مقالات سياسية

جريمة فض الاعتصام ومسار لجنة نبيل أديب

بعد عام من مجزرة القيادة يوم ٢٩ رمضان الموافق ٣ يونيو٢٠١٩ والجرائم الجسيمة ضد المحتجين المدنيين في أرجاء مختلفة من البلاد التي أودت بحياة المئات من المواطنين, مازال البحث عن العدالة المفقودة مستمر ومازال الكثير من الاسئلة حائرة و عالقة تنتظر اجوبة من اللجنة المستقلة التي كونها السيد رئيس الوزراء عبدالله حمدوك برئاسة المحامي المخضرم نبيل عبدالله أديب.

أولا:-     مجزرة التاسع والعشرين من رمضان ومحاولات الإفلات من العقاب:

 جاءت المجزرة في خواتيم شهر رمضان المعظم وفي جنح ليل كئيب شهدد مفاوضات صعبة بين المجلس العسكري الحاكم آنذاك وقوي الحرية والتغيير التي قادت الثورة الشعبية التي أطاحت بالرئيس المخلوع عمر البشير يوم ١١ أبريل ٢٠١٩.  دارت المفاوضات حول تفاصيل اقتسام السلطة وانتهت, دون نجاح , قبل ساعة من من جريمة فض الاعتصام وبضع ساعات من إعلان رئيس المجلس الانتقالي العسكري اعتزام العسكريون للانفراد بالسلطة لحين تسليمها “ليد امينة”. قتل خلال ساعات قليلة أكثر من مئة معتصم بالاضافة لمئات الجرحى والمفقودين وضحايا انتهاكات اخرى بما فيه الاغتصاب.  ولولا الضغوطات القوية من الاتحاد الافريقي والترويكا والمظاهرات الشعبية المليونية التي عمت البلاد يوم ٣٠ يونيو ٢٠١٩ لما تراجع العسكريون عن قرارهم بالانفراد بالسلطة و رضخوا لإرادة الشعب المطالب بسلطة مدنية أو على الأقل المشاركة الفاعلة في السلطة. وبالفعل وبسبب هذه الضغوطات تم التوصل للوثيقة الدستورية للمرحلة الانتقالية  في أغسطس ٢٠١٩التي أفضت الى تأسيس السلطة الانتقالية مشاركة بين العسكريين والمدنيين بعد تكوين حكومة رئيس الوزراء عبدالله حمدوك في سبتمبر ٢٠١٩.

بقدر اعتزاز الشعب السوداني بالدور البطولي  الذي قام به شهداء الثورة وإصراره على السير في درب النضال من أجل  إحداث تغيير جذري,  الا ان الالم ظل يعتصر السودانيين وظل هاجس تحقيق العدالة الذي  تأخر كثيرا يسكنهم.  يستعيد الشعب السوداني في هذا الشهر ذكرى فاجعة جريمة فض الاعتصام في محيط القيادة بواسطة عدد كبير  من المسلحين من القوات النظامية وربما قوات اخري مستخدمين عدد ضخم من السيارات التي يتراوح عددها  بين خمسة الى عشرة آلاف مركبة.   ومع مرور كل يوم طوال أيام  العام المنصرم  الرتيبة  تستعيد ذاكرة كل مواطن  اقوال الشهداء الخالدة وتتردد في دواخلهم  اناشيد الثورة الهادرة: “الدم قصادوا الدم… ما بنقبل الدية”.. و”دم الشهيد ماراح… لابسنو نحن وشاح”. وظل تحقيق العدالة وضمان عدم إفلات المجرمين الذين سفكوا دماء اشرف ابناء السودان  من أولويات الثورة العاجلة.. ولذا كان وما زال اجراء تحقيق عادل وشفاف في الجرائم الجسيمة التي أودت بحياتهم مطلبا ملحا

في البدء حاول المجلس العسكري الحاكم آنذاك (ابريل ٢٠١٩ الى سبتمبر ٢٠١٩), وبسبب الضغوط الشعبية والخارجية المطالبة مطالب الشعب السوداني  بإجراء تحقيق مستقل وعادل,الالتفاف على هذه المطالب بفتح تحقيقات زائفة لتغطية والتستر على المجرمين, تارة عبر تحقيقات مفوضية حقوق الإنسان الحكومية  التي صرحت رئيستها  حورية إسماعيل في يونيو٢٠١٩،  قائلة  “وفق سجلات الشرطة، فإن٨٥ شخصا قتلوا و٢٣٩ جرحى في الفترة من الثالث من يونيو وحتى ١٢ منه”….وتارة أخرى عبر لجنة التحقيق التي كونها   النائب العام الأسبق في ٢٧ يوليو ٢٠١٩ برئاسة فتح الرحمن سعيد والتي خلصت إلى القول بأن فض الاعتصام بين الثالث والعاشر من يونيو  “قد أسفر عن قتل ٨٧ شخصًا وإصابة ١٦٨ آخرين، ولم يتم ارتكاب أي اغتصاب ولم تُحرق خيمة. كما أضاف بأنه تم اتخاذ إجراءات قانونية ضد جرائم ضد الانسانية ضد ثمانية من كبار ضباط الأمن لم تذكر أسماءهم”.

وبعد التوصل لاتفاق تقاسم السلطة بين قوى الحرية والتغيير والمجلس العسكري وفقا للوثيقة الدستورية التي تم التوقيع عليها يوم١٧ أغسطس , تجددت  المطالبة بتكوين لجنة مستقلة للتحقيق في الجرائم التي ارتكبها نظام ما بعد البشير وفقا للفقرة ١٨ من الوثيقة الدستورية التي تنص على أن يتم, بعد تكوين الحكومة، “تشكل لجنة تحقيق وطنية مستقلة لإجراء تحقيق شفاف ودقيق في الأحداث الدامية والمؤسفة والجرائم التي ارتكبت في الثالث من يونيو الماضي وغيرها من الأحداث والوقائع التي حدثت فيها إنتهاكات لحقوق وكرامة المواطنين مدنيين كانوا أم عسكريين. ويجوز للجنة أن تطلب أي دعم أفريقي إذا اقتضت الحاجة ذلك. وكان الطرفان اتفقا على تشكيل لجنة افريقية للتحقيق في الانتهاكات التي وقعت أثناء فض الإعتصام”. وبالفعل بعد شهر من تكوين الحكومة الانتقالية, قام رئيس الوزراء  عبد الله حمدوك في يوم  ٢٠ أكتوبر ٢٠١٩ بتشكيل لجنة مستقلة برئاسة الاستاذ نبيل اديب المحامي ” للتحقيق في فض الاعتصام أمام مقر قيادة الجيش بالخرطوم، 3 يونيو/ حزيران الماضي وفي “الأحداث والوقائع التي تمت فيها انتهاكات لحقوق وكرامة المواطنين بمحيط القيادة العامة للقوات المسلحة والولايات”. وضمت اللجنة بالاضافة لرئيسها ستة أعضاء منهم ممثل لكل من الشرطة والقوات المسلحة بالاضافة لمستشار من النيابة العامة ومحامين ولكنها لم تضم  نساء أو ممثل عن اهل الضحايا.

