
يحتفل العالم باليوم العالمي للبيئة 2020 والبشرية تعيش ظروفاً استثنائية بالغة التعقيد بسبب جائحة كورونا وما رافقها من كوارث ومؤشرات تدعو البشرية لإعادة حساباتها والعدول عن نظامها الاقتصادي المُدمّر لكوكب الأرض. فقد أشار علماء البيئة منذ عقود الى خطورة العلاقة غير المتوازنة مع النظام البيئي لكوكب الأرض على الصحة والأمن المائي والغذائي والبيئي للإنسانية.
ولا شك أن جائحة كرونا حدث فريد في تاريخ العالم ولم يسبق له مثيل في سرعة انتشاره عالمياً مما أوقف نشاط الإنسان الإقتصادي والإجتماعي دون حرب لأول مرة. لذلك أملت علينا آثاره السلبية والإيجابية أن نتفكر فيما سيؤول إليه حال البشرية وحال الكرة الأرضية بعد انحسار الجائحة.
في الجانب الإيجابي لكرونا، لعب انحسار النشاط الاقتصادي والاجتماعي وتوقف المصانع وحركة النقل دوراً بائناً في خفض تلوث الهواء والاحتباس الحراري بطريقة غير مسبوقة، ولعب الحجر المنزلي دوراً في تخفيف الضغط على الشواطئ والغابات والصحراء. وانخفض الطلب على الموارد الطبيعية نتيجة للركود الاقتصادي.
ولكن هناك جانب سلبي لا يستهان به يتعلق بمضاعفة استهلاك منتجات البلاستيك ذات الإستخدام الواحد للحماية من العدوى. وقد أصبح معلوماً أن نفايات البلاستيك والميكروبلاستيك اليوم من أكبر مُهدّدات الصحة والبيئة، بل إن البحار والمحيطات تستقبل سنوياً أكثر من 10 مليون طن بلاستيك، فكم ستستقبل من نفايات 2020؟
كما أن الملايين من شعوب الدول النامية قد فقدوا وظائفهم في المدن واتجهوا نحو الريف لإيجاد مصدر رزق بقطع الغابات والصيد الجائر من البر والبحر ونشاطات أخرى مدمّرة للنظم البيئية والموارد الطبيعية.
إن التدهور المستمر الذي تعانيه بيئة الكرة الأرضية ارتبط بالنشاطات البشرية المعاصرة، خاصةً النشاط الاقتصادي المتسارع الذي ظل في تصاعد منذ الثورة الصناعية في القرن الثامن عشر. ومع الانفجار السكاني والتطور التكنولوجي في الصناعة والزراعة والنقل، وتبني نمط الاستهلاك المُفرط بهدف مضاعفة الربح وتضخيم رأس المال دون وضع الإنسان في مركز التنمية، فإن التوازن البيئي للكرة الأرضية مهدّدٌ بالاختلال المتصاعد.
إن للتغير المناخي والتصحر وتآكل طبقة الأوزون وانحسار التنوع البيولوجي وتدهور الصحة العامة علاقة مباشرة بالتدهور البيئي. كما أن للكوارث الطبيعية المتمثلة في الأعاصير والفيضانات وموجات الجفاف والصقيع علاقة وطيدة بالتغير المناخي والتلوث البيئي.
ومن نافلة القول ان تدهور صحة البيئة يؤدي الى أمراض الصدر وأمراض تلوث الماء والغذاء، والى انتشار الأمراض المُعدية في المجتمع نتيجة لتكاثر الآفات الناقلة للجراثيم مثل الذباب والبعوض والصراصير والفئران.
وهناك ما لا يقل عن سبعة عشر (17) نوعاً من النُظم البيئية في ستة عشر (16) اقليماً بيولوجياً على مستوى العالم تُقدّر خدماتها التي تقدمها للإنسان بثلاثة وثلاثون (33) تريليون دولار سنوياً (حسب تقديرات 2017). إلا أن البشر صاروا يستهلكون حصتهم السنوية من الموارد الطبيعية قبل نهاية السنة بشهور، تماماً كما يفعل الموظف الذي ينفق أكثر من راتبه مستخدماً بطاقة الائتمان فيكون لديه عجز يتفاقم بفعل أرباح البنوك. وهكذا تتآكل موارده الى أن يذهب الى السجن.
فما هي إذن العلاقة بين البيئة والأوبئة والنشاط الاقتصادي؟
إن أنماط العِمران المرافقة للزيادة السكانية المتصاعدة والهجرات البشرية من الريف الى المدن وزيادة النشاط الصناعي والزراعي، كلها تؤدي الى تكدّس المدن بالسكان والاستهلاك المفرط للموارد الطبيعية. هذا بدوره يؤدي الى تقلص مساحات الغابات، وزيادة التصحر، وتآكل التنوّع البيولوجي مع تراجع قدرة الطبيعة على تجديد ذاتها وعطاء مواردها، وتقل أعداد الكائنات المفيدة للإنسان في الزراعة والصناعة والصحة. وهذا يؤدي الى اختلال التوازن البيئي.
