مقالات سياسية

احترام المسافر السوداني يبدأ من الداخل

احمد قسم الباري

فلاش باك:

إذا كنت محترماً في بلدك في المقام الأول فسو يحترمك ويقدرك الآخر، و إذا كان لديك نظاماً (سيستم) محترماً فسوف يحترمك الآخر أيضاً، أما إذا لم تجد الاحترام في بلدك وكانت كل أنظمة بلدك تسير بالبركة فلن يأبه بك أحد وسوف تلقى الإهمال وعدم الاكتراث لأنك قادم من بيئة لا تحترم آدمية الإنسان بيئة لا يوجد بها عمل مؤسسي تسير بالبركة ودعاء الوالدين. لذا أنني أرى أن مسؤولية المسافر السوداني تأتي في الدرجة الثانية بعد جودة الأنظمة السودانية، فهو ليس مسؤولاُ بالكامل عن عدم الاحترام والازدراء والاحتقار الذي يلاقيه.

مطار الخرطوم في يوم رحلتي:

هرج ومرج وتزاحم على الكاونتر، عمال يرتدون زياً رمادياً قميئاً يعرضون عليك توصيل أغراضك إلى الميزان مستخدمين عربات ترولي أكل عليها الدهر وشرب. معظم العمال تخطوا العقد الخامس من العمر ووخطهم الشيب وحفرت المآسي والاحباطات المتكررة والتقادم اخاديد عميقة على وجهوهم، فكانوا عبارة عن جلود سوداء بلا روح أو دما تجري فيها. أوقف العامل عربة الترولي على الطابور ثم نقدته بما تبقي لي من عملة سودانية حيث ألقى عليها نظرة سريعة وهمهم بكلمات شبه غاضبة مفادها هذا المبلغ بسيط و (نحنا اثنين)، أي أنه سوف يقتسم هذا المبلغ مع شخص آخر. كان كل وردية الكاونتر في ذلك اليوم من الفتيات. لاحظت أنهن يتلفتن كثيراً ويرمقن الشباب الوسيمين مما يفقدهن التركيز والسيطرة والدقة في العمل. طلبت مني موظفة الكاونتر تعبئة كوبون من ثلاث صور. قمت بتعبئة الكوبون ثم أخذت دوري في الطابور. توقفت الموظفة فجأة لأنها اكتشفت أن تأشيرة الشخص الذي أمامها قد انتهت أصلاُ أو سوف تنتهي في هذا اليوم لذا أخذت في حساب التقويم الهجري ومضاهاته بالتقويم الميلادي وهو تاريخ انتهاء صلاحية تأشيرة الرجال الواقف أمامها. استغرقت منها عملية الحساب وقتاً طويلاً مما أثار حفيظة الرجل الذي يقف أمامي وصاح في الموظفة قائلا (إذا كنتِ لا تعرفين عبد الله بن مظعون والتاريخ الهجري وظفوك هنا ليه؟). انتهت عملية حساب التاريخ الهجري والميلادي بسلام، ثم أخذنا دورنا في الميزان والتفتيش حتى وصلنا أخيراً إلى صالة المغادرة.

صالة المغادرة:
الصالة صغيرة، ولكنها جيدة التكييف. سألت عن غرفة التدخين، أشاروا إلي أنها كائنة بالقرب من المسجد. غرفة التدخين ضيفة جداُ بها عدد من طفايات السجائر المسكرة وعدد من المقاعد والكراسي المهلهلة. لاحظت وجود عدد من الغرباء من الجنسية البنغالية كانوا يرتدون زياً موحداً أصفر اللون، فقيل لي أنهم عمال نظافة صالة المغادرة أتت بهم إحدى شركات التوظيف المحسوبة على نظام البشير. لاحظت أن هؤلاء العمال لا يؤدون أي عمل يذكر بل على العكس يكثرون من التدخين بغرفة التدخين ويبيعون بطاقات شحن الهواتف والسجائر للمسافرين بسعر مضاعف لأن السوق الحر بمطار الخرطوم ليس به سجائر بعد شراء رجل أعمال سعودي للسوق الحر وهو رجل يعتبر أن السجائر حرام. العمال من الجنسية البنغالية لم يكتفوا ببيع السجائر وبطاقات الاسكراتش بل يتحدثون ويغازلون كثيراً الفتيات السودانيات العاملات بالكافتريات الموجودة بالصالة وليسوا معنيين بالعمل اساساً، ولم اشاهد أي مراقب سوداني لتلك المجموعة من العمال يأمرهم بفعل أو ترك شيء بل على العكس كانوا يصولون ويجولون كما يحلو لهم.