جاء تكوين اللجنة بصفة عامة  متسقا مع ممارسات وطنية ودولية متعلقة بتشكيل لجان التحقيق المعنية بمنع الافلات  مـن العقـاب عـن طريـق تعزيــز المساءلة عن  الانتهاكات الجسيمة التي ترتكب ضد المواطنين.  منذ استقلال السودان شكلت عدة لجان تحقيق وفقا وفقاً لقانون لجان التحقيق لسنة ا ١٩٥٤المعدل.  كما قامت الأمم المتحدة والاتحاد الافريقي  ايضا بتشكيل عدة لجان وفرت أدب قانوني فيما يتعلق بالتحقيق والتقصي في الجرائم الجسيمة ضد المدنيين وضوابطهما.

جاء تكوين لجنة الاستاذ نبيل اديب كتعبير عن مطالب الشعب السوداني لتحقيق العدالة الموؤدة وانصاف شهداء الثورة بناء على الوثيقة الدستورية وقانون ١٩٥٤ ولكن تمتعت اللجنة بسلطات اضافية لا توجد فيه ١٩٥٤ تتمثل في سلطات النيابة العامة  وسلطات من قانون الإجراءات الجنائية. وبذلك صارت هذه اللجنة, علي خلاف اللجان السابقة,  لجنة شبه قضائية تتمتع بصلاحيات النائب العام  وتقوم باحالة تشتبه بمسؤوليتهم الجنائية في فض الاعتصام إلى المحكمة عبر النائب العام.  رغم السلطات والصلاحيات اللازمة للجنة, رأي  البعض أن تكوين اللجنة بقرار من رئيس الوزراء لا يجعلها في وضعية محصنة من تدخلات السلطتين التنفيذية والسيادية ولذا كان من الأفضل أن تتشكل بقانون من السلطة التشريعية التي تحتكرها الآن السلطة التنفيذية ومجلس القيادة معا لحين تشكيل المجلس التشريعي وفقا الوثيقة الدستورية. بالرغم من أن  ألاستاذ نبيل أديب المحامي المشهود له بالنزاهة والمهنية هو رئيس اللجنة, إلا أن مشاركة قانونيين ممثلين للجيش والشرطة مع غياب محامي من اختيار أهل الضحايا كانت أولى الانتقادات التي وجهت للجنة. هذا بالإضافة لبعض الانتقادات المتعلقة بالولاية الزمانية الولاية المكانية مهامها وأن كل عضويتها من الرجال.

ثانيا :-    طبيعة التحقيقات ومهام وتحديات لجنة أديب:

مهمة اللجنة المستقلة وفقا للقرار المنشئ لها  تتمثل في التحقيق في الانتهاكات التي جرت في الثالث من يونيو٢٠١٩ والأحداث والوقائع التي تمت فيها انتهاكات لحقوق وكرامة المواطنين بمحيط القيادة العامة للقوات المسلحة والولايات وذلك  من خلال:-

معرفة ما حدث إثبـات الوقائع فيما يتصل بأحداث ٣ يونيو٢٠١٩ وتقييم هذه الوقائع على  ضوء القوانين  الواجبة التطبيق.

  1. التوصل إلى استنتاجات بشأن وجود انتهاكات و تحديد الأشخاص المسؤولين عن فض الاعتصام بالتحريض أو المشاركة أو الاتفاق الجنائي أو ارتكاب أي انتهاكات أخرى.
  2. تحديد وحصر عدد الضحايا من الشهداء والمصابين والجرحى والمفقودين.
  3.  قيمة الخسائر المالية والجهات والأشخاص المتضررين من ذلك

بمبررات قد تكون موضوعية ولكنها لم تقنع شريحة من القانونيين, التزم الأستاذ أديب  السرية في إدارة أعمال اللجنة ليس فقط فيما يتعلق بالأعمال التي تقتضي طبيعتها في مثل هذه المهام السرية مثل المعلومات المتعلقة بسرية الشهود والبيان وغيرها بل ايضا في الاعمال المتعلقة بمنهجية عمل اللجنة وسير أعمالها.  ولذا لم يكن من الممكن الحصول على معلومات هامة حول منهجية وأسلوب عملها بالاضافة  لبعض المسائل الهامة الأخرى التي تتضمن:-

  1. تحديد الولاية الجغرافية للجنة بدقة والتي تشمل حسب القرار المنشأ لها  محيط القيادة العامة للقوات المسلحة والولايات. وتعتبر هذه النقطة مهمة لأن محيط القيادة تشمل منطقة كولومبيا التي تدور حول فض الاعتصام فيها نقاشات خلافية بمقاربات مختلفة ولكن السيد نبيل صرح بأنها لا تشمل ولاية اللجنة! كما لا توجد مؤشرات تدل علي أن ولاية اللجنة قد غطت عمليات فض الاعتصام في عدد من الولايات بالتزامن مع فض الاعتصام في محيط القيادة العامة في الخرطوم.
  2. تحديد الولايـة الزمنية للجنة : أي الاختصاص الزمني ونعني بذلك الفترة الزمنية التي تشملها الولاية وطريقة التعامل مع الأحداث التاريخية المرتبطة بموضوع التحقيق. وهذه النقطة أيضا مهمة لان اللجنة التي كونها النائب العام الأسبق برئاسة فتح الرحمن سعيد والتحقيقات التي قامت بها رئيسة  مفوضية حقوق الانسان حددتا إطارين زمنين مختلفين كما ذكرنا اعلاه ولذا التحديد الدقيق للولاية الزمانية مهم خاصة إذا ما علمنا بأن عدد الضحايا الذين بلغ ٢٦٨ حسب بعض المصادر استشهدوا قبيل وبعيد ٣ يونيو بفترات مختلفة.
  3. الاختصـاص الشخصي : من المؤكد بأن كل الأشخاص المشتبه بهم في ارتكاب جنايات سوف يشملهم التحقيق بناء على مبدأ المسؤولية الجنائية الفردية الراسخ سواء تعلق الامر بالجرائم ضد الافراد او الممتلكات كما يشمل التحقيق الضحايا والشهود ولكن مـن هـم الذيـن سـيجري التحـري عـن أعاملهـم؟ ومـا هـي الكيانات أو الفئات المعنية بالتحقيـق؟. .
  4. تحديد الولايــة الموضوعية أو الاختصاص الموضوعي.  مــا هــي القضايـا التـي تشملها الولايـة(القتل, التعذيب, الاختفاء القسري, العنف الجنسي, تدمير الممتلكات والنهب)؟ هل هناك قضايا مستبعدة مثل قضية المفقودين؟  هل هناك أولوية معينة لانتهاكات محددة  مثل الجرائم الجسيمة وما هي عتبة الانتهاكات؟ وما هي المعايير التي سوف تطبقها اللجنة؟
  5. الإطـار القانوني الواجب التطبيق: وهـو تحليـل الإطار القانوني الواجب التطبيق و الالتزامات بموجب  القانون السوداني أو القانون الـدولي لحقـوق الإنسـان و القانـون الدولي الإنساني أو كل هذه القوانين او بعض منها. هذه النقطة مهمة لسببين الاول هو ان كل القوانين الدولية التي صادق عليها السودان أصبحت بحكم المادة ٢٧ (٣) من  وثيقة الحقوق جزء من القانون السودان وفق اوالية التضمين incorporation of international law into a domestic law حيث تعتبر كل الحقوق  والحريات المضمنة في الاتفاقيات والعهود والمواثيق الدولية لحقوق الإنسان والمصادق عليها من قبل جمهورية السودان جزء لا يتجزأ من هذه الوثيقة
  6. وثانيا لأن بعض الموضوعات مثل الاغتصاب هي اشكالية في القانون الجنائي السوداني لعام  (المعدل٢٠٠٩)

