أهم الأخبار والمقالات

بعد عام من فض اعتصام القيادة العامة بالخرطوم، ما مصير المفقودين ومن أخفاهم؟

تحقيق- سارة العريفي
عند اختفائه، كان الشاب السوداني أحمد محمد محمود حديث الزواج قد وضعت امرأته مولوداً لم يقيّض له أن يرى أباه، بقي الحزن يلف العائلة التي لا تعرف إن كان حيا أو ميتا، والأم الموجوعة لغيابه، لا تزال تنتظر عودته في أي لحظة، كما يقول شقيقه علي.

انقطعت أخبار أحمد أثناء أحداث فض اعتصام القيادة العامة بالخرطوم في الثالث من يونيو/حزيران 2019، والذي أنهى نحو ثلاثة أشهر من اعتصام ملايين المواطنين المطالبين برحيل نظام عمر البشير.

المفقود أحمد محمد محمود

بعد مرور عام على ما بات يُعرف بمجزرة القيادة العامة وتغير المشهد السياسي، ما زالت عشرات الأسر تنتظر ظهور أبنائها ممن شاركوا في الاعتصام واختفوا بعد يوم المجزرة، في حين هدأت نفوس الأسر التي عثرت على جثث أبنائها بعد أيام من اختفائهم، لكنها تنتظر القصاص العادل لهم.

“الجزيرة نت” حاولت استطلاع هذا الملف وملابساته ومتغيراته، وأجرت مقابلات مع أهالي وأصدقاء بعض المفقودين، رصدت من خلاله معاناتهم في البحث عن أبنائهم في المستشفيات وأقسام الشرطة والسجون وحتى داخل ثلاجات الموتى. كما التقت مع النائب العام في السودان وأيضا رئيس وبعض أعضاء لجنة التحقيق وتقصي الحقائق في قضية المفقودين للوقوف على آخر المستجدات في هذا الملف المهم.

احتجاز قسري واختفاء

بعد أيام من فض الاعتصام أفرجت سلطات المجلس العسكري الانتقالي عن مجموعة من المعتصمين تم احتجازهم قسرياً في أماكن سرية بعد أن اعتقلتهم قوات ترتدي أزياء عسكرية يعتقد أنها نفسها التي شاركت في فض الاعتصام، في إطار حملة عنيفة صاحبتها انتهاكات أمنية وحقوقية واسعة.

مصدر من إحدى لجان المقاومة وعرفت باسم “لجنة الميدان المركزية” قال للجزيرة نت إن متابعتهم للموضوع كشفت أن المفقودين في الأشهر الأولى لفض الاعتصام توزعوا بين معتقلات تتبع لجهاز الأمن وأخرى تابعة لقوات الدعم السريع، في حين زج بالبعض في زنازين الشرطة ولم يستمر اعتقالهم طويلاً.

تسرد “منال” للمرة الأولى ما حدث معها فتقول للجزيرة نت “كنت نائمة داخل خيمة بميدان الاعتصام وصحوت على أصوات الرصاص خارج الخيمة قبل أن يقتحمها أفراد يرتدون زي الدعم السريع وينهالوا على النساء الموجودات داخلها بالسباب ويقتادوهن في سيارات إلى جهة مجهولة”.

وصلت قافلة السيارات إلى مكاتب موزعة على طابقين تتبع لجهاز الأمن -حسبما عرفت منال لاحقاً- كان معها تسع نساء، ست منهن يعملن في بيع الشاي والأطعمة في ميدان الاعتصام وثلاث من الناشطات، وبين حين وآخر تصل عربة محملة بالشباب “احتجزنا في مكتب كبير وقضينا ليلتنا مستلقين على الأرض بعد أن أحضروا لنا وجبة فول للعشاء”.

