المنوعات

قصة أغنية تبكي الشعب السوداني

أغنية بحر المودة التي اشتهرت بـ (يايمه رسلي لي عفوك) من أكثر الأغاني السودانية التي ذرفت دموع مستمعيها، فهي من أغاني الاستماع من الدرجة الأولى الممتازة فلا يشعر الشخص بنفسه، حيث يسلم حواسه ومشاعره وأذنيه وأفئدته لصوت محمد جبارة الممتلئ بالشجن والحنين، يضاف إلى ذلك فهي من الأغاني التي أسهمت كثيراً في توحيد وجدان الشعب السوداني لذلك فإن المستمع لها في غرب السودان ينفعل معها بنفس لواعج وأحساسيس ابن الشمال أما في الجنوب الحبيب يكفي أن الرائع والمعتق ابن الدينكا إبراهيم دينق قدمها بكثير من الألق والجمال وبإحساس جارف وعميق للحد البعيد، إذ غناها في مكان غير ناطق بالعربية وقد لا يفهمها كثيراً من الجنوبيين المرتكزين على المناطق النيلية وقرى الجنوب النائية ولكن بعد ذلك يتفاعلون معها ويرددونها كثيراً، تلك الأغنية التي كتبها طالب في بواكير صباه وهو بالمدرسة الأميرية الوسطى بمدينة القرير بالولاية الشمالية إنه الرائع والمعتق الشاعر الكبير السر عثمان الطيب.

(يا يمه يا فيض الحنان الما كمل)
غادر الشاعر السر عثمان الطيب ولأول مرة أرض النخيل والنيل والسواقي إلى الخرطوم لمواصلة تعليمه وذلك في فبراير من العام 1971م ولكن حنان الأم وريحة الجروف وصوت السواقي وشاي الترابلة لم يستأنس السر بعدهم، بأصوات السيارات وزخم المدينة وسرعة الحياة في البندر، مثل الشاعر الكبير محمد سعيد دفع الله الذي عندما قدم إلى الخرطوم لأول مرة كتب قصيدة طويلة يقول في مطلعها (الخرطوم دي ماها محلتي – وبس قصدي ارجع حِلّتي واعيش هناك طول الأبد) ، سطّح الشاعر السرعثمان في رأس القطار واتجه مباشرة للعاصمة التي اشتعلت فيها مشاعره وهاجت فيها قريحته الشعرية حتى أنتج ذلك الوجد والشوق تلك الأغنية الرائعة والخالدة بحر المودة.

رحلات وكرامات
للسر عثمان الطيب ارتباط وثيق خاص لأبعد الحدود مع والدته تلك الملهمة التي وقفت معه كثيراً وأًعطته وما استبقت عليه شيئاً وتأتي لتهب كل الشعب السوداني بي (بحر المودة) وللسر عثمان الطيب مواقف نادرة وغريبة للحد البعيد مع والدته الحاجة (زينوبة) صاحبة الكرامات الأم الصالحة والتقية النقية التي لاحاجب لدعوتها من باب السماء، ووضح ذلك عندما كان السر في المرحلة الوسطى وقررت إدارة مدرستهم رحلة للمناطق الأثرية بالإقليم الشمالي وذلك لتوثيق أواصر الحب والوطنية للطالب تجاه وطنه وذلك بزيارات مختلفة للمناطق التاريخية والأثرية مثل البركل وأهرامات مروي والدفوفة والكرو وغيرها.. ولكن في تلك الرحلة واجهت السر معضلة كبيرة جداً وهي أن إدارة الرحلة طلبت مبلغ سبعة ريالات وشلناً أي 75 قرشاً ، السر قال إن ذلك المبلغ كان ضخماً وكبيراً للحد البعيد وقلما يوجد عن مواطن عادي وقال في تلك الفترة كان أكبر جوال للبلح لا يتجاوز (الطّرادة) أي الخمس وعشرين قرشاً فماذا يفعل والمبلغ مطلوب لإيجار اللوري والمأكل والمشرب في فترة أيام الرحلة فماذا يفعل.

دعاء الوالدة
قابل السر عمه محمد أحمد مكي وأرسله لوالدته حتى تجهز له المبلغ، الحاجة بحثت بحثاً شديداً ولم تتوفق لتوفير المبلغ حتى اضطرت إلى أن تذهب إلى دكان علي ود النمير في الحلة لمحاولة أن تجد منه سلفية لرحلة ابنها ، السر يقول في ذلك الزمان كان ذلك المبلغ كبيراً لدكان في الحلة إلا أن والدته أصرت أن تذهب وتوكلت على الله وهي تُسبح وتدعو وتبتهل لله عزو جل أن يعطيها علي ود النمير مبلغ الـ 75 قرشاً وأثناء دعائها بحسب إفادات شهود عيان من منطقة القرير تعثرت رجلها على صرة ملفوفة ففتحتها وكانت المفاجأة أن وجدت مبلغاً من المال وبالتحديد كان المبلغ سبعة ريال وشلن أي 75 قرشاً فقط تماماً على قدر مشكلة وظرف ابنها وتلك هي كرامة الأم الصالحة ولكنها لم ترسل المبلغ لابنها إلا بعد أن طافت كل القرى والسواقي تسأل هل من شخص فقد مبلغاً مالياً ولمّا لم تجد أحداً قال إنه فقد مبلغاً قامت بارساله لابنها ليواصل رحلته ويكمل تعليمه .