ثالثا:-     بطء عملية التحقيق والمشاكل المتعلقة بالتأجيل:

بسبب عدم تمكن اللجنة من إنجاز مهامها في الشهور الثلاث الأولى, التي انتهت يوم ٢٢ مارس مارس,تم تمديد مدتها  ثلاث شهور أخرى وفقا للمادة١٤ من قرار تكوين اللجنة التي تنص على “تكون مدة عمل اللجنة ثلاثة أشهر ويجوز تمديدها بناء على توصيتها لمدة مماثلة”. نتيجة لذلك وعدم معرفة أسر الضحايا والمواطنين لكيفة عمل اللجنة وسير اعمالها تعالت اصوات عديدة احتجاجا على التأجيل.

صحيح ان كثير من اللجان الدولية والوطنية قامت بتحقيقات كبرى في فترة ثلاثة شهور أو أقل. لجنة الأمم المتحدة للتحقيق في الجرائم الدولية في دارفور لعام ٢٠٠٤ برئاسة  أنطونيو كاسيسيه وعضوية أربعة خبراء آخرين, استطاعت أن تضطلع بمهامها في خلال الثلاثة أشهر المحددة لها وقدمت تقرير مفصل في اكثر من٧٠٠ صفحة والذي أفضى إلى إحالة الحالة في دارفور للمحكمة الجنائية الدولية وفقا لقرار مجلس الأمن رقم ١٥٩٣.  كما أن بعض اللجان الوطنية مثل لجنة رئيس القضاء الأسبق  دفع الحاج يوسف التي تشكلت في مايو ٢٠٠٤ بقرار جمهوري وفقا لقانون ١٩٥٤ قامت بتحقيقات في قضايا انتهاكات جسيمة في دارفور , في فترات أقل. مع الأخذ بعين الاعتبار هذه المعطيات يجب عدم التسرع في الحكم على الفترة التي تحتاجها هذه اللجنة لإنجاز مهامها لأسباب عديدة منها:-

  1. إن طبيعة لجنة الأستاذ أدبيب تختلف عن لجان التحقيق الوطنية والإقليمية والدولية التي قامت بتحقيقات حول انتهاكات جسيمة في السودان. لجان التحقيق الدولية التي تشكلها الأمم المتحدة يقتصر دورها في الغالب على رفع “توصيات” حول استنتاجاتها عما حول انتهاكات القانون الدولي الإنساني وقانون حقوق الإنسان “واقتراح” الوسائل الكفيلة بمحاسبة المتهمين في ارتكاب الجرائم. و في نفس الاتجاه سارت لجنة الاتحاد الأفريقي العليا حول دارفور بقيادة رئيس جنوب افريقيا السابق ثابو امبيكي التي تشكلت عام٢٠٠٨ ورفعت تقريرها بعد ستة أشهر وقدمت “توصيات” حول المساءلة ومنع الإفلات من العقاب من ناحية والمصالحة وجبر الضرر من ناحية أخرى.  المهام التي قامت بها لجان التحقيق التي تشكلت وفقا لقانون١٩٥٤ ايضا لا تخرج عن هذا السياق حيث اقتصر دورها ايضا علي رفع “توصيات” لاتخاذ إجراءات بواسطة الأجهزة السياسية والعدلية المعنية. قانون ١٩٥٤ لا يمنح لجان التحقيق سلطات شبه قضائية أو سلطات نيابة عامة وفقا للمادة 12 منه ١٩٥٤ التي تنص بأنه ” لا يجوز قبول أي أقوال أدلى بها أثناء أي تحقيق يجري بموجب أحكام هذا القانون,كبينة امام اية محكمة,سواء كانت مدنية او جنائية”.

على خلاف التجارب المشار اليها اعلاه, تختص  لجنة الاستاذ أديب ” بممارسة اختصاص النيابة في التحقيق والتحري وإجراءات وتدابير الضبط وتوجيه التهمة والإحالة للمحاكمة وفق تفويض النائب العام” وهي سلطات واسعة  تسمح للجنة باجراء تحريات واخذ اعترافات قضائية  ولذا تسعى اللجنة لا الي تقصي الحقائق حول جرائم القيادة العامة والولايات التي ارتكبت يوم ٣٠ يونيو ورفع توصيات, بل هي ايضا مخولة بإجراء  تحقيقات وتحريات للتوصل إلى قرينة إثبات أعلي ( the highest standard of proof that must be met in any trial) لتوجيه اتهامات للمسؤولين عن انتهاك القانون بهدف تقديمهم للقضاء بواسطة النائب العام. وهذه مهمة صعبة تتطلب درجة عالية من التحري والدقة  اذا ما ارادت اللجنة النجاح في ادانة المتهمين أمام القضاء الذي فقط يقضي بادانتهم  اذا ما اقتنع بأن البينة المقدمة توضح فوق الشك المعقول (beyond reasonable doubt)بأنهم ارتكبوا الجرائم المزعوم ارتكابها.