بحثت أسرة منال عن ابنتهم في المستشفيات والمشارح وأقسام الشرطة، وعند ضفاف النيل، دون العثور عليها. بعد 12 يوماً أُطلق سراحها ومن معها دون أن يحقق معهم أو توجه لهم تهمة. تصف منال مشهد إطلاق سراح المجموعة قائلة “صعدنا إلى سيارات بوكس قبل الفجر، طلبوا منا خفض رؤوسنا، بعد ساعة أمرونا بالنزول ووجدنا أنفسنا في منطقة غرب أمدرمان”.

لم يكن حظ العشرات من المعتقلين مثل منال ومجموعتها، بقي الكثيرون قيد الاختفاء حتى الآن، في حين لفظ النيل جثث بعضهم، ووجد آخرون في المشارح وقد قتلوا في ظروف غامضة، ودفن بعضهم  كمجرد أرقام.

لجان بلا تقارير

بعد عودة خدمة الإنترنت في 9 يوليو/تموز، والتي كانت قد انقطعت مباشرة بعد فض الاعتصام في 3 يونيو/حزيران، نشطت مجموعات ومبادرات تطوعية على صفحات التواصل الاجتماعي تهدف إلى العثور على المفقودين عبر نشر صورهم ومعلوماتهم، لكن هذه المبادرات كانت غير رسمية وفشلت في التواصل مع الجهات الحكومية بطريقة مباشرة.

وظهرت مجموعات من المحامين وناشطي حقوق الإنسان مارست الضغط على الجهات العدلية للإسراع  في تكوين لجنة تحقيق رسمية تميط اللثام عن أماكن المفقودين.

بعد ثلاثة أشهر من مجزرة القيادة العامة، وتحديدا في 23 سبتمبر/ أيلول، شكل النائب العام المكلف وقتها “عبد الله أحمد عبد الله” لجنة تحقيق وتقصي حقائق حول مفقودي الاعتصام على أن ترفع اللجنة تقريرها النهائي بعد شهرين من بداية عملها. ثم أعيد تشكيل اللجنة بعد إضافة أعضاء آخرين في مطلع أكتوبر/تشرين الأول.

بعد الإعلان عن عضوية اللجنة الأخيرة وقبل أن تبدأ عملها، تم الاعتراض عليها لخلوها من ممثلين لأسر الشهداء والمحامين ومنظمات المجتمع المدني المهتمة بقضايا المخفيين قسراً.

وبعد شد وجذب وخلافات حول عضوية اللجنة، أصدر النائب العام الجديد “تاج السر الحبر” قرارا في 13 نوفمبر/تشرين الثاني 2019 بإعادة هيكلة اللجنة، لتضم 14 عضواً يرأسهم المحامي الطيب العباسي مع إضافة ممثلين من مبادرة “مفقود” وممثل لأسر المفقودين.

كان من المفترض أن ترفع اللجنة الجديدة تقريرها النهائي بعد ثلاثة أشهر من تكوينها، لكنها ظلت هذه الخطوة مؤجلة حتى الآن -لأسباب مختلفة- بعد مضي نحو سبعة أشهر من تكوينها. إذن متى الإعلان عن التقرير النهائي للجنة؟

طرحنا هذا السؤال على المحامي “عثمان البصري” عضو اللجنة ومحامي أسر المفقودين، كان الرد بعدم وجود إطار زمني محدد مع التأكيد بأن التحقيق يسير “بصورة جيدة جداُ” بحسب وصفه.

ويؤكد البصري أن اللجنة توصلت “لحقائق لا يمكن الإفصاح عنها حاليا وأنها تواصل عملها في التحقيق والتقصي وتوجد العديد من المستشفيات من المعتقلات والبيوت السرية لم تصل إليها بعد”.

ويضيف أن النائب العام دائماً يردد في لقاءاته أن اللجنة هي لجنة استحقاق دولي وبالتالي يجب أن تكون مستمرة، وهذا يعني بالطبع أن التمديد قد يكون مستمرًا وبدون سقف زمني محدد، بحسب تعبيره.