الصعود إلى الطائرة:
بعد أن أقلنا البص إلى طائرة الخطوط السعودية، لاحظت أن المسافرين يقفون طابوراً طويلاُ يمتد حتى حدود البص الذي أقلنا. رفعت راسي فوجدت رجلي أمن سعوديين يقفان على باب الطائرة وأمامهما طاولة متوسط الحجم موضوعة على آخر درجة من السلم. يجب على كل راكب وضع وفتح الشنطة التي يحملها معه كإجراء أخير قبل الصعود على الطائرة. هذه العملية هي من بنات أفكار الخطوط السعودية وقد استحدثت في عهد البشير بل (ربما حتى الآن، لأنني ألقيت عصا الترحال) وهي عملية فيها تحقير للسودانيين وإذاقتهم مر الهوان والذل وعدم الاحترام. رجلا الأمن اللذان يقفان على باب الطائرة الضيق أصلاُ يكادان يسدان الباب لذا فعندما تمر خلالهما أي فتاة أو امرأة سودانية من ذوات الارداف فإنها لا محالة سوف تحتك بهما بصورة مقززة ومهينة للكرامة والزهو الوطني. عملية التفتيش تسير ببطء شديد وكان معنا ركاب كبار السن وأطفال يقفون كلهم تحت الشمس الحارقة بانتظار سيادة ونيافة رجلي الأمن اللذان يعبثان بمحتويات حقائب المسافرين قبل السماح لهما بصعود الطائرة. وكل هذا ما كان ليحدث لو كان هناك نظاماً محترماً بمطار الخرطوم عموماً وبصالاته بصفة عامة.

بعد الصعود للطائرة وفوضى أرقام المقاعد، وصعوبة وضع معظم الركاب للحقائب الضخمة التي يحملونها على أدراج الطائرة والمحاولات المضنية التي كانت تقوم بها المضيفات، استقر الوضع أخيراً وجلس كل راكب على كرسيه، وساد صمت رهيب وكأني بكل راكب قد تنهد واستجمع أنفاسه وبدأ يفكر في الرحلة وحال أهله الذين تركهم ورائه والديون المتراكمة عليه وغيرها من المشاغل الدنيوية الأخرى، بينما أخرج بعض المسافرين من الذين يعانون من فوبيا الطيران مصحفاً صغيراً وبدأوا يقرأون ما تسير من آيات الذكر الحكيم. فجأة انطلق صوت بكاء طفل شق هذا الصمت الرهيب، أخذ الطفل يصرخ ويصرخ ويصرخ ولم تجد معه كل محاولات إسكاته سبيلاُ. كان الحرج بادياً على أمه الشابة الحسناء. حاول جيران الأم إسكان الطفل فلم يفلحوا وحاولت الممرضات فلم يفلحن. أخيراً تحركت الطائرة واشتد أزيز محركاتها إيذاناُ بالإقلاع. جاءت مضيفة تحمل في يدها معطراً وبدأت في رش الطائرة لإزالة رائحة عرق المسافرين الذين ظلوا تحت الشمس في طابور التفتيش أو جراء حملهم لأوزان ثقيلة أخرجت العرق مدراراً من مساماتهم بالإضافة إلى رائحة اختلاط العرق ببقايا (الدخان)، والعطور التي تستخدمها السيدات السودانيات. علت الطائرة فوق السحاب، واعلن المضيف عن تحيات الكابتن فلان بن فلان وعن مقدار الارتفاع الذي تسير به الطائرة ودرجات الحرارة خارج الطائرة والوقت المتوقع للوصول بالإضافة طبعاً إلى شرح وعرض إجراءات السلامة المعروفة.

كنت مسافراً على ال)  (CC or the Cattle Class ، وبالطبع فإن (درجة القطيع)، هذه لا يركبها إلا سواد الناس، متجهاً
إلى الرياض بالمملكة العربية السعودية.

كان جاري بالمقعد رجل من البادية، يرتدي جلباباً ابيضاً به كثير من البقع الترابية ربما من وعثاء السفر داخل السودان حتى الوصول إلى الخرطوم. ظللنا صامتين ولم يحدث أحدنا الآخر. كنت أجحده بنظرة من حين لآخر فأجده يتمتم بكلمات ربما كانت أدعية ورجاء لله بالوصول بالسلامة. جاءت المضيفة لتوزع علينا الوجبة المعتادة. طلبت ما أرغب وطلب هو ما يرغب. لاحظت ان الرجل وضع صينية الطعام على حجره فقمت بمساعدته بفتح مسند الصواني. وبعد فترة قليلة بدا لي الرجل لم يستسغ الطعام المقدم له. وبعد أن انتهيت من الأكل عرض علي الرجل أن أتولى بأن أقوم بأكل الوجبة المقدمة له وأصر على ذلك بقوله (ها زول ها الأكل دا بنجدع ساي، والله إلا تأكلوا). كان يتحدث بلهجة نجم الكوميديا عبد الله عبد السلام (فضيل)، اخذت وقتاً طويلاُ حتى أقنعته بأنني الحمد لله شبعت ولا حاجة لي إلى مزيد من الطعام، إلا أنه ظل يردد ويهمهم أن (رميان)، هذا الأكل يمثل خسارة كبيرة وكفراً بالنعمة. أخيراً وصلنا إلى وجهتنا بينما ظل الطفل السوداني يصرخ ويصرخ، خرجنا من الطائرة، انتهينا من إجراءاتنا في و قت وجيز وابتلعنا المدينة الكبيرة في جوفها الضخم وانتهى فصل واحد من كتاب الغربة المُضنى.

احمد قسم الباري
[email protected]
زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..