  1. تعقيدات المشهد السياسي والبيئة التي تشتغل فيها لجنة اديب تضع صعوبات مضاعفة لاكمال مهامها في ثلاث شهور. فقد تم ارتكاب المجزرة في فترة كان التوتر فيها بين العسكريين والثوار المدنيين على أشده كما أن التصريحات التي أدلى بها العسكريون قبيل وبعد ارتكاب المجزرة وقطع الانترنت في البلاد لأسابيع  دفعت بكثير من المواطنين والقوى السياسية للتوصل لقناعة راسخة بأن جهات عسكرية بعينها هي التي ارتكبت المجازر و لذلك يحسبون  بأن الامر واضح ولا معنى لهذا التأخير في التوصل الاستنتاجات حول الجرائم ومرتكبيها الذين   “يعرفهم أي مواطن” وأي مراقب محايد ونزيه.هذا بالإضافة إلى التعقيدات المضاعفة التي  شهدها  المجال السياسي بسبب الصراعات السياسية بين مكوناته المختلفة مما ساهم في تغذية الفرضيات والاستنتاجات حول الاطراف او الاشخاص المسؤولين عن المجزرة.
  2. علي خلاف معظم لجان التحقيق التي تعاني من شح المعلومات, تتعامل لجنة اديب مع كم هائل من المعلومات التي وفرتها وسائل الاتصالات الاجتماعية والإعلام الداخلي والخارجي والشهود ومصادر أخرى. فقد صرح الأستاذ اديب بان لجنته قد تعاملت مع اكثر من ٣٠٠ الاف فيديو كما قامت بالتحقيق حتى الان مع اكثر من ١٤٠٠ شاهد رئيسي و ثانوي. هذه الكثافة في المعلومات وما تفرضه بطبيعتها وطبيعة مصادرها من تعارض تحتاج لمجهود كبير لجمعها وتسجيلها وتحديد ماهيتها ومن ثم تحليلها وتقييمها .
  3. محدودية الموارد المالية والكفاءات الفنية والادارية مع تزايد الضغوطات المختلفة على اللجنة تضع عراقيل اضافية في سبيل تحقيق اللجنة لأهدافها في ثلاثة شهور.

مع التسليم  بدور المحددات الموضوعية اعلاه والتي تعطي مبررات معقولة لأسباب تاخر اللجنة في رفع تقريرها, إلا أن لجنة اديب نفسها قد ارتكبت, في تقدير الكثيرين, أخطاء ساهمت ايضا في البطئ في سير عملها وإنجاز مهامها في الفترة المحددة. بناءا  على  الفقرة ١٢ من قرار تكوينها ” يجوز للجنة الاستعانة بمن تراه مناسبا لأداء مهامها.” ولكن الأستاذ أديب قد شاح بوجهه عن كثير من المساهمات التي تقدم بها بعض المحامين للمساهمة في تطوير عمل لجنته ناهيك عن الاتصال بهم للاستعانة بخبراتهم. بل إن  الفقرة ٨ من قرار التكليف يعطي اللجنة  حق ” طلب العون الفني من الاتحاد الإفريقي عبر وزارة الخارجية” ويبدو ان الاستاذ اديب لم يمارس هذا الحق او على الاقل لم يقم باستخدامه بالكيفية التي توفر له خبراء متمرسين من الاتحاد الافريقي لإعطاء فعالية أكبر لأعمال لجنته وتطوير أدائها.

رابعا:-    تحديد المسؤولية الجنائية عن الانتهاكات:-

            المسؤولية الجنائية يمكن تعريفها  ببساطة بأنها تعني محاسبة الفرد,دون تمييز بين الأفراد سواء كانوا رؤساء دول او قادة عسكريين, على انتهاكه لقاعدة قانونية والذي  أحدث ضررا ووجوب تحمله تبعة هذا الإخلال عبر المحاسبة القضائية  وخضوعه للجزاء المقرر قانونا على المستويين الوطني والدولي. الإخلال بقاعدة قانونية دولية يتضمن  قيام او مساهمة  الشخص في عمل غير مشروع  أو امتناعه عن القيام بالتزام يفرضه  القانون الدولي بمصادره المختلفة التي  تتضمن المعاهدات الدولية, العرف الدولي والمبادئ العامة للقانون الدولي.

المشكلة الأساسية التي يطرحها السودانيون في حواراتهم وفي وسائل الإعلام المختلفة هي الاشكالية المتعلقة بطبيعة المسؤولية الجنائية والإطار القانوني الذي يرتكز عليها ومسؤولية القادة العسكريين والقوات النظامية وكتائب الظل في الجرائم التي ارتكبت في محيط القيادة العامة للقوات المسلحة في الخرطوم والولايات يوم 3 يونيو 2019.

المعلومات والأدلة المتوفرة, حتى للعامة, تكشف  بما لا يدع مجالا للشك بأن افراد من القوات النظامية قد قام بارتكاب انتهاكات جسيمة ضد المتظاهرين السلميين فى محيط القيادة العامة في الخرطوم والولايات. بالرغم من ضخامة العمل المطلوب من أجل تقديم بينة فوق الشك المعقول beyond reasonable doubt لإثبات المسؤولية الجنائية الفردية لهؤلاء الجنود والضباط وغيرهم امام القضاء, الا ان هذا الامر هو الجانب الأسهل من التحقيق الذي لا يساورنا ادني شك بأن لجنة الأستاذ  أديب بخبرته وخبرائها سوف يقومون بإنجاز هذه المهمة على أفضل وجه. غير ان المسألة التي تقلق المواطنين وتلامس فيهم رغائب مختلفة هي مسألة دور القادة والآمرين في ارتكاب الجريمة.

1-المسؤولية الجنائية الفردية للمأمورين:

محاسبة الجنود والأفراد الذين تورطوا في جريمة فض الاعتصام تخضع لقواعد القانون الجنائي السوداني وقانون الإثبات ولا تشكل صعوبات حقيقة للجنة الاستاذ اديب.  ومن المؤكد ان عدد من الجنود والضباط وربما افراد اخرون سوف يتم يمثلون أمام القضاء لمسؤوليتهم عن  جريمة فض الاعتصام.

الجنود والأفراد المتورطون في هذه الجرائم لا يستطيعون الإفلات من المسؤولية الجنائية استنادا إلى صدور أمر من رئيس اعلى تجب عليهم طاعته (Superior Order/Nuremberg Defence), إذ يتعين محاكمة كل من اصدر أو نفذ اي فعل يشكل جريمة في القانون الجنائي الوطني والدولي. منذ محاكمات نورمبرغ Nuremberg بعد الحرب العالمية الثانية لم تنفيذ  الجنود لأوامر قادتهم ورؤسائهم دفاعا ولكن يمكن أن الاعتماد على مبدأ أوامر القادة  لتخفيف العقوبة  للمرؤوسين- من جنود وشرطة ومنسوبي الأمن  ومسؤولي الخدمة العامة الذين عليهم التزام قانوني بطاعة الأوامر . ويستفيد من المبدأ أولئك الذين لا يعلمون بان الاوامر غير قانونية او مشروعة بشرط ألا يكون الفعل المكلف بالقيام به واضح جدا أنه غير مشروع مثل جرائم ضد الإنسانية والانتهاكات التي ارتكبت لفض الاعتصام.  فالجنود الذين قاموا بقتل المعتصمين أو تعذيبهم او ارتكاب أي انتهاكات أخرى باوامر من قادتهم ورؤسائهم يعتبرون مسؤولين مسؤولية جنائية عن أعمالهم ولن يشفع لهم أن الاعمال كانت تنفيذا لهذه الأوامر.