قلب الأم وأحساسه
وللسر موقف آخر أو كرامة كما اسميها في تلك الزاوية وقتها كان قادما من الخرطوم إلى القرير بالقطار وأثناء سير القطار كان الشباب يخرجون نصف جسدهم من شباكه ويلوحون بأياديهم للمارة وأهل القرى التي يمر عليها القطار فقام السر أيضاً باخراج جسده من القطار ولوح بيديه وهتف للمارة ولكنه صادف تياراً هوائياً قوياً كاد أن يهوي به ويسقطه إلى الأرض وذلك بعد أن هوت أرجله من داخل القطار وهو في طريقة إلى الخارج إلا أنه كان هنالك شخص جالساً بجواره فقام قافزاً بقوة وتمسك بما تبقى من رجليه حتى سحبه للداخل وسط صياح وصراخ النسوة اللائي كن بداخل القطار، فنجا شاعرنا من كارثة محققة ولكن المفاجأة الأكبر كانت عندما رجع إلى منطقته فأحتضنته والدته وهى تبكي وقامت في صباح اليوم التالي بدعوة كل نساء الفريق إلى قهوة فسألها لماذا هذه الدعوة يا أمي فقالت له أنا رأيت فيما يرى النائم بأنك في كارثة وخطر كبير للغاية لذلك عندما استيقظت نذرت في أن لوعدت سالماً غانماً أن أعمل دعوة قهوة لكل نساء الفريق حمداً لله بسلامة عودتك فها أنت جئت سليماً معافى و أنا أوفي بنذري.

(بحر المودة) لها القدرة الكبيرة والفائقة جداً في دغدغة مشاعر وأحاسيس الآخرين وربما سرقة مدامعهم بكل سهولة ويسر وذلك لأنها كُتبت بلغة البساطة والتلقائية والعفوية المجردة التي تشبه تماماً إنسان ذلك البلد الجميل في قراه وبواديه وسواقيه بجانب البساطة اللغوية التي كتبت بها ..

سحر البيان
يضاف إلى ذلك استخدامه للكلمات الموغلة في الفصاحة والبلاغة مع الكلمات العامية دون أن تشعر بأن هنالك برزخاً لغويا يفصلها عن بعض وهذا شأن كبار شعراء الحقيبة أمثال ود الرضي وسيد عبد العزيز وعتيق وغيرهم، فقد استخدم بجوار تلك العامية كلمات بالغة الفصاحة مثل (اوارو) وقال الشوق اوارو بيشتعل بجانب استخدامة كلمة (الغرير) عندما قال (بتذكرك يا بسمة الطفل الغرير) وكلمة (جور) عندما قال (ينجيني من جور الزمان) ولكن المتأمل بعمق للنص يجد أن أكثر كلمة عامية استخدمها السر وأعطت لهذا النص طعماً ورائحةً ولوناً وإحساساً هي كلمة (يُمة) التي وردت عدة مرات دون أن تحس بتكرارها وأظنها جاءت أبلغ وأجمل من أن لو استخدم عبارة ماماً أو والدتي أو قال أمي. السر كان رقيقاً ودقيقاً في اختيار الكلمات والمفردات التي جمّل بها بحر المودة كأفضل مايكون .

شأن السر كشأن عدد كبير من الشعراء والملحنين الذين قدموا أعمالا كبيرة للحد البعيد في بواكير قدومهم للساحة حتى أصبح ظل تلك الأعمال يطغى ويغطي على كل ماقدموه مستقبلاً .. جاءت(بحر المودة) كبدر في سماء أغنيات السر عثمان الطيب ومادناها نحوم بالرغم من أنه قدم أعمالاً مميزة للحد البعيد مثل (الخرطوم بدونك ضهبانة تفتش في عيونك) وقدم رائعته (لي واحات عيونك) وقدم الاغنية العاطفية المملوءة بالوجد والشجن (اليصيبك يصيبك) بجانب (لون الجرف) ولم ينسى الوطن (ياوطني لبيك)، وغيرها من الاغاني.. وهذا على سبيل المثال وليس الحصر، إلا ان اغنية والدته جاءت في المقام الرفيع بين كل أغانيه حتى أصبح لايذكر السرعثمان الطيب إلا وذكر بحر المودة ولا يذكر بحر المودة إلا وذكر السر عثمان الطيب .
السوداني

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..