وعن العوائق التي تواجهها اللجنة يقول البصري إن “مهنية الشرطة من أكبر العوائق” فآلية عملها في متابعة بلاغات المفقودين “تشوبها العديد من النواقص، وتوجد فوضى وعشوائية في التعامل مع هذه القضية الحساسة، هذه الفوضى خلقها النظام السابق”.

ويوضح أن بلاغات المفقودين “تدون إلى الآن تحت المادة “44” اختفاء في ظروف غامضة، بلا شك، الدولة تحتاج الآن إلى شرطة متمرسة وفرق بحث متخصصة ونظام متقدم”.

استطلعنا آراء محامين وناشطين في حقوق الإنسان عن توقعاتهم لنتائج اللجنة، ويؤكد معظمهم على أن هذه اللجنة لن تصل إلى نتائج مقنعة عن المتورطين في إخفاء المفقودين قسراً، ويرون أن الحل في تكوين لجنة تحقيق دولية ذات صلاحيات واسعة لديها القدرة على الوصول إلى المسؤول عن الغياب القسري للمفقودين دون أي تأثيرات سياسية.

مبادرات متعددة وأرقام متضاربة

تعددت المبادرات واللجان الساعية للعثور على المفقودين، واختلفت في حصر أعدادهم. فتجمع المهنيين السودانيين أصدر بيانا صدر في 20 يوليو/تموز 2019 عن اختفاء مئات الأشخاص قسرياً بعد المجزرة، وأطلق حملة للبحث عنهم، لكنه لم يحدد عدد المفقودين.

وفي أغسطس/آب كشف التجمع عن العثور على 40 منهم. أما مبادرة “مفقود” وهي إحدى المبادرات الطوعية التي قامت بعد فض الاعتصام، فقد أعلنت في ذات التوقيت عن ظهور 45 مفقوداً، ولا يزال 22 آخرون مجهولي المصير اختفوا قبل وبعد فض الاعتصام بحسبها.

وعن سبب هذا التضارب في أعداد المفقودين يرى عثمان البصري عضو لجنة المفقودين والمحامي المكلف من أسرهم أنه من الصعوبة حصر أعدادهم لأسباب مختلفة، أهمها أن بعض الأسر لم تدون بلاغات فقدان، والبعض الآخر يسكن القرى الطرفية بمختلف مدن السودان، وهؤلاء تحديداً درج أبناؤهم على الابتعاد عنهم لشهور.

ويضيف البصري بأن ميدان الاعتصام كان نموذجا مصغرا من السودان ضم عدداً كبيراً من المواكب التي أتت من الولايات المختلفة للمشاركة في ذلك الحدث، موضحا أن لجنة المفقودين لا تزال تتلقى بلاغات الفقدان رغم مرور عام على فض الاعتصام.

الأهالي.. رحلة المعاناة

بدأت معاناة أسر المفقودين لحظة سماعهم بفض الاعتصام، ومنها بدؤوا رحلة البحث عنهم بكل الطرق الممكنة، وعلى الرغم من تدوين بلاغات الاختفاء في محاضر الشرطة واتباع كل الإجراءات القانونية إلا أن الجهات المسؤولة لم تتحرك خطوة في البحث عنهم أو الرجوع لأهاليهم للسؤال عن أي جديد يتعلق بهذه البلاغات المفتوحة.

“الجزيرة نت” تابعت معاناة أسرة المفقود أحمد محمد في البحث عنه، مباشرة بعد فض الاعتصام حيث باشرت بالاتصال به عبر هاتفه لكن دون جدوى، فالهاتف ظل مغلقاً إلى الآن. لم تستسلم الأسرة، وقادها بحثها إلى جميع السجون والمستشفيات والمشارح في العاصمة المثلثة دون فائدة.

أجرينا اتصالاً مع “علي” شقيق المفقود أحمد فأبلغنا أنه داخل حافلة في طريقه إلى العاصمة الخرطوم بعد زيارة لمدينة “سنجة” حيث تلقت الأسرة مكالمة تفيد أن أحمد موجود في سجن المدينة، لكن لم يعثر عليه هناك.