هذه القاعدة أصبحت عرفا دوليا (International Customary Law) وقاعدة ملزمة في القانون الجنائي الدولي وتم النص عليها في قوانين ومواثيق دولية عديدة بالاضافة لتوفر سوابق قضائية راسخة في كل الأنظمة القانونية المرعية.  بجانب مسؤولية لجنة الاستاذ اديب في تحديد المسؤولية الجنائية لهذه الفئة يحتفظ الضحايا وذويهم ايضا بحق فتح بلاغات ضد أي شخص يتوفرون على أدلة كافية على انتهاك حقوقهم. ربما تكون المشكلة التي قد تواجه الضحايا وأسرهم هي صعوبة حصولهم على الإنصاف ضد مرتكبي بعض الانتهاكات مثل الاغتصاب بالاعتماد على القانون الجنائي السوداني مما يفتح الباب لنقاش حول الاطار القانون الذي يجب اعتماده في التحقيقات ومدى إمكانية الاستعانة بوثيقة الحقوق.

المسؤولية الجنائية سواءا في القانون الجنائي السوداني لعام١٩٩١ المعدل أو القانون الجنائي الدولي فقط تنطبق على الأشخاص الطبيعيين, وأن الشخص الذي الذي يرتكب جريمة يكون مسؤولا عنها بصفته الفردية وعرضة للعقاب.  بمعنى أن مهمة لجنة الأستاذ اديب فيما يتعلق بالمسؤولية الجنائية تنحصر في تحديد مسؤولية الأشخاص الطبيعيين فقط, لأن الاشخاص الذين يحملون صفة معنوية واعتبارية من منظمات وهيئات مدنية وعسكرية  غير مسؤولين جنائيا حيث لا زالت مسؤوليتهم مسؤولية مدنية بحتة. بعبارة اخرى ان المطالبات والدعوات العديدة في وسائل التواصل الاجتماعي وفي منتديات اخرى مطالبة لجنة الاستاذ اديب بتحديد المسؤولية الجنائية لبعض القوات النظامية وغير النظامية هي دعوى ومطالب  لا أساس لها في القانون الوطني أو القانون الجنائي الدولي ويستحيل الوفاء بها. حتى المحكمة الجنائية الدولية وفقا للمادة ٢٥ من ميثاق روما لها ولاية قضائية على الأفراد وليس على الدول أو المنظمات والمؤسسات عسكرية كانت او مدنية.

 2-         المسؤولية الجنائية الفردية  المباشرة للقادة والرؤساء العسكريين:

من القواعد الراسخة في القانون الجنائي الدولي ما نص عليه  قانون المحكمة الجنائية الدولية من ان الرئيس او القائد الذي اصدر امرا بارتكاب عمل غير قانوني أو ساهم فيه فهو مجرم طبقا لقانون المحكمة. كما أن اشتراك أي قائد مع آخر في ارتكاب جريمة  أو في حال تشجيعه لاخر او حثه علي ارتكاب جريمة   يكون القائد العسكري او الرئيس مسؤولا مسؤولية جنائية فردية مباشرة  عن هذه الجريمة.  وإذا ما تم تنفيذ هذا الامر الذي أدى إلى انتهاكات  بواسطة تابعيه وجنوده, فإنه يكون مسؤولا مسؤولية جنائية فردية مباشرة عن تلك الأفعال كما لو كان قد ارتكبها هو بنفسه .

وتختص لجنة الاستاذ أديب  وفقاً لقرار التكليف بالتحقيق  بغرض تحديد الأشخاص المسئولين عن فض الاعتصام  بالتحريض instigating  أو المشاركة   participation & commission  بالأمر Ordering أو الاتفاق الجنائي assistance and contribution أو ارتكاب أي انتهاكات أخري.  ومن اجل تمكينها من الاضطلاع بمهامها, خاصة في تعاملها مع هذه الفئة , منحت اللجنة سلطات واسعة تتعلق ب:

“أ.استدعاء أي شخص أو مسؤول حكومي أو نظامي أو موظف عام بغرض الإدلاء بشهادته أو التحقيق.

ب.طلب أية معلومات من الأشخاص المذكورين في البند (أ) تتعلق بموضوع التحقيق، ويشمل ذلك المعلومات عن عملهم والتوجيهات الصادرة عنهم والإجراءات التي اتخذت قبل أو بعد أو أثناء فض الاعتصام.

ج. الاطلاع على محاضر التحقيق الجنائية والإدارية ودفاتر الأحوال والمكاتبات والتقارير العسكرية والشرطية والأمنية والطبية”. هذا بجانب حق اللجنة في تجميد الحصانة التي يتمتعون بها .

3- المسؤولية التبعية للقادة والرؤساء العسكريين:

لا تقتصر مسؤولية القادة العسكريين والسياسيين على مسؤوليتهم الجنائية المباشرة عند  ارتكابهم أو مساهمتهم في ارتكاب جرائم دولية بل انها تتضمن ايضا الجرائم المرتكبة بواسطة قوات تخضع لأمرتهم وسيطرتهم الفعليين وفقا لمبدأ مسؤولية الامر(Commandes Responsibility) التي تشكل أرضية ثابتة للمساءلة في للقانون الجنائي الوطني والدولي.

ويكتسي هذا المبدأ اهمية مضاعفة لسببين, موضوعي وذاتي. أما الموضوعي ناتج لكون  القادة عادة يرتكبون انتهاكاتهم عبر مرؤسيهم وبالتالي يجب الا يفلتوا من العقاب بسبب عدم قيامهم بأنفسهم بالأعمال المجرمة اما الذاتي فيتعلق بدرجة كبيرة في الرغبة الكبيرة للسودانيين بمعرفة القادة السياسيين وقادة القوات المسلحة الذين تورطوا في ارتكاب هذه الفظاعات التي هزت الضمير الوطني والإنسانية جمعاء وضمان عدم افلاتهمم من العقاب.

