
نهضت الهند بالديمقراطية والروءية والمهمة الواضحتين في دستور مُطبَّق. رحم الله غاندي ونهرو وأنديرا ومن خلفهم.
نهضت ماليزيا بالروءية والمهمة الواضحتين وبالدستور المطبق وديمقراطية محترمة اطال الله في عمر مهاتير وخلفه الملتزم.
نهضت جنوب افريقيا وأنهت الحقبة العنصرية المظلمة واستقر حال اَهلها بديمقراطية مقدرة، استقال خلالها رئيسان عن الحكم لتمكين الدستور وحكم القانون.
ونهضت بلدان عديدة في شرق اسيا وأمريكا الجنوبية وإفريقيا موءخراً، حيث تسير عدة دول في طريق الانعتاق من التخلف ودوامة الدكتاتوريات التي أطبقت علي القارة وجثمت علي صدرها حقباً طويلة.
نتسائل الان في هذا المنعطف الخطير الذي يمر به السودان، هل تنهض بلادنا اخيراً، بعد ثورة ديسمبر التي أبهرت العالم بسلميتها وشعاراتهاالعميقة الراقية: حرية سلام وعدالة؟ هل سيتحقق الهدف الذي رددته جماهير الثورة: “حنبنيه البنحلم بيه يوماتي، وطن شامخ ديمقراطي” ؟
بعد خمسة وستين عاماً منذ الاستقلال، ما زلنا نقبع في برك التخلف ويعصر الجوع بُطُون اطفالنا وينحر المرض اجساد الملايين من اهلنا الذين يعيشون الكفاف. وخير دليل علي هواننا وضعفنا، المعاناة التي نعيشها جميعنا الان، وتبعات كارثة كرونا التي عرَّت مهزلة موءسساتنا الصحية المنهارة ومقدراتنا الاقتصادية الهشة، التي ورثناها من النظام البائد الفاسد وما سبقه من أنظمة فاشلة.
طرقنا غير معبدة، ومعظم بيوتنا من القش والطين، معرضة للاختفاء جراء الأمطار والفيضانات؛ ولا حديث عن ترف الصرف الصحي.
نموت لأتفه الأسباب، جراء أمراض دخلت المتاحف في بلدان نالت استقلالها بعدنا!
ظللنا نعيش ستة عقود ونيف بين دوامة حكم الأحزاب الطاءفية منعدمة الروءية خالية الوفاض من المهمة بطبيعة الحال، ونير الدكتاتوريات العسكرية المدمرة والملثمة زيفاً بثياب الدين في مهزلة “الانقاذ” (الاخوان المسلمين) الاخيرة، التي عاثت في بلادنا فساداًوتخريباً وظلماً غير مسبوق، لثلاثة عقود.
والآن ، بعد هذة الثورة العظيمة هلا تلاحم ثوارنا وقرروا بلورة الروءية والمهمة اللازمتين للانعتاق من هذا الكابوس الذي لازمنا منذ الاستقلال؟ هلا أفرزت هذة الجماهير الراقية المبصرة ، التي رفعت شعار “الحرية والسلام والعدالة”، هذا الشعار الذي يصلح كقاعدة لدستور كامل الدسم، هلا أفرزت هذة الجماهير قيادتها المؤهلة وبرامجها اللازمة للنهضة بهذا البلد الذي يملك الثروة الحيوانية الهائلة والثروة المعدنية الضخمة والأنهار العديدة والأراضي الشاسعة الصالحة للزراعة والثروة البشرية العظيمة والتنوع الثقافي المبهر؟
هل يتمكن هذا الشعب من هزيمة “الدوامة” (ديمقراطية، انقلاب عسكري، ديمقراطية، انقلاب عسكري….) التي ألمت به منذ الاستقلال وأقعدته من النهوض؟
بعد هذة الثورة السلمية ذات الشعارات الثلاثة (قاعدة الدستور) يبدو ان ذلك ليس ببعيد او علي الأقل ليس بالمستحيل، اذا قدر للشعب السوداني ان يحزم أمره ويبلور روءيته ومهمته ( وسيلته السياسية) في شكل تحالف ناضج ومتماسك للقوي الحقيقية التي قادت تلك الثورة السلمية. القوي التي توجت نضالها بهزيمة الدكتاتوريات البغيضة ثلاث مرات (١٩٦٤، ١٩٨٥، ٢٠١٩).
اذا كانت الروءية ملخصة في ذلك الشعار العميق الثاقب (حرية، سلام وعدالة)، فالوسيلة لتحقيقها، هي بالضرورة:-
– تحالف القوي الحقيقية التي قادت ذلك النضال الصبور والواعي وتوافقها علي برنامج بأولويات توءسس لنظام ديمقراطي، يعيش فيه المواطنون بأمن وسلام وعدالة اجتماعية وحكم القانون الذي يتساوي في ظله الجميع. ويمكن تقسيم هذة القوي الي ثلاثة مجموعات علي النحو التالي:-”
أولاً، وفي المقدمة “لجان المقاومة” الباسلة والتي تثبت كل يوم جدارتها باحترام الشعب السوداني علي امتداد البلاد. فهي خط الدفاع الاول للثورة. وهي التي حسمت امر إدارة الفترة الانتقالية بقيادة مدنية. والان هي التي تتصدي باخلاص وجدية لتقديم الخدمات للمواطنين في كل أنحاء البلاد، تحت هذة الظروف الصعبة.