ويؤكد علي أن شقيقه المفقود لا ينتمي إلى أي جهة سياسية وأنه “مواطن عادي شارك في الاعتصام من باب المسؤولية تجاه وطنه، وكان يساعد في توزيع الطعام للصائمين وقت الإفطار كجزء من مهامه في الميدان.”

يضيف علي أنه بعد أن هدأت الشوارع توجهوا لقسم الشرطة للتبليغ عن فقدان أحمد، لكن الشرطة لم تتجاوب، كما أنهم لم يتمكنوا من استصدار نشرة المفقود إلا بعد تدخل لجنة التحقيق.

المفقود إسماعيل التجاني الياس وصل إلى الخرطوم في بداية شهر أبريل/نيسان 2019 قادما من الولايات المتحدة حيث كان يدرس في جامعة ميريلاند قسم علم النفس الجنائي وشارك في الاعتصام أمام القيادة العامة للقوات المسلحة وفُقِد بعد ثلاثة أيام من فض الاعتصام.

طافت أسرته كل الأماكن التي توقعت أن تجده فيها وبحثت في المستشفيات والمشارح والسجون ومعتقلات جهاز الأمن المعروفة ولم تقع على أثر عليه. وما زالت والدته السيدة سمية عثمان ابن عوف تواصل بحثها  يحدوها الأمل في معرفة مصيره ومصير بقية المفقودين، مؤكدة في حديثها للجزيرة نت أن العدالة الإنصاف وتحقيق أهداف الثورة السودانية تقوم على حسم هذا الملف.

النيل يفضح المجزرة

عناصر من الشرطة يبحثون عن جثث في نهر النيل (الجزيرة)

في الخامس من يونيو/حزيران 2019 (أي بعد يومين من فض الاعتصام) كانت لجنة أطباء السودان المركزية قد أعلنت انتشال 40 جثة من نهر النيل، وتزامن إعلانهم مع انتشار فيديو في مواقع التواصل يقول مصوره إنه لمجموعة ترتدي زي قوات الدعم السريع يلقون بجثث في النيل.

ويظهر في الفيديو الذي تم تصويره صباح الثالث من يونيو/حزيران أحد جسور الخرطوم من مسافة بعيدة في الوقت الذي يقول مصوره إن قوات الدعم السريع تلقي بأشخاص في “البحر” ويعني نهر النيل.

هذا الفيديو المصور مع إعلان لجنة الأطباء عززا من فرضية أن مجموعة كبيرة من المفقودين تم رميهم في نهر النيل بعد تقييدهم بالكتل الخرسانية، بعضهم كانوا أحياء عند تقييدهم والبعض الآخر استشهد قبل ذلك، وتم إلقاؤهم في النيل بغرض التخلص من جثثهم، وكان بينهم الشاب “قصي حمدتو”.

بقيت جثة قصي (23 عاماً) في النيل لمدة ثلاثة أيام قبل أن تدفعها المياه إلى اليابسة في الخامس من يونيو/حزيران 2019. ففي الأسبوع الأول من أكتوبر/تشرين الأول تلقّت أسرة المفقود قصي صدمة كبيرة، فقد تم العثور على ابنهم ولكن في مشرحة أمدرمان بعد حوالي أربعة أشهر من فض الاعتصام.

عاشت أم قصي طوال هذه المدة على أمل بأن ابنها الوحيد -وسط مجموعة من الشقيقات- حي يرزق وقد يكون معتقلاً في مكان ما، خاصة وأن مقطع فيديو انتشر على مواقع التواصل الاجتماعي أظهر قصي وبعض زملائه يهرولون بالقرب من مكان الاعتصام وسط أصوات الرصاص الحي.