القائد أو الامر مسؤول جنائيا في القانون الدولي عن أي انتهاكات يرتكبها قواته إذا كان هو علي علم بها, أو كان يجب عليه  حسب ظروف الانتهاكات أن يعلم بأن سلوك مرؤوسيه غير قانوني ولكنه فشل في اتخاذ الإجراءات المناسبة لمنع الانتهاكات مرؤوسيه أو معاقبتهم. وهذا ما يعرف بمبدأ ياماشيتا (Yamashita principle) والذي على أساسه تم اتهام كل من كاراديتش و ملاديتش في المحكمة الجنائية الخاصة بيوغسلافيا.

في قضية  القائد الياباني في الفلبين Tomoyuki Yamashita الذي ادانته اللجنة العسكرية الأمريكية  في مانيلا بسبب فشله في وضع ضوابط لمنع جنوده  من ارتكاب جرائم دولية جسيمة أثناء الحرب العالمية الثانية. وكانت الإشكالية ليست في ارتكاب الجريمة من قبل الجنود الذين يأتمرون بأمره بل في  متطلبات الجانب المعنوي والسؤال المتعلق فيما إذا كان الجنرال على علم بالجرائم المرتكبة من قبل المؤتمرين بأمره وفشله في اتخاذ الاجراءات الازمة لمنع وقوعها. قامت المحكمة باختبار فرضية معرفة المتهم  بالجرائم التي تم ارتكابها بواسطة جنوده وقررت ان إثبات و معرفة القائد معرفة بناءة بالجريمة (constructive knowledge) كافيه لاثبات الجانب المعنوي للجريمة (mens rea).  وقد قررت المحكمة  بان القائد العسكري غير مسموح له بنفي معرفته بأي تقرير تم تسلمه من طرف مكتب القيادة أو نفي علمه باية جريمة وقعت بواسطة جنوده في أي منطقة هو متواجد فيها إلا إذا وقعت الجرائم أثناء غياب القائد عن منطقة العمليات بشكل مؤقت.  وحتى في حالة  غيابه المؤقت يكون القائد مسؤولا عن جرائم جنوده اذا ما تم اثبات ان الجرائم هي نتاج لاوامر منه أو تمت بتوجيهاته او  نتيجة لسياسات محددة قام بوضعها. وواضح من هذا الحكم ومداولات المحكمة بأنها اعتمدت المقترب الذاتي للمسؤولية الجنائية (Subjective test of liability)  والذي يعني بأن القائد لا يمكن أن يدان مالم يتم اثبات بانه قد قام ب,معرفة تامة, إقرار فعل جنوده غير المشروع. نقطة أخرى تناولتها المحكمة وهي مسالة  عدم اتخذ القائد لأي تدابير أثناء قيام  جنوده بانتهاكات  بناء على أوامر من قيادات أعلى منه ولكنه يعلم بانها تشكل جرائم دولية.  قررت المحكمة بأن سلبية القائد في هذه الحالة غير مقبولة ويجب ألا يسمح له للتملص من مسؤوليته في هذه الحالة (intolerable for the commander to wash his hands of international responsibility by doing nothing) بشرط ان يكون فعله أو فشله بالقيام باي فعل كان اختياريا ويشكل جريمة دولية. هذا فيما يتعلق بالجانب المادي للجريمة, أما فيما يتعلق بالجانب المعنوي, فقد قررت المحكمة بان القائد يكون مذنبا إذا ما تم إثبات بأنه كان على علم بوقوع الجريمة  اولم يعترض على وقوعها او شارك فيها او ارتكب اهمال جنائي سمح بارتكابها.  أرينا مشوك ص241 بتصرف.

قضية أخرى عرفتها المحكمة العسكرية الأمريكية في نورمبرغ وهي قضية  الرهائن (The Hostage Trial) حيث خلصت المحكمة إلى تأكيد المسؤولية الاساسية  للقائد العسكري في منع ارتكاب الجرائم الدولية  ومعاقبة مرتكبيها كما تم التنصيص عليه في قضية Tomoyuki Yamashita , وهي مسؤولية لا يمكن الإفلات منها بالقول بأن لم تكن له سلطة على مرتكبيها. بالرغم من ذلك ان قرار المحكمة في هذه القضية أكدت المسؤولية الاساسية للقائد العسكري الا انها لم تتفق مع سابقة محكمة Yamashita المثيرة للجدل القانوني فيما يتعلق بمسؤولية القائد علي أساس وضعية القائد في التراتبية العسكرية بدلا عن تحديد مسؤوليته بناء على معرفته بارتكاب الجريمة بواسطة مرؤوسيه.

وبذلك يمكن القول بان القادة والامرين السياسيين السودانيين يعتبرون مسؤولين جنائيا عن جرائم القيادة العامة إذا ما  توفرت ثلاث شروط :-

  1. اذا تم اثبات مسؤوليتهم الجنائية الفردية المباشرة لأعمالهم بسبب اعطائهم أوامر لفض الاعتصام أو التحريض عليه او المشاركة فيه
  2. إذا فشل القادة العسكريون  والسياسيون  في اتخاذ التدابير اللازمة والمعقولة في حدود سلطتهم لمنع أو قمع ارتكاب الجرائم التي ارتكبت في محيط القيادة والولايات.
  3. إذا لم يقم القادة  في التحقيق في الانتهاكات التي ارتكبت  وعرض انتهاكاتهم للجهات المختصة للتحقيق والمحاكمة. و تنعقد عندما يعلم القائد أو تتوافر لأسباب المؤدية لعلمه بأن مرؤوسيه على وشك ارتكاب افعال اجرامية أو انه قد ارتكب بالفعل مثل هذه الافعال وفشل في محاسبتهم لمعاقبة الجاني.

بالرغم من أن مبدأ مسئولية القادة تعطي  ضحايا الانتهاكات الجسيمة اداة قانونية هامة لمنع إفلات عتاة المجرمين الامرين Super criminals الا ان الاعتماد عليه لا يخلو من صعوبات جعلت ادانة الكثير من القادة المتهمين بجرائم جسيمة غير ناجحة.  الأحكام الجنائية الدولية تكشف محدودية استخدامه في ادانة القادة الامريين بسبب تعقيدات قانونية متعلقة بالجانب المعنوي للجريمة (mens rea) وضرورة ربط العلاقة بين الجرائم التي تم ارتكابها من طرف آخرين والحالة الذهنية الإجرامية لقادتهم.  ولذا سيكون تطبيق مفهوم مسؤولية الامر اشكالية حقيقية (stumbling block) للجنة استاذنا نبيل أديب.

