
كنت دائما أبيت ليلا وأصحو نهارا تحت سؤال ملحاح : متى تعود لوحات ميدان الإعتصام التي داستها سنابك تتار القرن الواحد والعشرين في ليل نحس مستمر ؟ تلك اللوحات التي سجلت وأرخت للحراك الثوري منذ البداية وحتى تلك الليلة التي من المفترض أن تكون واحدة من العشر الأواخر المباركات في الشهر الفضيل .. ولكن هل مثل هذه المصطلحات والمعاني لها أي وجود في منطق وعقل من نفذ الهجوم .. لقد ران على قلوبهم المتعطشة للباطل ما طفقوا يعملون ظنا منهم أن في مقدورهم محوها الأثر من الذاكرة إلى الأبد .. وما دروا أن تلك الأقانيم العلويةالمقدمة قربانا في سبيل الحق والجمال والحرية والسلام والعدل تستعصي على الهلاك لأنها موجودة في الإحساس والوجدان والتفكير .. ومن حسن الحظ أني أحتفظ بنسخة منها والتي التقطتها كاميرا ”الواشنطن بوست“ حين شعر مندوب الصحيفة بقيمتها الفنية فقام بتسجيل وتوثيق كل حركة ولفتة وخلجة حشدتها تلك الأعمال التي تعكس بيئات وثقافات البلاد المتنوعة ..
والآن تمر الذكري السنوية لفض الاعتصام وتوشك اللجنة المنوط بها التحقيق في الحادث أن تصدر توصياتها ..
وإذا ما فشلت اللجنة لأي سبب من كشف المسؤولين عن الجريمة فإن ذلك قد يعني أن هناك عوامل تؤثر في سير اعمال اللجنة وتضع العراقيل في طريقها .. ولا بد للجميع أن يعرف أنه لا يمكن التقدم خطوة بالبلد إلي الأمام ما لم يتم حل مشكلة فض الاعتصام والشهداء الذين اغتيلوا بدم بارد والتحقيق في من تم اغتصابهم ومن تمت مواجتهم بفاحش القول ومن تم إلقاؤهم مكتوفي الأيدي في النيل والذين ما زالوا في عداد المفقودين .. هذه قضايا مفصلية يجب معالجتها وإلا فإننا يا بدر لا رحنا ولا جينا.. غير أن ثقتي في هذا الجيل الواعي لا تهتز وقد ظهر ذلك جليا في أعماله ورسوماته الإبداعية الجديدة التي تجسد في جرأة وقائع الأحداث في سياق وتسلسل يكاد فيه المريب أن يقول خذوني ..
والمتمعن في هذه المجموعة الجديدة من الأعمال لابد أن يلاحظ منذ الوهلة الأولى أنها تعكس قوة الإرادة ومضاء العزيمة لإبقاء جذوة الثورة مشتعلة .. والمدهش أنهم يواصلون بهذه الروح الجديدة انتاج هذه الأعمال الجميلة في وسط يعج بمختلف وسائل الهدم والخراب .. لا عجب أن تعود هذه الأعمال الفنية البازخة للحياة لأنها هي أصلا لم تمت كفكرة في الأذهان .. لقد نهضت تلك الأعمال الفنية من جديد مثلما ينهض طائر الفينيق الأسطوري من وسط الرماد والحريق .. إنه من دواعي الفرح والسعادة والبشرى السارة أن تعود هذه اللوحات مخضلة بدم فكر وشعور قلوب خضر تنشر بإرادة قوية قيم الحب والخير والجمال في ربوع بلد عانى ما يكفي من مظاهر القبح والبؤس والدمار ..

هؤلاء الشباب ينعشون الروح في أي مجال يعالجونه كأنهم هم الذين خاطبهم نزار قباني:
يا مطر الربيع يا سنابل الآمال أنتم بذور الخصب في حياتنا العقيمة وأنتم الجيل الذي سيهزم الهزيمة
أو حلم بهم التجاني يوسف بشير عندما هتف:
قم يا طرير الشباب غنِِ ِ لـنا غنِِ ِ
يا حلو يا مستطاب أنشــودة الجن
وأقطف لى الأعناب وأمـلأ بها دنى
من عبقري الرباب أو حرمِ ِ الفن ِ
صِح فى الرُبى والوهاد واسترقص البيدا
وأسكب على كل نـاد ما يسحر الغيدا
وفـجر الاعـواد رجعـاً وترديدا
حتى ترى فى البلاد من فرحةٍ عيدا
د. الفاتح إبراهيم – واشنطن
[email protected]
ليكن (صقر الجديان) بدلا عن (الفينيق) … حتى لا ننتظر اسطورة لن تتحقق …!!