بالتزامن مع هذا الفيديو تداول الناشطون مقطعاً يظهر سيارة شرطة تحمل جثمانين ظهرا على ضفة النيل رغم تقييدهما بقوالب إسمنتية. لم ينتبه أحد آنذاك بأن قصي كان أحدهما وأنه -في الوقت الذي تبحث عنه أسرته وأصدقاؤه- كان موجوداً في ثلاجة المشرحة، ولا يعرف عنه أحد شيئا سوى أنه صاحب الرقم المتسلسل 824.

الجثث التي عثر عليها في نهر النيل عليها آثار رصاص اخترق الصدر ونفذ من الظهر(الجزيرة)

يقول مدير مشرحة أمدرمان الدكتور جمال يوسف للجزيرة نت إنه استلم جثمان قصي في الخامس من يونيو/حزيران الساعة الثانية ظهراً بعد تحويله من قسم شرطة “الدروشاب” شمالي الخرطوم بحري، وبعد التشريح تبين أن سبب الوفاة الإصابة بطلقتي رصاص اخترقت إحداهما صدره، في حين كانت الجثة مقيدة من القدمين بقوالب أسمنتية مدهونة بألوان علم السودان القديم.

ويضيف الدكتور جمال أنه وبمعاونة مبادرة المفقودين قارنوا بين ملابس قصي التي كان يرتديها آخر مرة شُوهد فيها يوم المجزرة مع الملابس التي كانت على الجثة، فوجدها متشابهة. تم الاتصال بأسرة قصي التي عادت لذات المشرحة التي بحثت فيها سابقًا دون جدوى، وكان من الصعوبة بمكان أن تتعرّف عليه بسبب التشوهات التي ظهرت على الجثة، إلا أن فحص الحمض النووي الـDNA  أظهر التطابق مع والدته.

لم يكن قصي هو المفقود الوحيد الذي عُثر عليه ميتاً في ذات اليوم وذات المكان، كان معه الشهيد “ياسر أحمد علي” في سيارة الشرطة مقيداً أيضاً بالكتل الأسمنتية، وجاوره في ثلاجة المشرحة فأصبح صاحب الرقم 825، لكنه لم يحتفظ بهذا الرقم طويلاً بعد أن أتت أسرته في اليوم التالي لاستلامه ودفنه.

أصيب أيضا الشاب العشريني ياسر يوم المجزرة بطلقة في عنقه وبعدها تم ربطه بالقوالب الإسمنتية ومن ثم التخلص من جثته في النيل. جرفه التيار هو وقصي إلى منطقة “الأزيرقاب” ومنها تم تسليمهما لاحقاً لمشرحة أمدرمان بعد تدوين بلاغ في نيابة مدينة “الدروشاب” تحت المادة 51 من القانون الجنائي السوداني المتعلقة بالموت في ظروف غامضة.

لاحقا في المشرحة، وجدوا شريحة هاتف وأرقاما مدونة على ورقة في جيب بنطاله استدلوا بها على عائلته عبر هاتف أحد أصدقائه ممن عرفهم في ميدان الاعتصام، فتعرف عليه هو لاحقا في المشرحة، وبادر بما لم تفعله الشرطة وأبلغ أسرته بالنبأ الحزين بعد أن وجد أرقامهم بالشريحة.

خياران للموت

ما تبقى من خيام الاعتصام بعد لحظات من فضه (الأوروبية)

يتشابه المفقود بدر الدين رابح محمد علي، مع قصي وياسر في مكان الموت ويختلف عنهما في طريقته. كان يهرول مع صديقه للخروج من منطقة الاعتصام، عند وصولهما لجسر النيل الأزرق، اعترضت طريقهما مجموعة ترتدي زي قوات الدعم السريع خيرتهما الدورية في طريقة للموت، إما رمياً بالرصاص أو القفز من الجسر إلى النيل، أصبحا أمام خيارين أحلاهما مُر، ففضلا الخيار الثاني.