وبغض النظر عن الجدل حول أصل فيروس كورونا ومصدر انطلاقه، هناك الكثير من الأسئلة العلمية حول انتشار الفيروس ودورات تكاثره وتبدلات تركيبته وتنقله بين الحيوانات والبشر؟ إذ من المعروف علمياً أن هناك فيروسات كثيرة في الحيوانات لا تنتقل إلى البشر نتيجة لما يسمى ب “الحاجز بين الأنواع” Inter Species Barrier. والحيوان الذي يتطور فيه الفيروس يسمى ب”الخزان الحيواني” Animal Reservoir. وبما أن فيروس كورونا موجود من قبل وتسبب في وباء السارس ووباء الميرس، فالراجح أنه تطور وتغيرت تركيبته داخل الحيوانات، مع قدرته على الانتقال إلى البشر الذين تغولوا على الأماكن الطبيعية لتواجد هذه الحيوانات فانتقل إليهم الفيروس. ولأنه فيروس جديد، لم تتعرف عليه أجهزة المناعة البشرية مما ساعده للتكاثر والانتشار السريع مسبباً هذا المرض. ولهذا سمي بالمستجد.
وهناك سوابق شاهدةً على انتشار الأوبئة نتيجة لتدخل البشر في الطبيعة، فالإيدز انتقل من بعض القِردة الى البشر، بفعل التوغل المتزايد للبشر وأنشطتهم في الغابات للصيد وقطع الأشجار أو للوصول إلى أنواع نباتية وحيوانية معينة.
وانتشار فيروس الحُمّى النزفية القاتل “إيبولا” في أفريقيا قبل أعوام أيضاً كان للتدخل السلبي في الغابات، والاخلال بنظام مستقر لعيش الحيوانات والطيور، خصوصاً الخفافيش. وقد أوصل وباء الايبولا دولاً أفريقية كثيرة إلى حافة الانهيار الكامل بعد أن قضى على أعداد كبيرة من البشر.
كما أن وباء “جنون البقر” كان نتيجة لتدخل الإنسان في الغذاء الطبيعي للأبقار المُدجّنة ومحصورة في مساحات ضيقة، إذ تمت تغذيتها بأعلاف ممزوجة ببقايا العظام المطحونة طمعاً في نموها السريع مما أدى إلى موجة “جنون البقر”. ولم ينحسر وباء جنون البقر الا بعد إيقاف تلك الطريقة الخاطئة في تربية المواشي. وربما حدث أمر مماثل أدى الى وباء “الحُمّى القِلاعية” أيضاً.
أما في جائحة “كورونا المستجد”، فقد اتجهت اصابع الإتهام صوب الحيوانات الأليفة بأنها تستكمل دورات تكاثر الفيروس وتنقله بين عوالم الإنسان والحيوان. وآخرون اتهموا آكل النمل الحُرشُفي والخفافيش وربما بعض أنواع القطط البرّية التي أفرط الصينيون في صيدها واستهلاكها.
وعليه، فإن زحف الإنسان على الطبيعية وتوغله في المنظومة البيئية يقربه أكثر من حيوانات حاملة لفيروسات وأمراض أخرى جديدة عليه وليس له مناعة لمقاومتها.
وكذلك لا بد من التنويه الى أمر خطير آخر، إذ كشفت دراسات علمية أن هناك فيروسات كامنة في طبقات الجليد منذ آلاف السنين وإذا ذاب الجليد نتيجة الاحتباس الحراري فإنها ستنطلق وربما تصيب البشر بأمراض أخطر من كرونا والسارس والإيبولا لأن الجهاز المناعي للبشر لن يتعرف عليها. كما أن ذوبان الجليد يطلق غاز الميثان الكامن، وهو من غازات الصوبة التي تسبب أضعاف ما يسببه غاز ثاني أوكسيد الكربون من احتباس حراري، فيذوب المزيد من الجليد وتنطلق المزيد من الفيروسات والمزيد من غاز الميثان .. وهكذا دواليك.
فلنعتبر إذن جائحة كورونا رسالة تنبّه البشرية لاتخاذ قراراتٍ حكيمةٍ وفاعلة لإحداث تغيير جذري في سياساتها لصالح الأمن البيئي لكوكب الأرض. ويجب أن نعتبر الانتشار العالمي لوباء كرونا المستجد جرس الإنذار الداعي لإعادة التفكير في نمط الاستهلاك المنفلت ومحاولات الربح الفاحش التي تُطيح بالنظام الطبيعي وموارده، وتنعكس على حياة الإنسان كوارثاً ومآسي لا تبقي ولا تذر. فهل ستؤمّن التدابير الاقتصادية الجديدة التوازن بين حاجات البشر واستدامة الموارد؟ وما هي النتائج المتوقعة على المدى البعيد؟
وبالرغم من أن البيئة ليست أولوية في جدول الأعمال الآن لأن الأولوية لعلاج كورونا والخروج من المأزق الاقتصادي، إلا أن الحل بعيد المدى لا بد أن يكون متكاملاً يجمع بين الاعتبارات البيئية والاقتصادية والاجتماعية والصحية.
فليذهب التمويل إلى كفاءة استهلاك الطاقة والطاقة المتجددة وأساليب الإنتاج الأنظف والبحث العلمي والزراعة ذات الكفاءة والحفاظ على الموارد الطبيعية والتنوع البيولوجي.
كما يجب أن تكون الأولوية في النمط الاقتصادي والتنمية للإنسان نفسه وحياته وصحته ووعيه وتقدمه النوعي قبل التفكير في أرقام استهلاك السلع ورأس المال والأرباح.
نسأل الله تعالى أن يرفع الوباء عن البشرية جمعاء ويخرجنا منه الى عالم جديد تُظلّله الحرية والعدالة والمحبة والسلام بين شعوب العالم.
د. عيسى محمد عبد اللطيف
مستشار العناية بالبيئة واستدامة التنمية
[email protected]
5 يونيو 2020