مقالات سياسية

حزب الثورة، الحلم والماَلات

علي محجوب النضيف

أثارت الدعوة لقيام حزبي سياسي جديد علي شاكلة الفريق القومي يمثل ثورة ديسمبر عدة تساؤلات، من عدة زوايا ومنطلقات. وفي إعتقادي نقاش الدعوة، الاختلاف او الاتفاق معها ، يجب ان لا يثير حفيظة البعض وأن لا تقود لنقاش عقيم عصبه التخوين او تكسير المجاديف.

أولاً دعونا نتفق أن التوقيت والاوضاع المتباينة مثقلة مسبقاً بالصراع الدائر الاَن في الساحة السياسية، مما ولد إستقطاب حاد يزداد كل يوم تعقيداً حول صراع قديم متجدد عماده الثورة، الفترة الانتقالية وتأسيس الديمقراطية وبناء مستقبل السودان. وثانياً دعونا أن نقرأ الوضع السياسي في السودان موضوعياً وذاتياً كمدخل لتقييم الواقع وماَلاته ومدي الحاجة الموضوعية لتأسيس وقيام أحزاب جديدة.

ثلاثون عاماً يحكم البلد حزب فاشي يسبح عكس تيار التاريخ ومشروعه الجهل والتجهيل ونهب الموارد. وضع انهك شعب السودان في كل مناحي الحياة واهدر موارده. معلوم أن إنقلاب الأخوان الغرض منه قطع الطريق في المهد أمام التطور الطبيعي للديمقراطية وازدهارها واستقرارها عبر الممارسة. فماذا يعني هذا لشعبنا؟ خطط الأخوان والطبقة المستفيدة من مشروعهم ونظامهم داخلياً واقليمياً وعالمياً علي تدمير ممنهج للبنية الاقتصادية منذ المصالحة في عام ۱۹۷۷، بغية إحداث تغييرات جوهرية في أسلوب الانتاج، المتضمن لقوي او عناصر الإنتاج (رأس المال) وعلاقات الملكية لرأس المال المنتج. بدأ هذا بإدخال ما يسمي بالبنوك الإسلامية وشركات توظيف الاموال الإسلامية والأستثمار في القطاعات الخدمية وقوت الشعب، مما أحدث إختلال في هيكلة الاقتصاد السوداني المختل والمنهك أصلاً.

مواصلة لتنفيذ هذا المخطط توّج بالسطو علي السلطة السياسية وأطلاق يدهم الطويلة علي مقدرات الشعب (حب الشحيح للمال) بأستيلاء علي البنية التحتية للاقتصاد السوداني في القطاعات الانتاجية والخدمية من مصانع ومشاريع زراعية وخدمات الصحة والتعليم ونهب القروض بالكامل، وتم ذلك بشكل ممنهج بأساليب مختلفة منها الخصخصة والنهب المباشر بسن القوانين التي تتيح ذلك. أجتهد الأخوان في إنجاز ذلك لأنهم يعلمون دور ذلك في إحداث التغيير في نظم المجتمع السوداني دينياً وأخلاقياً وسياسياً والتأثير علي العادات والتقاليد السائدة في المجتمع. هذا الحديث مهم رغم بداهته ومعلوم لقطاعات كبيرة من شعبنا بحكم معايشة الواقع في مسار التغييرات المتواصلة التي أحدثت تغيراً كبيراً في البنية الاقتصادية وأساليب الانتاج وإمتلاك وسائله. هذا من الناحية الموضوعية ولنري أثر ذلك علي العامل الذاتي وإنعكاساته علي البنية الفوقية لمجتمعنا السوداني. هذا ما عجز الاخوان المسلمين عن تقيمه ودراسته واستقراء ماَلاته. ما غاب عنهم هو دراسة وفهم طبيعة واَليات الصراع والتشّكل الجديد الذي احدثه وسيحدثة عبر التغيرات في النشاط الاقتصادي وبالتالي في البنية الاقتصادية وعلاقتها بالسياسة والاجتماع والثقافة ومدي ارتباطاتها الطبيعية بالصراعات المعيشية والاجتماعية التي افرزها الواقع الجديد الذي خلقه نظامهم. كما نجد أن التمايز الحاد الذي خلقه النظام القائم وقتها وإمتدادته الاَن، أحدث خلل في التركيبة المجتمعية الشديدة التعقيد والتنوع، بما تمثله من تيارات ملموسة ومتداخلة وذات أفكار سياسية، إجتماعية ومدنية لتشكيلات مختلفة تعكس ما كان عليه الواقع ومميّزة له، أولا، والتجانس والاتفاق الذي تم علي الاقل في هذه المرحلة من مختلف القوي الاجتماعية ذات المصالح المختلفة والمتضاربة احياناً كثيرة، الرامي الي إحداث تطور في البنية الاقتصادية الاجتماعية المنشود بعد الثورة، كنتيجة لعملية التفاعل المتبادل بين مستوياتها البنيوية ثانياً. لتتماشي وتنسجم مع مطالب الجماهير وإحداث التغيير الجزري.