نجا رفيق بدر الدين لمعرفته السباحة على عكس الشهيد الذي ابتلعه النيل، لاحقاً طفت جثته على ضفاف النيل بالقرب من جزيرة توتي، وحمل أهالي المنطقة الجثمان إلى مشرحة أمدرمان لينضم لبقية الشهداء الموجودين هناك.

يقول دكتور جمال يوسف إن جثمان بدر الدين لم يحمل أي إصابات وهيئته لا تحمل أي علامة تدل على وقوع حادث بل على العكس، فقد كان في كامل هندامه وأظهر التشريح أن سبب الوفاة هو “الغرق”.

بعد يومين من العثور على الجثة أتى صديقه الذي كان برفقته في الاعتصام وفي القفز إلى النيل باحثاً عنه ووجده في ثلاجة الموتى. لم يكن بدر الدين الوحيد الذي اضطر للقفز، فبحسب إفادات من الموجودين يوم فض الاعتصام فإن مجموعة كبيرة منهم لم يجدوا مخرجا بعد أن طوقتهم القوات المهاجمة سوى القفز في النيل أملاً في النجاة، نجا بعضهم وقضى البقية غرقا.

متاهة المشارح

مشارح الخرطوم استقبلت جثثا كثيرة بعد فض الاعتصام  عليها آثار تعذيب (الجزيرة)
مشارح الخرطوم استقبلت جثثا كثيرة بعد فض الاعتصام  عليها آثار تعذيب (الجزيرة)

بعد مجزرة القيادة تكدست المشارح بالجثث بما لا يفوق طاقتها الاستيعابية، بعض الثلاجات كانت توجد فيها جثتان تتشاركان” هكذا وصف شاهد عيان حال المشارح، ففي يوم فض الاعتصام استقبلت مشرحة أمدرمان لوحدها 17 جثة بينها 14 من منطقة الاعتصام.

توجهنا بالسؤال لعضو لجنة التقصي عن المفقودين عثمان البصري: لماذا التأخير في البحث عن جثامين المفقودين؟ وهل هذا يعني تقصيراً في عمل اللجنة؟ لأنه من البديهيات أن تكون المشرحة من الأماكن المتوقع البحث فيها عن المفقودين. تردد البصري قبل الإجابة ثم قال بحسم “زرنا جميع المشارح وقتها وتفاصيل ما حدث هناك سيظهر في تقرير اللجنة” واكتفي بهذا.

التقينا مدير مشرحة أمدرمان جمال يوسف وسألناه: لماذا التأخير في التعرف على الجثث؟ كانت إجابته بأن هذا ليس من ضمن مهامه بل من مهام الشرطة وأن عمله ينحصر في تشريح الجثة وتحديد سبب الوفاة مع مطابقة عينات الـDNA  إن وجدت.

ويضيف أن “كل المتعلقات التي تأتي مع الجثة تحتفظ بها الأدلة الجنائية بعد تصوير الميت ورفع بصماته، وشهريا نقدم تقريرا للنيابة بحال الجثث وقد نطلب تصديقاً بدفن بعضها في مقابر مخصصة بحسب مقاييس معينة متفق عليها”.

كان هذا ما فعله أيضا مدير مشرحة “بشائر” بالخرطوم وقتها الطبيب الشرعي عقيل سوار الذهب، حيث صدق في 5 أكتوبر/تشرين الأول بدفنِ ثلاثة جثامين مجهولة الهويّة بعد أن تغيّرت معالمها وبعد احتفاظه بنتائج حمض الـDNA، مما دعا مدير هيئة الطب العدلي هشام زين العابدين إلى إقالته من منصبه بحجة دفن جثامين مجهولة في ظل وجود مفقودين تبحث عنهم أسرهم.

