملاذ سوداني للخروج من الأزمات

تبدو مسألة إعادة الهيكلة على علاقة وثيقة بالرغبة في الخروج من مأزق معقد عند البعض، وإبراء الذمة عند آخرين لتجنب تحمل المزيد من التبعات السلبية.
لم تحقق الدوائر التي تتصدر المشهد العام في السودان الكثير من طموحات المواطنين. وبدت التحديات التي تمر بها البلاد أكبر من طاقة القائمين على إدارة المرحلة الانتقالية، وإيجاد حلول مناسبة على أصعدة متباينة، ما أدى إلى ظهور مطالبات عدة للإصلاح تشير في مجملها إلى الاعتراف بوجود خلل، وعدم قدرة على التجاوب مع أحلام التغيير. وعزفت جهات متعددة على وتر إعادة الهيكلة على مستوى اللجان والمؤسسات والأجسام والقوى السياسية.
لقيت مفردات من نوعية، الإصلاح والهيكلة والأولويات والمصفوفة الجديدة، طربا لدى قوى مختلفة، اعتقدت أن اللجوء إليها، بصرف النظر عن الالتزام بمضامينها، وسيلة جيدة لعبور الأزمات المتراكمة، أو أداة لامتصاص غضب الجماهير التي تكاد تفقد الثقة في تجاوز جملة كبيرة من العقبات، ولن ينقذها من الإحباط ويبدد شكوكها في السلطة الانتقالية وما حولها من مصادر فاعلة في الحياة العامة سوى اليقين بأن هناك نية لتصويب الأخطاء.
شعرت شخصيات وتكتلات وأحزاب سياسية أن التعثر الراهن يمكن أن يرتد إلى صدورهم، ويسحب من رصيد المكاسب التي حصلوا عليها طوال الأشهر الماضية ومكانتهم في صدارة السلطة أو بالقرب منها، وكي لا تغرق السفينة وسط الأمواج المتلاطمة لجأ هؤلاء أو من ينوبون عنهم، إلى المطالبة بإعادة الهيكلة، وهو مصطلح مثير بدأ ينتشر بشكل سريع.
يقولون في بلاد عربية كثيرة، إذا أردت أن تدفن قضية اقترح لها لجنة لإعادة الهيكلة، في إشارة إلى أنها تستغرق وقتا طويلا، وتفضي إلى تعويم الخلافات وعدم القدرة على الحسم، وتمنح المطالبين والمستهدفين فرصة لالتقاط الأنفاس. ويزداد الأمر صعوبة في السودان، لأن السلطة الانتقالية التي جرى هندستها منذ حوالي عشرة أشهر أخفقت في إحراز تقدم واحد.
تبدو مسألة إعادة الهيكلة على علاقة وثيقة بالرغبة في الخروج من مأزق معقد عند البعض، وإبراء الذمة عند آخرين لتجنب تحمل المزيد من التبعات السلبية، وعند فريق ثالث تمثل محاولة جادة لتخطي المشكلات قبل أن يجرف طوفان الغضب الجميع، وينجح مؤيدو الثورة المضادة في الوصول إلى هدفهم وإفشال كل مكونات المرحلة الانتقالية.
أسهم حزب الأمة القومي، بزعامة الصادق المهدي، في الترويج للمصطلح عندما رمى حجرا كبيرا في بركة تحالف قوى الحرية والتغيير بعد مرور أسابيع قليلة على تشكيله، حيث طالب مبكرا بالإصلاح وإعادة الهيكلة، ثم رمى حجرا ثانيا في أبريل الماضي من خلال طرحه الخاص بالتوافق على عقد اجتماعي كمرشد لهذه المرحلة، وأعلن الحزب تجميد نشاطه.
دخل حزب الأمة في حوارات ثنائية مع قيادات في التحالف وقريبة منه، وجلس مع مسؤولين كبار في السلطة الانتقالية لإثنائه عن رغبته في التجميد والحفاظ على تماسك الظهير الشعبي، غير أن النتيجة جاءت بما لا تشتهي قوى الحرية والتغيير، ومضى حزب الأمة في طريق التجميد، بهدف الضغط لتنفيذ مطالبه السياسية كاملة.
ظهرت قبل هذه الدعوة وبعدها مبادرات حزبية وشعبية نحت في الاتجاه ذاته، لكن مشكلتها أنها جاءت حذرة ولم تكن صاخبة مثل دعوة الأمة ففقدت أثرها السياسي الملموس، لأن القائمين عليها أرادوا أن تتم عملية إعادة الهيكلة في صمت، وهو ما تجاوبت معه لفظيا قيادات في التحالف دون أن تجرؤ على تحويل المصطلح الفضفاض من مربع الأُمنية إلى مستوى الفعل.
عانى أيضا تجمع المهنيين، وهو الكتلة المؤثرة في قوى الحرية والتغيير، من الإلحاح على إعادة الهيكلة، وهددت قوى بالخروج منه، لأن دوره تراجع بعد سقوط نظام عمر حسن البشير، وبحاجة إلى إصلاح وتدريب سياسي يمكنه من التعامل مع المرحلة الجديدة.
إعادة الهيكلة طوق نجاةإعادة الهيكلة طوق نجاة من العودة إلى نقطة الصفر