هذا الكلام مهم لفهم المكونات الموجودة وطبيعة المؤسسات والمنظمات المختلفة، مثل المؤسسات القانونية والاحزاب السياسية، والاتحادات النقابية، والمنظمات والمؤسسات الثقافية والصحافة التي تمثل التكوينات المختلفة للمجتمع المدني التي يدور حولها صراع من داخل قيادة الثورة وتركيبة السلطة القائمة والثورة المضادة. كما يعني ذلك أن ما قائم الاَن هو ما تشكل من المؤسسات التي تعكس القييم والافكار والثقافات التي هي نتاج ووسيلة لصراعات في إطار التشكيلة الاقتصادية الاجتماعية التي شكلها النظام السابق وتقاوم الفئات المستفيدة منها لبقائها، وهي تعبر في الوقت نفسه عن المصالح الاساسية المتناقضة، وتقوم  هذه المؤسسات بحمايتها. في المنظور والممارسة للعمل الثوري الجاري الاَن، التعامل مع أنتجته من مؤسسات نتيجة الوثيقة الدستورية، وما أفرز من ثقافة تراكمت عبر نضاله منذ الانقلاب واستلهام تجارب الشعب منذ الاستقلال، مدعوم بتجربة والتصور للإنسان السوداني مالك لإرادته ومحدد لمصيره. المعارك السياسية التي خاضها ويخوضها ضد شقاء الوعي الاقتصادي وتطويره لمفهوم الهيمنة في علاقته بالدولة ومستويات الحكم المختلفة المدعومة من الشرائح المستفيدة منها في المؤسسات الاقتصادية التابعة للانظمة الأمنية والمملوكة من وراء حجاب لسدنة النظام البائد والتي تحاول لجنة إزالة التمكين تصفيتها، هي كلها معارك أملتها الوقائع السياسية المتحركة والمتغيرة علي الثوار وفرضت عليهم ضرورة النضال في سبيل كسبها علي جميع الاصعدة المعرفية، الفكرية، والسياسية من أجل تأسيس وعي تاريخي مطابق، يمكن توظيفه عن طريق الفعل السياسي الواعي، والصادق والعقلاني، نحو تصفية سائر البني ، والتشكيلات، وإصلاح العلاقات السائدة في المجتمع السوداني.

بالنظر الي هذا الواقع يتضح المشهد الكلي للواقع السياسي والاقتصادي والاجتماعي، ونجد التباين الكبير بين التركيبة الاقتصادية الإجتماعية في السودان وتضارب المصالح الطبيقة مع ضعف تشّكل طبقات تحمل كل سمات التشكيلة الاقتصادية الاجتماعية بالمعني الدقيق للمصطلح التي تحدد الإرادة الجمعية الشعبية والإرادة السياسية العامة بالمعني الحديث لها، بإعتبار أن هذه الإرادة هي وعي فاعل للضرورة التاريخية ، وتقود الي تشكيل القوة القادرة بالمدلول الكامل للقوة الفاعلة في الواقع المشخص، بتكوين حزب سياسي يعبر عن مصالحها وتحريك هذه الإرادة والسعي الي تحقيق مصالحها كطبقة من أجل إحداث تغيير في المجتمع، حسب الحاجات والإمكانيات في سبيل بناء الدولة الحديثة والمعاصرة التي تتوافق وتخدم حاجات ومصالح اغلب الطبقات التي تلتقي معها ولو مرحلياً.

الثورات الكبري في العالم إنجزت التغيير بمشاركة مجموعات متباينة ومختلفة من حيث المنحدرات الطبقية والمنطلقات الفكرية والسياسية والمصالح الإقتصادية ولكن تضافرت العوامل الموضوعية والذاتية التي دعت الي ضرورة التغيير وتحقيقه. في السودان حدث ذلك في فترات تاريخية مختلفة عبر تحالفات واسعة وفي جبهات عريضة متفقة علي قضايا معينة تحت هدف احداث تغيير جوهري، بإزالة المعضلة الاساسية وهي النظم السياسية القائمة وقتها والإتفاق حول الاَليات التي تحقق مصالح الكّل مستقبلاً. هذا يعكس إدراك الشعب السوداني للدور المتميز للارادة السياسية الواعية والفاعلة التي تستهدف بناء كتلة تاريخية، في إئتلاف واسع من تيارات سياسية واجتماعية وثقافية، وطبقات وفئات إجتماعية تضع إستراتيجية سياسية وتنظيمية متطابقة مع مصالح الفئات والطبقات الجوهرية والأساسية في المجتمع، وتأسس لعمل نشاط وعمل سياسي مشترك بغرض الاستيلاء علي السلطة السياسية وإزاحة الأنظمة القائمة. لقد أنجز شعبنا بهذه الاَلية ثلاث ثورات عظيمة وملهمة للشعوب وهزم دكتاتوريات مدعومة اقليمياً ودولياً.