والتقت الجزيرة نت الطبيب سوار الذهب الذي دافع عن نفسه قائلاً “قرار إقالتي باطل لأنني اتبعت الإجراءات القانونية وحصلت على إذن مسبق من النيابة بالدفن”.وجهنا له سؤالاً متداولاً بين أسر المفقودين “لماذا لم يتصل بهم قبل الدفن لأخذ عينة من حمضهم النووي” فردّ بأن الفرصة لا تزال قائمة لتتأكد أي أسرة إنْ كانت أيّ من الجثث تخص مفقوديهم، لأنه تمّ الاحتفاظ بالصور وبتفاصيل الحمض النووي.

رصد الأدلة الجنائية

تكشف إدارة المباحث للجزيرة نت رصدها لعدد الجثث التي عُثر عليها منذ مطلع يونيو/حزيران 2019 وحتى الثلاثين منه، وهي 97 جثة، 28 منها مجهولة الهوية.

ويشير مدير الأدّلة الجنائية حيدر سيد أحمد في حديثه إلى العثور على 9 جثث “غرقى” منها 5 مجهولة الهوية، وعلى 45 جثة ليس بها آثار جنائية منها 19 مجهولة، كما تم العثور على 36 جثة قُتلت بالسلاح الأبيض منها 4 مجهولة، وكذلك 7 جثث قُتلت بعيار ناري منها واحدة مجهولة”.

ويوضح المسؤول أن الجثث مجهولة الهوية تتبع جميعها لأحداث فضّ الاعتصام وأنه تم العثور عليها في ذات الشهر، ويعتبر أن الأعداد التي ذكرتها بعض المبادرات والمنظمات الطوعية حول مئات المفقودين “عارية عن الصحة، وتحمل تضخيمًا واضحًا”.

تائهون وفاقدو ذاكرة

بعد أيام من فض الاعتصام تشكلت عدة مبادرات شبابية ضمت مختصين في تقديم الدعم النفسي لأسر المفقودين ولاحقا لمساعدة العائدين من الاختفاء القسري بهدف تجاوز الآثار النفسية السالبة جراء الأحداث العنيفة التي شهدوها لحظات فض الاعتصام وما لاقوه من معاملة أثناء فترة احتجازهم أو اختفائهم في أماكن عشوائية لجأوا إليها بعد الحادثة.

ومن بين المتطوعات في هذه المبادرات المعالجة النفسانية إيناس عبد الهادي التي كشفت في حديث للجزيرة نت عن حجم معاناة المعتقلين النفسية جراء ما تعرضوا له أثناء اعتقالهم وكذلك عائلاتهم.

بعد أسابيع من مجزرة فض الاعتصام، راجت في وسائل التواصل الاجتماعي أخبار عن عودة بعض مفقودي اعتصام القيادة إلى أسرهم وهم في حالة نفسية وبدنية سيئة وبعضهم فاقد للذاكرة، وصاحبت هذه الأخبار فيديوهات تُظهِر أشخاصاً يبدو عليهم الاضطراب والذهول ويرددون هتافات الاعتصام.

عادت “آمال لاغوس”بعد ثلاثة أشهر من فض الاعتصام،  إلى أسرتها فاقدة للذاكرة بعد أن وجدها أطفال الحي الذي تسكنه في حالة يرثى لها. لا أحد يعلم ما الذي حدث لها وما الذي جرى معها أثناء غيابها، ولم تستطع آمال التعرف على أبنائها، فتم تحويلها إلى العلاج النفسي وما زالت تحت إشراف الأطباء هناك حتى الآن.

تبلغ آمال 29 عاماً، وهي أم لثلاثة أطفال أصغرهم كان يبلغ من العمر سنة وثمانية أشهر عند اختفاء والدته التي كانت تعد الشاي وتبيعه للمعتصمين وتبقى لساعات متأخرة في منطقة الاعتصام لتختفي وتنقطع أخبارها إثر فضه. وتقول الناشطة الاجتماعية جليلة خميس إن أسرة آمال فقدت الأمل في العثور عليها بعد زيارة جميع المستشفيات والمشارح والسجون، قبل أن تظهر بلا ذاكرة.