عادت الهيكلة إلى الأضواء أخيرا، حيث أكد اجتماع عُقد بين الجبهة الثورية وتجمع المهنيين، الخميس، على ضرورة الإصلاح السياسي والتنظيمي لتحالف الحرية والتغيير، وتشكيل لجنة مشتركة لهذا الغرض، وتمت الدعوة إلى إلغاء المجلس الأعلى للسلام باعتباره جسما غير دستوري، وإنشاء مفوضية السلام ووضع قانونها.
وفرت الصعوبات التي تواجه عملية السلام التي دخلتها السلطة المركزية مع الجبهة الثورية، كجهة ممثلة لحركات سياسية ومسلحة في الهامش والأطراف، فرصة لكثيرين للمطالبة بالتغيير، لأن الحصول على سلام شامل وُضع في مقدمة الوثيقة الدستورية التي رسمت خارطة طريق إدارة المرحلة الانتقالية، وعدم تحققه يُشعرُ البعض بأن هناك خطأ في التفاوض تتحمل مسؤوليته القوى المتفاوضة التي تعتبر الحرية والتغيير مظلتها الرئيسية، ما ضاعف من توجيه السهام إليه والتوصية والمناشدة بالإصلاح.
أدى الفشل الكبير في حل الأزمات، عموما، إلى تصاعد حدة الرفض ضد كل من يتحملون مسؤولية إدارة المرحلة الانتقالية والترتيبات الناجمة عنها، ومن يشاركونهم ماديا ومعنويا أو يقفون خلفهم في التحركات السياسية والأمنية والاقتصادية التي تقدم عليها. والأخطر أن مطالب الإصلاح تجاوزت حدود إعادة الهيكلة في المنظومات ذات الطابع الرسمي والمنبثقة عنها.
قد يكون تحالف الحرية والتغيير حصد النصيب الأكبر في مسار الإصلاح، وطالته انتقادات واسعة بوصفه جهة تلعب دورا محوريا في مكونات السلطة الانتقالية وما حولها، لكن لم يعد هو البناء الوحيد الذي يحتاج إلى ترتيب من الداخل، فسبق أن تردد ذلك حول المؤسسة العسكرية ونظيرتها الشرطية، وكل الأجهزة الأمنية الرسمية والشبيهة لها المتوارثة من النظام السابق.
أشارت حركة تحرير السودان، جناح مني أركو ميناوي، الجمعة، إلى وجود خلل إداري في الجبهة الثورية يستوجب الإصلاح، وتعتزم الحركة اتخاذ ما تراه مناسبا من معالجات حقيقية تضمن حقوق جميع الأطراف، ومنع الجبهة من الانزلاق إلى معارك أيديولوجية.
جاء طرح ميناوي بالتنسيق مع بعض مكونات منضوية تحت لواء الجبهة، متضمنا لمشروع شامل لإصلاحها وتطويرها لتواكب المتغيرات التي حدثت في السودان، وتصبح أكثر انفتاحا وقدرة على الانتقال إلى العمل الجماهيري السلمي والواسع.
عبرت الجبهة الثورية أكثر من مرة عن عدم ارتياحها لما اتخذه تحالف الحرية والتغيير من خطوات، واقترحت في أبريل الماضي تكوين آلية مشتركة منها ومجلسي السيادة والوزراء والحرية والتغيير، لمراجعة المصفوفة التي أصدرتها السلطات بشأن التعامل مع المرحلة الانتقالية، وتعيين الولاة المدنيين، وفق معايير يُتفق عليها في أسرع وقت.
في سياق التغييرات الكبيرة التي تعد لها وزارة الخارجية قريبا، تنوي وزيرة الشؤون الخارجية، أسماء عبدالله، إغلاق 11 سفارة سودانية بالخارج، وإعادة هيكلة أخرى. كما يتعرض وزير الصحة، أكرم التوم، إلى حملة شرسة تحوي اتهامات قاسية جراء تعاطيه الغامض مع أزمة كورونا وصلت حد صدور قرار من مجلس السيادة بإقالته، لم ينفذ، وقد يفضي الموقف إلى إعادة هيكلة وزارته.
وُلدت إدارة المرحلة الانتقالية عبر عملية قيصرية، استلزمت التوصل إلى توافقات بين الجناحين العسكري والمدني، وصاحبتها هواجس كثيرة، فكان من الطبيعي أن تكون بعض مكوناتها مرتبكة، وتنعكس على طريقة التعامل مع الملفات الحيوية، في وقت تكاتفت فيه مجموعة من الأزمات، ووقعت مفاجآت لم تكن في الحسبان غيّرت مسارات قضايا متعددة.
إذا كانت التعقيدات مفهومة في بلد مثقل بميراث كبير من المشكلات المتجذرة مثل السودان، فإنه ليس مفهوما أن يكون الفشل عنصرا مشتركا على جميع المستويات تقريبا، بالتالي فإعادة الهيكلة التي تحولت إلى طوق نجاة لن تصبح كافية أو ملاذا تلجأ إليه بعض القوى ما لم تصطحب معها تخليا عن الأهداف الشخصية والمناطقية لصالح نظيرتها الوطنية

العرب اللندنية

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..