خامسا:-  فض الاعتصامات تشكل جريمة ضد الإنسانية؟

وقائع مجزرة القيادة والبينة المتوفر تدفع إلى القول بأن هذه الجريمة تقع في نطاق الجرائم ضد الانسانية Crime against Humanity. هناك اعترافات من موثقة من أعلى السلطات العسكرية بأن فض الاعتصام سبقه اجتماع موسع تم فيه إصدار الأوامر لفض الاعتصام. كما أن المشاركة الواسعة لوحدات عسكرية عدد ضخم من الأفراد تجاوز الخمسة آلاف فرد توحي بان العملية تم الترتيب له وتم تنفيذه بشكل واسع ومنهجي. وحسب تعريف الجرائم ضد الانسانية فان الاعمال الاجرامية التي ارتكبت في محيط القيادة من قتل وتعذيب وعنف جنسي وغيرها تشكل جريمة ضد الانسانية اذا تم اثبات ان ارتكابها جاء في سياق هجوم واسع أو منهجي عن علم تضد المدنيين الذين كانوا في اعتصام سلمي في محيط القيادة العامة للجيش  في الخرطوم والولايات.

اللجنة التي شكلتها النائب العام في يوليو 2019 برئاسة مولانا فتح الرحمن سعيد قد تم اهمالها وتعرضت لانتقادات عديدة لانها تعبر عن السلطة الحاكمة انذاك والمتهم الرئيسي في جريمة فض الاعتصام. بالرغم من وجاهة التحفظات على لجنة مولانا فتح الرحمن سعيد, نعتقد بأن تقريره يحتوي علي عنصر هام يجب الوقوف عنده بعناية وهو توجيه الاتهام لثمانية ضباط كبار من  القوات النظامية  بارتكاب جرائم ضد الإنسانية منهم لواء في قوات الدعم السريع.  بالرغم من أن التقرير  ذكر بأن اللواء المعني  قد قام بمخالفة تعليمات عليا وأصدر توجيهاته بارتكاب الانتهاكات إلا أن التوصل إلى استنتاج بأن  الجريمة المرتكبة تشكل  جريمة ضد الإنسانية حسب التعريف الوارد في المادة 186 من القانون الجنائي لعام 1991 والذي يتطابق مع المادة 6 من قانون المحكمة الجنائية الدولية.

التوصل الجرائم التي وقعت في محيط قيادات الجيش في العاصمة والولايات  ترقى إلى عتبة جريمة ضد الانسانية له اهمية عملية فائقة  خاصة مع تشوهات النظام العدلي في السودان وعدم جاهزية لتحقيق العدالة.

من ناحية  الجرائم ضد الانسانية هي واحدة من الجرائم الدولية الجسيمة  التي تجعل المجتمع الدولي في كليته معني بها وتفرض عليه  التزام قانوني وأخلاقي  باتخاذ اجراءات لمحاسبة مرتكبيها إذا ما فشلت السلطات الوطنية في تحقيق العدالة والسماح للقادة بالإفلات من العقاب.  والسودان لديه تجربة حية في احالة التحقيقات حول الجرائم الجسيمة التي ارتكبت في دارفور للمحكمة الجنائية الدولية بالقرار 1593 بعد أن تبين للمجتمع الدولي عدم قدرة أو رغبة النظام السابق في تقديم المرتكبين الانتهاكات للعدالة.  بفضل تطور القانون الجنائي الدولي وتوسع ولايته, لم يعد  رؤساء الدول والقادة العسكريون والسياسيون محصنون بالسيادة في دولهم عند ارتكاب جرائم دولية تماما كما لم يعد القراصنة أحرار في ارتكاب جرائمهم في أعالي البحار.

من ناحية ثانية يمكن تجاوز عدم اهلية الانظمة القضائية السودانية بتقديم المتهمين بجرائم ضد الانسانية للمحاكمة بواسطة المحكمة الجنائية الدولية حتى دون مصادقة السودان لميثاق روما.   المحكمة الجنائية لها شخصية قانونية لها ولاية قضائية لمحاكمة أشخاص يتهم مدعيها العام بارتكاب جرائم جسيمة (the most crimes of international concerns) .وامتلاكها للشخصية القانونية تعني أن لها القدرة في عقد اتفاقات والدخول في التزامات تحقق أهدافها المنصوص في ميثاقها  وممارسة سلطاتها في أية دولة عضو في ميثاق روما و باتفاق خاص في هي دولة أخرى (ad hoc agreement). وهذا يعني محاكمة المتهمين في محكمة دولية في السودان بعد التوصل لاتفاق خاص مع المحكمة. وبذلك يمكننا تجاوز مشكلة  سيطرة العسكريين وتأثير نفوذهم على سير العدالة كما يمكننا تجاوز الإشكالات المتعلقة بالحصانة الممنوحة للدستوريين وقادة ومنسوبي القوات النظامية وشبه النظامية الذين يشك في تورطهم في المجزرة. الحصانات والامتيازات التي ترتبط بالصفة الرسمية للشخص سواء كانت في اطار القانون الوطني أو الدولي, لن تكون عائقا ولن تحول دون ممارسة المحكمة الجنائية الدولية لاختصاصها  عن طريق محاكمة هؤلاء الأشخاص عن الجرائم التي ارتكبوها والتي تدخل في اختصاص المحكمة.

*قانوني ومحلل سياسي والرئيس السابق لرابطة القانونيين والمحامين السودانيين في بريطانيا

‫7 تعليقات

  1. ((الاتفاق الجنائي assistance and contribution))؟؟
    الاتفاق الجنائي يا صحبي لا يشمل أي فعل يمس الركن المادي للجريمة ، وإنما هو مجرد الاتفاق والموافقة على ارتكابها حتى ولو لم يشارك أو يساهم الشريك بأي فعل مادي طالما قام الشريك أو الشركاء الآخرون بارتكاب الجريمة أو الشروع فيها. فمل هذا الشريك هو شريك بالمؤامرة فقط وليس في التنفيذ الفعلي. الاتفاق الجنائي يسمى بالانجليزي criminal conspiracy
    بعدين اللخو منو ما ذكرت اسماً صحيحاً ولا مستعاراً وأنا قنعت من متابعة القراءة لما رأيت كلمة اعتزار) في متن الكلام!!

    1. الركن المادي هو الاتفاق بين شخصين او اكثر بتعبير يلقي قبولا من بقية المشاركين .. لا اختلف معك في بقية التعريف.

      ليتك تابعت القراءة لان في الموضوع استنتاجات كثيرة قابلة للاخذ والرد.

      لك الشكر والتقدير علي المرور والتعليق.

  2. اقتباس (التوصل إلى استنتاجات بشأن وجود انتهاكات و تحديد الأشخاص المسؤولين عن فض الاعتصام بالتحريض أو المشاركة أو الاتفاق الجنائي أو ارتكاب أي انتهاكات أخرى)
    التحريض دي مهمة جدا عشان الطيب مصطفي العنصري يدخل الفتيل.