الأحزاب السياسية التقليدية وبعض من الحديثة في السودان تتقاطع مع المعني الدقيق لتعريف ماهية الحزب، والتي تعبر عن تنظيم لقوي اجتماعية معينة تجمعها أسس فكرية واحدة وأهداف ومصالح مشتركة يتفقون علي برنامج سياسي ذو ابعاد استراتيجية ومرحلية لتحقيق هذه المصالح ويأتي ميلادها وفق ضرورة تاريخية وموضوعية ستلزم ذلك. هذا التقاطع والاختلال في اعتقادي نتيجة للواقع الموضوعي والذاتي الناتج عن التراجع المريع في السودان اقتصادياً وسياسياً واجتماعياً بسبب الدكتاتوريات وليس هناك تشّكل وتطور بالمعني الكلاسيكي للتشكيلات الاقتصادية الاجتماعية. التشوه الحاصل وسيادة الذهنية الطفيلية، حكمت طبيعة النشاط السياسي وشكلت اطروحات تدور في نفس الثقافة الطفيلية ونسق العائد السريع والابتعاد عن سياسة النفس الطويل والبناء المؤسس علي قواعد ستشرف أوفق المستقبل واستدامة فعل البناء والتطور. الصراع حول السلطة تتباين اشكاله ويظهر احياناً وكأنه مغنم شخصي متخفي بتمثيل حزب او كتلة سياسية ممثلة في الحرية والتغيير، يتمظهر في طريقة إدارة الفترة الانتقالية وانعكس في ضعف أدائها. الدولة جهاز غير محايد وتعبر عن مصالح الطبقة الاجتماعية المسيطرة وبالضرورة هي في قلب الصراع الاجتماعي، فالصراع من أجل الوصول للسلطة لابد أن يكون منطلق من موقف نظري فكري ذا أفق يستشرف مستقبل وليس مرحلي بإنجاز مهام فترة اَنية محددة.

ثقافة العائد السريع والجاهز والشقق المفروشة تسيدت في الفترة السابقة وتجسدت في الانقسامات المصطنعة في الاحزاب والتنقل بينها وتاسيس احزاب صورية جديدة.  هذه العقلية لازالت موجودة لعدم حدوث تغير في الواقع للبطء في انجاز مهام الثورة مما جعل عين البعض علي الكوم الكبير. لجان المقاومة أملت تكوينها ظروف مختلفة وكانت نتيجة تراكم نضالي طويل جسدت طبيعتها وفصائل تكوينها وتنوع هياكلها وارتباطها بالقوة التي انجزت الثورة، كلَّ بمختلف أنتمائه ومنطلقاته ومشاربه.

الهجرة القسرية والطوعية التي فرضها نظام الجبهة علي السودانيين، كونت وشكلت عقليات مختلفة، تتفاوت بين الوصاية والأحلام، الغير مسنودة علي واقع وقراءة سليمة. كما أن العقلية الرعوية شاخصة في ثقافتنا نتيجة لتلك الظروف التي جعلت الاستقرار حيث هم وتشعب الارتباطات، يكبلهم ويحرمهم من الترحال الي ارض الوطن. مما جعل مفهوما الزمان والمكان مدغمين في وعيهم ومشحون بنوستالجيا تجذبهم تماماً الي الوطن في محاولة مستمرة لردم الفجوة وتجاوز علة الموائمة المكانية. دعم الثورة في مرحلة المقاومة وقواها الفاعلة في الداخل تختلف من التفاعل وادارة عمل حزب عن بعد من شخص خارج حركة الصراع اليومي الصاعد والنازل في سرع الاحداث وتداخلها.

أسئلة تحتاج للتفكير فيها والإجابة عليها:
هل هناك مقومات لنجاح حزب ينطلق من فرضية الحرص علي الثورة وإنجاز اهدافها دون غيره، انطلاقاً من أن قوامه سيكون من أنجزوا الثورة؟!!  وهل من انجزوا الثورة في إنتظار قيادة تحثهم علي إنجاز أصعب من ما قاموا به ولم تخرج من معمعة صراعهم الطويل مع سلطة الإنقاذ حتي إسقاطها؟!!

علي محجوب النضيف
[email protected]

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..