والفرصة التي يجب الا تضيع، ان تنتظم هذة اللجان في كيان سياسي (حزب، تجمع، كتلة …) علي أساس توافق يهدف الي تحقيق برنامج مستخلص من شعارات الثورة الثلاثة. وتوافق علي مصفوفه أهداف استراتيجية للتنمية حسب الروءية التي يتم اعتمادها من قبل اللجان علي مستوي القطر،
٢- الفرصة الثانية، والتي لا تنفي او تتناقض مع تنظيم لجان المقاومة (اذا توفرت الإرادة السياسية)، ان تنتظم “قحت” بكل مكوناتها الموقعة علي ميثاقها (ما عدا الاحزاب التي انشقت منها)، ولجان المقاومة (بعد تأطير تنظيمها وتوافقها الذي ترتضيه)؛ في “تحالف عريض”، علي أساس ميثاق يهدف الي استكمال استحقاقات ثورة ديسمبر المنبثقة من شعاراتها، الحرية والسلام والعدالة ومن اجل ترسيخ النظام الديمقراطي وفتح الطريق للاستقرار والتنمية المستدامة.
من البديهي ان الفرصة الثانية تبدو اكثر ملائمة، كما اثبتت تجربة التحالف العريض اثناء وبعد ثورة ديسمبر العظيمة، (رغم عثراته ونواقصه).
هذا الخيار بلا شك يتطلب ارادةً سياسية جادة وبعد نظر، خاصة من قبل المكونات السياسية الحزبية وحركات الكفاح المسلح في قحت. كما انه يتطلب، حواراً مجتمعياً معمقاً وجهداً كبيراً لكي يتبلور ويتحقق في ارض الواقع .
اذا تحقق الخيار الثاني – التحالف العريض – حتي لو لفترة محددة،(الدورة البرلمانية الاولي مثلاً)، فمن الموءكد انه سيقفل الطريق امام الاحزاب الطائفية والقوي الظلامية الاسلاموية،
ومغامرات الانقلابات العسكرية التي سدت طريق النماء والنهوض علي الشعب.
ومن البديهي ان هذا التحالف العريض لا ولن يلغي إستقلالية الكيانات المكونة له، وفي نفس الوقت لا ينفي أهمية ان تنظم وتوءطر لجان المقاومة نفسها في تجمع ، حزب، او اي كيان ذو إستقلالية اعتبارية.
لا شك انه في حالة عدم اغتنام الفرصتين، أعلاه، ستدخل القوي التي قادت او شاركت في ثورة ديسمبر ، الانتخابات القادمة مشتتة ( اكثر من ١٥٠ كيان)! ومتفرقة مما يفتح الطريق للأحزاب الطائفية وحلفاءها الإسلامويين الظلاميين، (الذين قد بداوا بالفعل في تجميع قواهم ) لارجاع البلاد الي الدوامة (الحلقة الشريرة) مرة اخري لكي تظل البلاد مقعدة، غير قادرة علي النهوض والنماء. وتحصل الندامة حيث لا ينفع الندم.
خلاصة القول:
ان فرصة السودان للنهوض، تتطلب وحدة القوي التي قادت وشاركت في ثورته السلمية غير المسبوقة. بخلاف ذلك سوف تتشتت جهودها لصالح الذين اقعدوا بالسودان من النهوض والنماء.
هذة الحقيقة يؤكدها السعي الحثيث والجهود التي يبذلها حالياً، زعيم حزب الامةً لإعادة فلول النظام البائد(بعد ان ينتقدوا أنفسهم !!) استعداداً للانقضاض علي الحكومة الانتقالية ومكتسبات ثورة ديسمبر …الخ مما يجري في الساحة السياسية هذة الأيام من اثارة الفتن والنعرات القبلية في العديد من أقاليم البلاد.
حتماً، لا سبيل لنهوض السودان الا بتوحيد القوي الثورية والوطنية التي توءمن بالتغيير عبر إنجاز استحقاقات ثورة ديسمبر المجيدة. وإلا فالطوفان!!
اخيراً، وفي حالة عدم التوافق علي التحالف العريض الذي أشرنا اليه والذي يدور في خلد، (ويتمناه) العديد من أبناء وبنات الوطن الذين يتوقون الي نهوض السودان، في هذة الحالة (لا قدر الله). نامل: (علي الأقل)، ان تنظم لجان المقاومة الباسلة، صفوفها وتوحد كلمتها علي المستوي القومي وتوءطر أهدافها وبرامجها في كيان سياسي منظم (حزب، تجمع، كتلة…) والذي سيكون له بلا شك، شان عظيم، وسوف يحظي بالسند من معظم القوي الوطنية المخلصة، ليقف مارداً يرفع شعلة نهضة السودان.
اللهم الهم لجان المقاومة الباسلة وثوارنا وكياناتهم السياسية، الركون الي رص صفوفهم وتوحيد كلمتهم وشحذ هممهم للمضي قدما من اجل النهوض الذي يستحقه سوداننا الحبيب، بعد هذا العناء والتضحيات الجسام علي مدي ٦٥ سنة.
– (كسرة اخونا جبرة):- أين المصفوفة؟ ، أين محاكمة رموز الانقاذ؟ أين تنفيذ حل الموءتمر الوطني؟ أين تحقيق فُض الاعتصام؟ أين أنتم يا قحت ويا حكومة وَيَا مجلس سيادة؟ هل ذهبتم في اجازة مفتوحة؟ لنا عودة!
ابقوا في منازلكم صبركم وقواكم الله.
وكل عام وأنتم بخير.
د. الحسن النذير
[email protected]