    1. دا ذي المجرم بتاع رواندا الاتسببت في موت الملايين بدعايتو الاعلامية بتاعت:
      ‘The graves are only half empty; who will help us fill them’

      دا مفروض يتبل بل صاح .

  3. كلامك دا، يحوي تناقض جوهري :

    تقول :

    ♦️المسؤولية الجنائية سواءا في القانون الجنائي السوداني لعام١٩٩١ المعدل أو القانون الجنائي الدولي فقط تنطبق على الأشخاص الطبيعيين, وأن الشخص الذي الذي يرتكب جريمة يكون مسؤولا عنها بصفته الفردية وعرضة للعقاب. بمعنى أن مهمة لجنة الأستاذ اديب فيما يتعلق بالمسؤولية الجنائية تنحصر في تحديد مسؤولية الأشخاص الطبيعيين فقط, لأن الاشخاص الذين يحملون صفة معنوية واعتبارية من منظمات وهيئات مدنية وعسكرية غير مسؤولين جنائيا حيث لا زالت مسؤوليتهم مسؤولية مدنية بحتة. بعبارة اخرى ان المطالبات والدعوات العديدة في وسائل التواصل الاجتماعي وفي منتديات اخرى مطالبة لجنة الاستاذ اديب بتحديد المسؤولية الجنائية لبعض القوات النظامية وغير النظامية هي دعوى ومطالب لا أساس لها في القانون الوطني أو القانون الجنائي الدولي ويستحيل الوفاء بها.

    ثم تقول :

    ♦️القائد أو الآمر مسؤول جنائيا في القانون الدولي عن أي انتهاكات ترتكبها قواته إذا كان هو علي علم بها, أو كان يجب عليه حسب ظروف الانتهاكات أن يعلم بأن سلوك مرؤوسيه غير قانوني ولكنه فشل
    في اتخاذ الإجراءات المناسبة لمنع إنتهاكات مرؤوسيه أو معاقبتهم.

    ♦️لا مجال، أبداً، لنفي العلم عن الآمرين، بعد التصريح العلني للناطق الرسمي للمجلس العسكري، أنهم عقدوا إجتماع مع…..ومع…..ومع ….. ومع، وقرروا فض الإعتصام !!!!!!!!!!!!

    ♦️ألم يقم العسكر بإغلاق بوابات القيادة العامة، في وجه المستجيرين بهم، والرصاص يلعلع في ساحة الإعتصام ؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟

    ♦️إني أوافقك في تصنيفك لهذه المذبحة النكراء، علي أنها جريمة ضد الإنسانية، مكتملة الأركان، مما يتيح القصاص، حتي دولياً، ولو بعد حين.

    1. لا اعتقد بان هناك تناقد يا اوبتي
      قصدت بان القانون الجنائي لا يدين الدعم السريع أو الشرطة مثلا كمؤسسات (اشخاص معنوية) علي ارتكاب جريمة القيادة ولكن تتم ادانة مرتكبي الجرائم كافراد (اشخاص طبيعيين). بمعني اننا لا نتوقع الحصول علي حكم قضائي يقول بان الشرطة أو القوات المسلحة أو الدم السريع كمؤسسات هي التي قامت بقتل المعتصمين السلميين ولكن نتوقع ان تصدر احكام ضد اللواء ركن فلان أو العميد فلان أوالجندي علان. بمعني ان اي جندي او ضابط ارتكب جريمة فض الاعتصام بكون مسؤول عن جريمته مسؤولية فردية حتي لو كانت الجريمة نتيجة لتنفيذ اوامر من قادته. ودا المبدا بتاع مسئولية المامور

      القادة (اعضاء المجلس العسكري الانتقالي اوالسياسيين) مسئوليين مسؤولية جنائية فردية اذا تمكن الاتهام من اثبات ان افعال القادة الميدانيين والجنود الاجرامية هي نتيجة لاوامر صادرة عنهم أو انهم كانوا علي علم بالجريمة ولم يمنعوا وقوعها أو انهم فشلوا في اتخاذ التدابير الازمة لمحاسبة من قاموا بارتكاب الجرائم من تلقاء انفسهم او بمخالفة الاوامر. بمعني ان اعضاء المجلس الانتقالي مسؤوليين عن الجريمة اذا:
      1) ارتكبت من الجنود تنفيذا لاوامر بفض الاعتصام بالقوة: يعني نثبت انو الناس الاجتمعوا قرروا فض الاعتصام بالقوة وامروا بذلك.
      2) فشل القادة في وضع الاجراءات الازمة لمنع وقوعها:
      3) فشلوا في محاسبة مرتكبي الجريمة التي تم ارتكابها ضد ارادتهم.

      اما الاتفاق الجنائي الذي اشار اليه الاستاذ (خرونق) اعلاه بالتعريف الذي اتفق معه فيه فهو جريمة قائمة بذاتها وما محتاجة لشروع او تنفيذ جريمة الاعتصامات. وهي جريمة اشكالية وفيها مناقشات واحكام كثيرة حول طبيعتها.

      لك الشكر والتحيات الطيبات

      1. نعم إن الاتفاق الجنائي على ارتكاب الجريمة يعد في حد ذاته جريمة وتسمى بجريمة ال criminal conspiracy ولكن قلت إذا ارتكبت ونفذت الجريمة من بعض المتآمرين المتفقين فإن الجميع متساوون في المسئولية كشركاء في الجريمة التي وقعت بالفعل، فاعلين أصليين وشركاء بالتحريض لأن مجرد الاتفاق الجنائي يعتبر تحريضا على ارتكاب الجريمة. أما إذا لم ترتكب الجريمة فعلاً، أي لم يقم أي من المتآمرين بارتكابها، فيعتبر الاتفاق الجنائي في حد ذاته جريمة يعاقب عليها القانون.
        ويجب عدم الخلط بين الاتفاق الجنائي والقصد الجنائي، فالقصد الجنائي لا يثبت مسبقاً قبل وقوع الجريمة وإنما يستخلص ويستنتج من الركن المادي نفسه من نوع السلاح وكيفية استخدامه وموضع الإصابة به أكثر من التصريح به بواسطة الفاعل أثناء الفعل، كقوله سأقتلك أو سأفعل بك كذا وكذا، فقد يقول هذا وليس لديه ما يقتل من سلاح أو آلة.
        وعليه جريمة الاتفاق الجنائي هي جريمة مكتملة بعنصريها المادي والمعنوي، المادي هو الاجتماع أو الاتصال بين المتآمرين أو إبلاغ الأمر لبعضهم البعض والركن المعنوي هو انعقاد النية على تنفيذ الركن المادي لجريمة ما. ولا يصح أن تقول إن الركن المادي هو الاتفاق بين شخصين أو أكثر… بل هو السلوك أو الأفعال التي يتوصل بها أو يتم بها الاتفاق.

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..