وكشف عضو لجنة الأطباء المركزية د. محمد صلاح الفحل (أحد الأطباء النفسيين الذين باشروا تقييم الحالات النفسية لمفقودي القيادة) أنه وقف على ثلاث حالات لمفقودين عادوا في حالة غير مستقرة لا يعرفون من هم وأين كانوا. ويشير إلى حالتين لمفقودي القيادة في الثالث من يونيو/جزيران، أصيبا خلالها باضطراباتٍ نفسية متفاوتة. وصنف أحدهما بأنه مصاب بـ “اضطراب الذهان الحاد” وهو عادةً يصيب الشخص الذي تعرض للتعذيب، وفق تعبيره.

أين المفقودون؟.. سؤال برسم العدالة

أهالي ضحايا فض اعتصام القيادة العامة أثناء تجمع احتجاجي طلبا للحقيقة (الجزيرة)

ما توصلنا إليه من خلال تحقيقنا في هذا الملف أن الإجابة عن هذا السؤال بكل بساطة: لا أحد من أسر الأفراد الذين ما زالوا مفقودين حتى الآن يعلم مكانهم بمن في ذلك اللجان المكلفة من الدولة.

ووفق التقييم الذين يقوم على ما هو متوافر حتى الآن من معطيات فإن الفرضيات القائمة حول وضع المفقودين تشير إلى ما يلي:

– أنهم قتلوا أثناء فض الاعتصام وتم تحويل جثثهم إلى المشارح، والقليل منهم تم التعرف عليهم من خلال مقتنياتهم أو عبر تحليل البصمة الوراثية DNA. أما بقية الجثث في المشارح فكان من الصعب التعرف عليها عبر هذا التحليل، ولصعوبة الاحتفاظ بهم لتشوه الجثث وتكدسها ولعدم وجود العدد الكافي من ثلاجات الموتى لاستيعابهم، دفنوا في مقابر خصصت لهذه الحالات دون التعرف عليهم.

– أنهم قُتلوا أثناء فض الاعتصام بواسطة القوات الأمنية وتم التخلص من جثثهم في النيل أو دفنهم في مقابر جماعية بأماكن مجهولة، وما يعزز هذه الفرضية الحالة التي وجدت عليها جثتا قصي وياسر، كذلك ظهور شهود عيان تحدثوا عن وجود مقابر جماعية غربي مدينة أمدرمان.

–  أن بعض المعتصمين تعرضوا لتعذيب وضغوط نفسية حادة بعد مشاهدتهم لعمليات القتل الجماعية والانتهاكات الجسيمة التي حدثت هناك من سحل وترويع فأصبحوا هائمين على وجوههم في الشوارع ولا يعرف لهم مكان.

– أنهم اعتقلوا أثناء فض الاعتصام وتم ترحيلهم إلى معتقلات وأماكن سرية، وهذا يعني أنهم لا يزالوا قيد الاحتجاز القسري.
وقد تكون جميع هذه الاحتمالات قد حصلت معا.

بعد مضي عام كامل على فض الاعتصام لا يزال أهالي المفقودين ينتظرون معرفة مصير أبنائهم الغائبين وما إذا كانوا أحياء فيرجون عودتهم أو أمواتا فينعونهم. في حين يترقب الرأي العام في السودان نتائج لجنة التحقيق لمعرفة الجهة أو الجهات التي قامت باحتجاز وإخفاء هؤلاء الأشخاص.

ووفق التكهنات السائدة حاليا فقد توزعت الاتهامات على عدة جهات يعتقد أنها شاركت في فض الاعتصام ومنها قوات الدعم السريع وقوات الدفاع الشعبي وما يعرف بكتائب الظل والمليشيات الطلابية التي كان يشرف عليها مسؤولون في النظام السابق، بينما يُستبعد مشاركة قوات نظامية في عمليات الإخفاء القسري.

المصدر : الجزيرة
زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..